مما لا يخفى على أحد أن العلاقات الألمانية التركية مميزة ان كان ذلك سلبا أو ايجابا، وهي ممتدة عبر التاريخ أبرزها كان في التحالف العثماني الألماني، الى قضية الحاضر الرئيسية وهي الجالية التركية الأكبر في ألمانيا والتي يتجاوز تعدادها الثلاثة ملايين، عندما هاجر اليها في ستينيات وسبيعينات القرن الماضي نسبة كبيرة من الأيدي العاملة، علاوة على سعي تركيا الحثيث الانضمام للاتحاد الأوروبي والذي لألمانيا فيه ثقلا مهما.
يمكن للمرء أن يقف عند الكثير من وسائل الاعلام الألمانية، لكن الأجدر به أن يتابع صحيفة “دير شبيغل” الألمانية وهي الأوسع انتشارا وموقعها الأكثر متابعة للقراء باللغة الألمانية، حتى يعرف أي وجهة نظر يتم الترويج لها في أوساط الألمان. طبعا لا شك أن صحيفة دير شبيغل الألمانية كغيرها من الصحف تتعرض لانتقادات كثيرة نظرا لعدم خضوعها للمعايير العلمية او الموضوعية وذلك في أوساط الباحثين والأكاديميين، لكن الحقيقة تظل على ما هي عليه وهي قدرتها على نقل الصورة على طريقتها الى عقل متابعيها الذين لا يستهان بأعدادهم.
كانت دير شبيغل جزء عضوي من منظومة الاعلام الغربي الذي روّج لمظاهرات جيزي بارك والكثير من الأحداث الأخيرة في تركيا وتجده لم يقف متفرجا أو ناقلا للأحداث على ما هي عليه، بل انه لا يتوانى عن صناعتها من خلال البوسترات والصور التي كانت تحتل صفحات كاملة في مطبوعاتها ان لزم الأمر، ومن الملاحظ وبصورة جلية لمتابعي تويتر هو الاختلاف في سرعة التفاعل بين الأحداث التي شهدتها تركيا والمحسوبة ضد أرودغان، في مقابل التفاعل مع حدث فوز أردوغان الأخير الذي سبقه تقارير تغلب عليها الشبهة والمحافظة وتروج لاحتمالات تزوير الانتخابات وانقطاع الكهرباء وتضارب في أنباء النتائج.
أما بالنسبة للتقارير التي “اضطرت” أن تنقل خبر فوز حزب العدالة والتنمية بعد تأكيده، فانه يمكن ملاحظة استخدام كلمة “على الرغم” ومشتقاتها بنسبة عالية، حتى تكاد تشعر أن الصحيفة تبرر القارئها الذي سيغضب لخداعها بتضخيم الأحداث السابقة وفجأة يجد نفسه أمام “انتصار” أردوغاني لا يتماهي مع ما سبق نقله. كيف فعلت ذلك؟
باعتقادي أن أكبر تمويه يمكن للاعلام غير المحايد استخدامه والخروج منه محفوظ ماء الوجه هو نقل الحقيقة كما هي لكن منزوعة السياق. تقول الصحيفة في جمل كثيرة أن الشعب التركي بايع أردوغان على الرغم من قضايا الفساد، أو على الرغم من التسجيلات الفضائحية التي ظهرت بحقه. لم تحاول مثلا الصحيفة أن تكمل لتقول التسجيلات التي ثبت فبركتها أو على الأقل هناك حظوظ كبيرة تشير الى أنها مفبركة. تقول الصحيفة أيضا في سياق آخر أن أردوغان هدد خصومه، ولم تقل الذين استخدموا طرقا غير قانونية لضربه.
أما بالنسبة لقضايا “حرية التعبير عن الرأي” ومحاولة أردوغان ارغام تويتر ويوتيوب الجلوس على طاولة المفاوضات، لاخضاعها للقانون التركي أو على الأقل فيما يتعلق بمنشورات قال أرودغان أنها تمس الأمن القومي التركي، فانه تم وضعها في سياق يظهر أن أردوغان دكتاتور ومشكلته المبدئية والرئيسية في الحق في التعبير عن الرأي، من خلال استجلاب جمل يستخدمها دكتاتوريون كثر مثل “اشعال الفوضى” ليتذرّع بها، طبعا لا أريد هنا الدفاع عن اجراءات أردوغان أكثر مما أريد قوله أن موقف التغطية الاعلامية يبدو جليا ومسبقا، وأكثر ما يكون بعيدا عن المهنية. ولا داعي هنا وفي هذا المقام التذكير بصفحة “الانتفاضة الفلسطينية” التي مرت عليها ساعات حتى رضخت ادارة الفيسبوك لطلب اسرائيل باغلاقها على اعتبار أنها تهديد للأمن القومي الاسرائيلي وسببا لاشعال الفوضى في الشرق الأوسط والتحريض على القتل!
في آخر تقرير صدر في صحيفة دير شبيغل ينقل عن السكرتير العام للحزب الألماني الحالكم (الحزب المسيحي الديمقراطي) يقول فيه أن تهديدات أردوغان لمعارضيه غير مقبول بالمرة وان هذا يبدي بجلاء كم أن أردوغان رجل عديم الاكتراث بالحرية والتعددية، وأن من يحارب مثل هذه القيم ليس لديه ما يبحث عنه في الاتحاد الأوروبي. لست أدري ان كان رجل بمثل هذا المقام هو بدوره يعتمد على صحيفة “دير شبيغل” كمصدر للمعلومات، الأمر الذي يجعل المرء يتصور أن أردوغان رجل بلطجي سيلاحق خصومه بالسلاح، وليس بالقانون مثلا!