تعتبر زينة رمضان، على اختلاف أشكالها وألوانها، واحدةً من الطقوس الشعبية الفلكلورية التي تنتشر في الكثير من البلدان العربية والإسلامية مع بداية الشهر الكريم. وناهيكَ عن الأجواء المميزة والمبهجة التي تنقلها تلك الزينة بين نفوس الكبار والصغار على حدٍ سواء، إلا أنّ لها أيضًا تاريخًا عريقًا يرجع لمئاتٍ من السنين الطويلة على اختلاف رواياته وتنوّعها.
وقد كان عمر ابن الخطّاب حينما شرع بصلاة التراويح، قد أمر بإنارة الجوامع وتزيينها بالقناديل بدءًا من اليوم الأول من الرمضان، حتى يتمكن المسلمون من إقامة صلاة التراويح وإحياء شعائرهم الدينية بشكلٍ سلس من جهة، واستقبالًا للشهر الكريم بحلّةٍ جميلة من جهةٍ أخرى، حيث كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع إلى أن تصبح ليالي رمضان ملآى بالأضواء البراقة.
في ذلك العصر، كانت إضاءة الجوامع تتمّ من خلال الأسرجة البسيطة، حيث لم تكن أكثر من أوعيةٍ يوضع فيها زيتٌ له فتيل يُشعل بالنار. وشيئًا فشيئًا، بدأت الأسرجة تختلف وتتطور أكثر، فظهرت القناديل المزخرفة والبلّورية متقنة الصنع. فقد ذكر أنّ عمر بن الخطاب علق القناديل على سور ساحة الكعبة للإنارة ليلًا. وفي العصر العبّاسي، كان الخليفة “المأمون بن هارون الرشيد” قد أمر خلال فترة خلافته بالإكثار من وضع المصابيح المزخرفة في المساجد في شهر رمضان. وطلب من رجاله حثّ الناس على الإكثار من المصابيح في هذا الشهر المبارك، وتعريفهم ما في ذلك من فضل.
أمر عمر بن الخطاب بإنارة الجوامع وتزيينها بالقناديل بدءًا من اليوم الأول من الرمضان، حتى يتمكن المسلمون من إقامة صلاة التراويح وإحياء شعائرهم الدينية بشكلٍ سلس
أما في العهد العثماني، فيُشار إلى أنّ أول من أمر بإنارة الجوامع والمساجد احتفالًا برمضان، كان السلطان أحمد، وذلك في عام 1617 للميلاد، فأضاء أنوار المصابيح والمشاعل التي اعتلت مختلف قبب ومآذن جوامع إسطنبول على كثرة عددها، حتى بدت المدينة وكأنها مرشوشة بالنجوم النيّرات.
فانوس رمضان: فصل من فصول مصر الفاطمية
أمّا فانوس رمضان فله حكاية تاريخية تتّصل أيضًا بعهد الخلفاء المسلمين، فتحكي الروايات التاريخيّة إنه في عهد الفاطميين كان المصريون بانتظار الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ليمرّ بالقاهرة، فأمرهم القائد العسكري “جوهر الصقلّي” آنذاك أن يقفوا في الطرقات التي سيمرّ بها الخليفة لاستقباله وليضيئوا طريقه بالشمعات التي وُضعت في علبٍ خشبية مغطاةٍ بورق النخيل والجلود الخفيفة لضمان عدم انطفائها.
وهنا أعجب الخليفة المعز لدين الله بمشاهد الفوانيس التي كان يحملها من خرجوا لاستقباله، ومنذ ذلك الوقت والتاريخ، ارتبط الفانوس بإضاءة شوارع القاهرة وإنارتها خلال شهر رمضان، ومع الوقت تحوّل إلى عادةٍ شعبية ورمزٍ أساسيّ لا يخلو الشهر منه ومن مظاهره.
