جرت الانتخابات النيابية العراقية قبل ما يقارب الأسبوعين، لتفجر لنا مفاجآت متعددة، بدءًا من العزوف الشعبي عنها وبالأخص في المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، مرورًا بسقوط شخصيات وخسارتها للانتخابات كانت تظن أنها ستعمّر على كراسيها، وفضائح مفوضية الانتخابات وما رافقها من تزوير واسع النطاق، وليس انتهاءً بالصعود المفاجئ لقائمة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وحصوله على أعلى عدد من المقاعد البرلمانية.
ورغم المفاجآت التي جاءت بها الانتخابات فإنها لم تغير شيئًا في مجمل العملية السياسية، فما زال الحكم تحت سيطرة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، وما زال الكرد يشكلون بيضة القبان لتشكيل أي حكومة، وما زال السياسيون السنة ينتظرون ما ستسفر عنه المباحثات البينية للكتل الشيعية، ثم مباحثات الكتل الشيعية – الكردية، ليأتي هو آخرًا ليأخذ ما تبقى من كعكة الحكومة.
وبسبب عدم حصول أي كتلة انتخابية على الأغلبية الكافية لتشكيل الحكومة، كما هو الحال في كل انتخابات منذ الاحتلال 2003، يجري الآن حراكًا سياسيًا لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر التي سيكون من حقها تشكيل الحكومة المقبلة، وتتصدر تلك التحركات الكتل الشيعية الـ4 الفائزة بأعلى الأصوات، وبدفع وتشجيع إيراني تارة وأمريكي تارة أخرى تُوجه تلك التحالفات بما يخدم هوى كل دولة منهما.
ولأن قائمة “سائرون” التي يدعمها التيار الصدري فازت بأعلى الأصوات، فإن حظوظها لتشكيل الحكومة المقبلة هي الأوفر، إذا ما نجحت بالتوافق مع كتل سياسية شيعية أخرى بالإضافة للكرد وبعض العرب السنَّة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السيناريو أعلاه ليس يقينًا حصوله، فقد تعودنا من الجولات الانتخابية السابقة أن حصول تكتل سياسي على أعلى الأصوات لا يعني بالضرورة قدرته على تشكيل الحكومة.
شخصية الصدر المتذبذبة التي كثيرًا ما تُوصف بأنها شخصية زئبقية، ودائمًا ما تترك نهايات الأمور سائبة دون حسمها، سواء لصالح تياره السياسي أم لصالح الشعب العراقي بشكل عام
ويعزي الكثيرون إلى أن المفاجأة التي قام بها التيار الصدري بحصوله على أعلى الأصوات الانتخابية، كان من أهم أسبابها رغبة العراقيين لاختيار تيار سياسي يقف بوجه النفوذ الإيراني، وقد انطلت الدعاية الصدرية على العراقيين بأنه يقف فعلًا ضد هذا النفوذ.
الأمر الذي جعل من القلَّة التي ذهبت للتصويت تعطي أصواتهم لكتلة الصدر الانتخابية وللعبادي أيضًا، على اعتباره ليس مقربًا بشدة من إيران، حتى بلغت نسبة العرب السنَّة المصوَّتين للعبادي أكثر من 25% من عدد المصوتين له، ظنًا منهم أن المرحلة التي سيحكم بها الصدريون متحالفًا مع العبادي، ستكون خطوة متقدمة وجريئة تجاه تحجيم النفوذ الإيراني في العراق، وخرج الناس حينما ظهرت النتائج الأولية إلى الشارع ليهتفوا (إيران بره بره بغداد تبقى حرة) تعبيرًا منهم على أنهم ينتظرون من الصدر الحد من نفوذ إيران حين يتسلم زمام الأمور في العراق.
إلا أن الأمر الأكثر أهمية هو ما يتعلق بشخصية الصدر المتذبذبة التي كثيرًا ما تُوصف بأنها شخصية زئبقية، ودائمًا ما تترك نهايات الأمور سائبة دون حسمها، سواء لصالح تياره السياسي أم لصالح الشعب العراقي بشكل عام، لذلك يجب ألا نستغرب إذا ما تخلى الصدر عن حق تشكيل الحكومة لصالح نوري المالكي أو هادي العامري، وحوّل كتلته النيابية لكتلة معارضة داخل البرلمان.
