أسبوعان مرا على إعلان الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي الإيراني الموقع في 2015، حتى طرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو رؤية إدارة ترامب لإمكانية صياغة جديدة للاتفاق مع إيران، بشروط انطلقت من الملف النووي لتشمل ملفات للسياسات الداخلية للنظام الإيراني.
12 شرطًا طالب بومبيو إيران بتحقيقها لإعادة التفاوض على برنامجها النووي، لكنها تحدد عمليًا خريطة طريق لتقويض النظام الإيراني، وتنقل أمريكا من سياسة احتواء إيران إلى السعي لتغيير نظامها من الداخل، فماذا تريد واشنطن من طهران؟
إستراتيجية أمريكية جديدة تجاه إيران
خلال خطابه الذي استغرق 20 دقيقة أمام مؤسسة “هيريتاج”، أملى وزير الخارجية الأمريكي جملة أوامر وُصفت بأنها “متشددة وغير واقعية وتعجيزية”، وفصَّل خططًا من سبعة محاور اتخذت من الضغط الاقتصادي سبيلاً لخنق إيران؛ للتخلي عن نهجها المتبع في المنطقة.
“لم يقِّلم الاتفاق النووي أظافر إيران بل إنها أصبحت أكثر شراسة في الشرق الأوسط”، تلك بعض سوءات الاتفاق النووي بعيون بومبيو الذي أعلن في خطابه العلني الأول منذ توليه منصبه إستراتيجية إدارة الرئيس ترامب في التعامل مع إيران، وبالنسبة لواشنطن فإن صفحة اتفاق 2015 قد طويت ومزقت، ولا مجال بتاتًا لإعادة التفاوض بشأنه.
هو إذاً نذر تصعيد جديد ليس أدل عليه أيضًا من تلويح بومبيو بعقوبات على إيران هي “الأقسي في التاريخ”، حسب قوله، لترد إيران بتحذير الولايات المتحدة من تداعيات ما وصفته بالتحركات “السلبية غير محسوبة العواقب، وتسارع طهران إلى إعلان رفض ما وصفتها بـ”الإملاءات الأمريكية” عليها.
“أيام حالكة تنتظر الاقتصاد الإيراني”، يهدد بومبيو بذلك، متوعدًا طهران بالعقوبات غير المسبوقة، فإلى تلك “العصا” فقط تحتكم واشنطن لمواجهة ما تصفه بعدوانية إيران المزعزعة لأمن العالم، وبذلك لن تكون إيران أبدًا بعد الآن مطلقة اليد للهيمنة على الشرق الأوسط، بهذا يعد وزير الخارجية الأمريكي.
ثمة تقارير تؤكدها تصريحات مسؤولين أمريكيين عن سعي إدارة ترامب لتشكيل حلف ضد إيران يضم دولاً عربية وخليجية إلى جانب “إسرائيل”
يريد بومبيو تدارك المكسب الإيراني من خروج واشنطن من الاتفاق حين ألقت طهران الكرة في ملعب أوروبا وصدرت إليها الأزمة، فيلتقط الكرة من الملعب الأوروبي ويعيدها إلى النظام الإيراني بالقول إنها مستعدة للتفاوض على اتفاق جديد موسع وأكثر صرامة.
وتعول واشنطن على حلفائها في المنطقة لردع ومواجهة النفوذ الإيراني، وثمة تقارير تؤكدها تصريحات مسؤولين أمريكيين عن سعي إدارة ترامب لتشكيل حلف ضد إيران يضم دولاً عربية وخليجية إلى جانب “إسرائيل”، وتقول واشنطن بإستراتيجيتها هذه إن الانسحاب من الاتفاق لم يكن نهاية المطاف بل بداية لعقوبات مغلظة لإكراه إيران على الدخول في مفاوضات لتعديل الاتفاق ولضبط سلوكها الإقليمي.
مطالبنا من إيران معقولة: تخلوا عن برنامجكم
لم يكن ذلك المطلب الوحيد، ففي الوقت الذي تعمل فيه الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي مع إيران على إيجاد وسيلة لاستمرار سريانه بعد الانسحاب الأمريكي منه، رهن بومبيو أي اتفاق جديد مع إيران بـ12 شرطًا تجاوز غالبيتها الشق النووي إلى البرنامج العسكري والصاروخي لطهران ونفوذها في الشرق الأوسط.