وتختلف الروايات التريخية وتتنوع، فمنها ما يروي أنّ انتشار الفوانيس في شهر رمضان يعود إلى حقبة الخليفة الحاكم بأمر الله في مصر، حيث سمح للنساء بالخروج لأداء صلاة الجماعة والتراويح في الجوامع بشرط أن يرافق كل امرأة طفل يحمل فانوسًا حتى يعرف المارّة أنّ ثمة امرأة تمرّ من الطريق فيوسعوا لها ويتنحّوا جانبًا.
تدخّلت الصناعة الصينيّة في هذا الجانب أيضًا، فظهرت في العقد الأخير تلك الفوانيس البلاستيكية رديئة الصنع منافسًا الفانوس التراثيّ العريق
فيما تحول الفانوس شيئًا فشيئًا من وظيفته الأصلية في الإضاءة ليلًا إلى وظيفة أخرى ترفيهية إبان الدولة الفاطمية، حيث راح الأطفال يطوفون الشوارع والأزقة حاملين الفوانيس ومطالبين بالهدايا وأنواع الحلوى التي ابتدعها الفاطميون. وبسبب هذا الانتشار الكبير لاستخدامه والبهجة المصاحبة له، أخذت صناعة الفوانيس تأخذ شكلًا أكثر إبداعية وتحوّلت لصنعةٍ جميلة في ذلك العهد، وأصبحت المناطق الفاطمية في مصر أهم الأماكن التي تصنّع الفوانيس بمختلف أشكالها وأنواعها، فمنها ما يُصنع من النحاس وأخرى من القصدير أو الصفيح. ومنها ما يتمّ تزيينه بالزجاج المزخرف أو المبلور ومنها ما يظلّ على شكله الأصليّ.
ولم يبق استخدام الفانوس واستشعار بهجته محصورين داخل القاهرة أو مصر وحسب، بل انتقلت الفكرة مع الوقت إلى أغلب الدول العربية والإسلامية المجاورة، وأصبحت تقليدًا من تقاليد شهر رمضان المعروفة، لا سيّما في مدن بلاد الشام كدمشق وحلب والقدس وغزّة وغيرها.
في الوقت الحاضر، شهدت صناعة الفوانيس تطوّرًا كبيرًا سواء من ناحية الشكل أو المواد المصنّعة أو طريقة الإضاءة، فالكثير منها لم يعد يستخدم الشموع وإنما الإضاءة الكهربائية التي تعتمد على المصابيح والبطّاريات. فيما تدخّلت الصناعة الصينيّة في هذا الجانب أيضًا، فظهرت في العقد الأخير تلك الفوانيس البلاستيكية رديئة الصنع منافسًا الفانوس التراثيّ العريق.
تعدّ منطقة “السيدة زينب” في مصر بوصفها تعود للعهد الفاطمي واحدةً من أكثر الأماكن التي تشتهر بصناعة الفوانيس الرمضانية وبيعها
وعلى الرغم من أنّ صناعة الفوانيس لا تعدّ موسميّة أو تتوقف على موعدٍ محدد، إلا أنها تنشط قبيل شهر رمضان استعدادًا لاستقباله، إذ يُقبل الناس في مختلف الأماكن على شرائها وامتلاكها، صغارًا كانوا أم كبارًا. وعادةً ما تُعدّ المناطق والبلدات القديمة في المدن هي الأكثر شهرةً بانتشار الفوانيس وبيعها.
فعلى سبيل المثال، تعدّ منطقة “السيدة زينب” في مصر بوصفها تعود للعهد الفاطمي واحدةً من أكثر الأماكن التي تشتهر بصناعة الفوانيس الرمضانية وبيعها، تمتلئ بمحلّات الحرفيّين الذين يحترفون صناعتها. تمامًا كما هو الأمر في البلدة القديمة في مدينة القدس، حيث تمتلئ بفوانيس رمضان مع بكرة الشهر، ويتسابق على شرائها كلّ من مرّ في سوقها.