إن التردد والتذبذب عند مقتدى الصدر ليست بالحالة الجديدة، وغالبًا ما تتحول القرارات السياسية عند مقتدى الصدر من النقيض إلى النقيض وبشكل سريع، في بداية الاحتلال جعل الصدر من نفسه مقاومًا للاحتلال الأمريكي خارجًا بذلك عن إجماع المرجعيات الشيعية بعدم التصدي للاحتلال ومقاومته، لكن المطاف انتهى به لترك قتال الأمريكان والهروب لإيران، وأوعز لمقاتليه ببيع سلاحهم للأمريكان.
قاسم سليماني من أسس مليشيا الصدر المعروفة بـ”جيش المهدي”، الأمر الذي ينفيه قادة التيار الصدري تمامًا
ثم تحولت بعد ذلك مجاميع مقاتليه لتكون معولًا بيد الاحتلال يضرب بها المقاومة الشريفة التي تصدت للاحتلال بقوة، وكانت لمليشيات الصدر المسماة بجيش المهدي، الدور الأوسع نطاقًا في افتعال الحرب الطائفية التي شنتها إيران وبمساندة الاحتلال الأمريكي ضد أهل السنَّة بهدف استئصالهم من ديارهم وأراضيهم لأنهم وقفوا ضد الاحتلال.
لكن هل الصدر ضد إيران ونفوذها فعلاً؟
عندما دخل الاحتلال الأمريكي للعراق، شعرت إيران بالخوف من أن تكون الدولة التالية التي ستستهدفها الولايات المتحدة بعد العراق، لذلك تعمدت إدخال العراق بفوضى عسكرية وسياسية، هدفها من ذلك إعاقة الاحتلال الأمريكي من أن يلتفت إلى إيران أو يفكر بغزوها، وكان مقتدى الصدر إحدى تلك الشخصيات التي راهنت عليهم إيران لمشاغلة الأمريكان.
وبمساعدة من تنظيم القاعدة المرتبط بالنظام الإيراني، شن الجانبان حربًا أهلية دمرت النسيج الاجتماعي العراقي والبنية التحتية، وجعلت من العراق منطقة فوضى كبيرة دفعت الاحتلال الأمريكي لعقد تفاهمات مع الجانب الإيراني، لأن إيران من تتحكم بخيوط اللعبة في العراق، وشيئًا فشيئًا استطاعت إيران تحويل المخاطر التي كانت تخشاها من الأمريكان إلى فوائد ومكاسب استطاعت بها السيطرة على العراق، بعلم ورضى الجانب الأمريكي، وكان للصدر دور بارز في تلك السيطرة رغم ادعاءاته بأنه ضد توجهات إيران بالعراق.
وفي هذا السياق مدح مقتدى الصدر قاسم سليماني قائد مليشيا القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، بطريقة تدلل على مدى إعجابه بشخصيته وإعجابه بالنظام الذي أنتج مثل هذه الشخصية، فهو يقول: “قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني كان الرجل الأقوى في العراق، والصفة الأهم في شخصيته أنه صاحب مبدأ لقضيته وجمهوريته وحكومته ومذهبه، وقد أفنى نفسه من أجلهم”، وأضاف الصدر: “لو حصلنا على عراقيين بهذه الروح، لاستطعنا بناء العراق كما بنوا إيران سياسيًا وحكوميًا”.
الصدر في بداية الاحتلال موَّل تياره بعمليات السلب والنهب التي طالت المؤسسات الحكومية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين
يُذكر أن قاسم سليماني من أسس مليشيا الصدر المعروفة بـ”جيش المهدي”، الأمر الذي ينفيه قادة التيار الصدري تمامًا، لكن إسماعيل الوائلي أحد أهم الشخصيات في المدرسة الصدرية، أعلن أنه يملك وثائق عن دور سليماني في تأسيس جيش المهدي، وذكر أن رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني موَّل مقتدى الصدر ودعمه ودفع باتجاه بعثرة أوراق الولايات المتحدة وبريطانيا في العراق.