لكن “ما هي إلا أماني واشنطن”، يرد عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت على شروط بومبيو، وتقول طهران: “لا لعصا ترامب ولا لجزرة أوروبا إن تعلق الأمر باتفاق جديد يخالف اتفاق 2015”.
وفيما يتعلق بالنووي الإيراني، هدد بومبيو بالرد على الإيرانيين إذا قرروا العودة إلى البرنامج النووي، وطالب بوقف تخصيب اليورانيوم وعدم محاولة معالجة البلوتونيوم من جديد وإغلاق مفاعلها للماء الثقيل.
تعدت المطالب الأمريكية حدود ما هو نووي إلى الأوضاع الداخلية في إيران
كما طالب إيران بالإفصاح عن كامل الأبعاد العسكرية لبرنامجها النووي ومنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفاذًا مطلقًا إلى كل المحطات النووية، العسكرية منها وغير العسكرية، ووضع حد لبرنامج الصواريخ البالستية التي يمكن أن تحمل رؤوسًا نووية.
وتعدت المطالب الأمريكية حدود ما هو نووي إلى الأوضاع الداخلية في إيران، فقد أشار بومبيو إلى حق الشعب الايراني الغاضب – حسب وصفه – في الاستفادة من موارد بلاده بدل تبديدها في الإنفاق العسكري.
ولتقويض نفوذ إيران الإقليمي، اشترطت واشنطن على إيران وقف دعم المجموعات الإرهابية في الشرق الأوسط بما يشمل حزب الله اللبناني وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين وفيلق القدس في الحرس الثوري، ووقف الدعم العسكري للمليشيات الحوثية، ووضع حد لدعم طالبان ومنظمات إرهابية أخرى في أفغانستان والمنطقة والكف عن إيواء القاعدة.
كما شملت القائمة إملاءات خليجية وإسرائيلية تفرض على طهران وضع حد للتصرفات التي تهدد جيرانها، والكثير منهم حلفاء للولايات المتحدة، وذلك يشمل التهديد بتدمير “إسرائيل” والقضاء عليها وكذلك إطلاق الصواريخ على السعودية والإمارات وتهديد الملاحة والهجمات الإلكترونية.
بالإضافة إلى ذلك، إطلاق سراح مواطني الولايات المتحدة والدول الشريكة الحليفة المحتجزين بناء على تهم زائفة أو المفقودين في إيران، وكذلك احترام سيادة الحكومة العراقية والسماح بنزع سلاح الميليشيات الشيعية وتسريحها وإعادة دمجها.
وضمن المطالب الأمريكية المتبوعة بالتهديد تحدث وزير الخارجية الأمريكي عن ضرورة مغادرة القوات الإيرانية لسوريا، لترد طهران لا وألف لا، وتبرر وجودها بأنه جاء بطلب وموافقة حكومة دمشق، وتقول إنها أرسلت خبراء ومستشارين عسكريين لحماية المراقد الشيعية ودعم نظام الأسد، لكنها فعليًا خاضت معارك بل أشرف قاسم سليماني شخصيًا على بعضها وعاد بعض المقاتلين إلى إيران في توابيت.
المطلب الأمريكي الأخير بدا غير قابل للتنفيذ إيرانيًا، وبدا معه الرفض الإيراني لباقي المطالب الـ12 التي وجهها إليها بومبيو، واتهمت الولايات المتحدة بالسعي لقلب نظام الحكم فيها، وانتقد الرئيس الإيراني حسن روحاني تصريحات رأس الدبلوماسية الأمريكية، وقال إنه من غير المقبول أن تحدد أمريكا ما الذي يجب أن تفعله إيران ودول العالم.
قرأ مراقبون ومسؤولون إيرانيون رسالة واشنطن من تصعيدها الحاليّ ضد طهران، ومفادها أن أمريكا تريد إسقاط النظام الإيراني
ما وراء قائمة المطالب الأمريكية
العرض الذي قدمه وزير الخارجية بومبيو جاء متجاوزًا الاتفاق النووي، واختصر هدف بلاده من سلسلة العقوبات على طهران إلى الرغبة في أن ينتقل النظام الإيراني من القتال على جبهات عدة في الشرق الأوسط، “إلى القتال من أجل بقائه وحماية نفسه”.