وقدمت إيران له ولكثير من أتباعه المأوى والأمان، واستطاع سليماني أن ينقذ الصدر أكثر من مرة، من محاولات غريمه المالكي لاعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل عبد المجيد الخوئي، كما أن الدور الذي قام به خلال قيادته لحرب طائفية وجهها ضد المكون السني بالعراق، تنفيذًا للأجندة الإيرانية التي تريد أن تُحدث تغيرًا ديمغرافيًا لصالحها.
كان الصدر وأتباعه هم يدها الضاربة قبل أن يتم تشكيل عشرات المليشيات الأخرى التي خرجت من رحم التيار الذي يقوده مقتدى الصدر، إن الدعم الإيراني المالي للصدر وتياره يتوضح جليًا حينما رفض الصدر طلبًا إيرانيًا بإرسال قواته لسوريا للدفاع عن نظام الأسد، حينها قررت إيران وقف دعمها المالي له، ليتسبب ذلك بحدوث أزمة مالية في تياره، جعله يقطع ويخفض رواتب أتباعه لمدة أكثر من 6 أشهر، وتوقف بث قناة الأضواء الفضائية التابعة له.
ومن الجدير بالذكر أن الصدر في بداية الاحتلال، قد موَّل تياره بعمليات السلب والنهب التي طالت المؤسسات الحكومية العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين، ومن بينها المصارف الحكومية، وأفتى في حينها المرجع الديني المقيم في إيران كاظم الحائري، بضرورة إعطاء خمس هذه الأموال إلى الحاكم الشرعي أو وكيله شخصيًا الذي كان حينها مقتدى الصدر.
وليس أخيرًا دفاع رئيس المكتب السياسي للتيار الصدري ضياء الأسدي عن علاقة التيار بإيران، رافضًا عقوبات أمريكا على طهران، ومنتقدًا أيضًا تدخل الوزير السعودي ثامر السبهان بالشأن العراقي، جاء ذلك في أحدث تصريح له لقناة “الميادين” الموالية لبشار الأسد، وأكد أن التيار الصدري يرى بإيران بلد جار للعراق وتربطهم مصالح تاريخية واجتماعية واقتصادية.
إذا استطاع مقتدى الصدر وتياره السياسي تشكيل حكومة بقيادتهم، فإننا مقبلون على فوضى وحماقات سياسية لا حصر لها
لكن بعد كل هذا، ما سيكون شكل العراق في ظل حكومة بقيادة الصدريين؟
هل سيكون أقل فسادًا وفق ما كان ينادون به من شعارات بمحاربة للفساد؟ علمًا أن تاريخ التيار الصدري بالحكومات السابقة لا ينبأ بذلك، فقد استلم الوزارات الخدمية لدورتين انتخابيتين، كانت من أفسد الوزرات، وانتشرت فيها منظومات فساد واسعة، لا تضاهيها مثيلاتها في باقي الوزارات التي تدار من أحزاب أخرى.
وكيف ستكون سياسة العراق الخارجية والصدر منذ الآن يعلن معاداته لدول فاعلة ولديها القدرة على قلب الأمور بالعراق رأسًا على عقب؟ فهل من الحكمة الدخول معها في صراع لصالح إيران وإدخال البلد في حروب وكالة لا قِبَل للعراقيين الدخول فيها؟
وما سيكون مصير التعايش السلمي ومصير المصالحة الوطنية كما يحلو للسياسيين تسميتها، بالوقت الذي يستلم به زمام الأمور، الطرف الأكثر دموية، وأكثر من تلطخت يداهم بدماء العراقيين؟ فماذا سيكون موقف الضحية؟ هل نتوقع منهم أن يتعاونوا مع مثل هذه الحكومة؟ وهل رجل مثل الصدر قادر على قيادة دولة وحكومة وهو الذي أسس منذ 2003 وحتى الآن 3 تنظيمات مليشياوية مسلحة، غير أسماءها ومهامها حسب الضرورة؟
إذا استطاع مقتدى الصدر وتياره السياسي تشكيل حكومة بقيادتهم، فإننا مقبلون على فوضى وحماقات سياسية لا حصر لها، ترافقها فوضى عسكرية سيدخلها مع منافسيه من باقي الأطراف السياسية الشيعية الأخرى، أو مع المليشيات “الوقحة” كما يصفها الصدر، وسيدخل العراق دوامة جديدة ربما لا يخرج منها قريبًا.