وفي الجملة الأخيرة بالتحديد، قرأ مراقبون ومسؤولون إيرانيون رسالة واشنطن من تصعيدها الحاليّ ضد طهران، ومفادها أن أمريكا تريد إسقاط النظام الإيراني، وعبر مسؤول رفيع فيها (أمريكا) عن قناعتها بأن “الولايات المتحدة تسعى لتغيير النظام في إيران”، وأضاف: “أمريكا تريد الضغط على إيران للإذعان وقبول مطالبها غير المشروعة”.
ويدعم ذلك ما كشفته وزارة الخارجية الأمريكية أيضًا عن أن بومبيو، وقبل خطابه المرتقب، أجرى مشاورات مع وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وخلال خطابه، كشف معالم ما أسمته واشنطن تحالفًا دوليًا ضد النظام الإيراني ضمن إستراتيجية جديدة تهدف إلى وضع إطار يتعامل مع مجمل التهديدات الإيرانية، والتساؤل الأبرز يكمن هنا في مدى قدرة تلك الدول على مواجهة الضغوط الأمريكية السياسية منها والاقتصادية.
ولا يبدو أن طهران راضية بالخطوات الأوروبية حتى اللحظة، فالدعم السياسي الأوروبي للاتفاق النووي غير كافٍ، وقد قال ذلك وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف خلال لقائه مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الطاقة والمناخ في طهران، وأضاف أن على الاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات عملية أكبر بشأن علاقاته واستثماراته الاقتصادية مع إيران.
وغير الموقف الأوروبي، هناك أيضًا، جون بولتون صقر آخر لدود لإيران في إدارة ترامب، وقبل أسابيع من خروج واشنطن لاتفاق نووي شارك جون بولتون في تجمع للمعارضة الإيرانية بواشنطن متوعدًا بإسقاط ما أسماه نظام الملالي في إيران.
ويتفق خبراء ومحللون على أن سعي واشنطن لتغيير النظام في طهران يراهن على أن يحدث ذلك من الداخل عبر الضغط المتواصل لتقويض النفوذ الإيراني، فوفق دراسة منشورة في فصلية الإدارة العسكرية “مديريت نظامي” الإيرانية عام 2017، تزيد عدد القواعد العسكرية الأمريكية في منطقة غرب آسيا وحول إيران عن 50 قاعدة، وتتركز أساسًا في الدول الجارة لإيران من ناحيتي الشرق والجنوب.
في ظل تنامي الضغوط الأمريكية، يبقى غياب الإجماع الدولي على السياسية الأمريكية إحدى الأوراق المهمة بيد طهران اليوم
وتبدو سيناريوهات هذا السعي الأمريكي لإسقاط النظام الإيراني محددة في خيارات واشنطن وحلفائها الأقرب إلى دعم المعارضة في المناطق الحدودية التي تصنف باعتبارها رخوة أمنيًا، مثل مجاهدي خلق، أو تكثيف دعم وتسليح المعارضة الموجودة في بلوشستان وششستان على الحدود مع باكستان، إضافة إلى المعارضة الكردية على الحدود مع العراق.
كما تراهن واشنطن على تقويض النظام من الداخل من خلال الضغط الاقتصادي، إذ يقوم الرهان على أن يثمر الضغط عبر العقوبات فيؤدي إلى تآكل النظام من الداخل، كما يقوم على استمرار نزيف النظام بالعقوبات التي بدأت منذ انطلاق الثورة الإيرانية قبل نحو 40 عامًا.
وفي ظل تنامي الضغوط الأمريكية، يبقى غياب الإجماع الدولي على السياسية الأمريكية إحدى الأوراق المهمة بيد طهران اليوم؛ حيث تتمتع بعلاقات إستراتيجية غير مسبوقة مع روسيا ترجمتها الحرب في سوريا، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن ما يجمع الأوروبيون بأمريكا أكثر ما يفرقهم.