معتليًا منبر الجمعة، أبو بكر البغدادي صوتًا وصورةً لأول مرة، رجلٌ ذو لحية، بات مألوفًا بملبسه الأنيق المتشح بالسواد، وفي المسجد الكبير بالموصل، اختار تنظيم الدولة “داعش” الظهور الأول لزعيمه الذي نصَّب نفسه أميرًا للمؤمنيين وخليفةً للمسلمين في منتصف عام 2014.
منذ اللحظة الأولى، عمل التنظيم والحركات المنبثقة عنه على الصورة، ومحتوى الخطابات التي كانوا يستعملونها، فبدا وكأنه لغز حيَّر الجميع، ففي كلماته الأولى يورِّث البغدادي خطابًا لينًا لن يتكرر فيما بعد، ويقول: “لقد ابتليت بهذه الأمانة الثقيلة، فوليت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتوني على حق فأعيونني، وإن رأيتموني على باطل فأنصحوني وسددوني”.
الخطاب الديني الحائر بعد داعش
بخطى ناعمة وأفكار عبرت عنها خطابات خشنة ومتشددة، تسلل أتباع البغدادي حتى أغوت أفكارهم مئات الشباب، وبالمال والسلاح، شكلوا تنظيماتهم، بعد عمليات غسل مخ واسعة، غابت عنها أفكار بلاد الحرمين ومنارة الأزهر الوسطية، لتخلو الساحة لداعش ويتوغل رويدًا.
ومع تصاعد التأثير الداعشى، تتصاعد في المقابل الدعوات لتجديد الخطاب الديني من كل الفئات، من دون أن يجيب أحد عن السؤال المحير: من الذي يعطل تجديد الخطاب الديني في الوطن العربي، وبالتبعية في العالم الإسلامي باعتبار الأزهر منارة الوسطية لشعوب الأمة؟
بدت التحديات في طبيعة الخطاب الإسلامي الذي غلب عليه بصورة عامة الجانب العاطفي والمثالي المستند إلى نظرة أحادية وتقليدية للفقه والتاريخ الإسلامي
مثل هذه التساؤلات تزايدت أكثر بعد ثلاث سنوات بالتمام والكمال من الخطبة الشهيرة لزعيم تنظيم الدولة، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتهاء مغامرة “داعش” في الأراضي العراقية كافة، ليترك التنظيم خلفه نصرًا غير مكتمل، وتحديًا حقيقيًا للتيار الإسلامي المعتدل.
بدت تلك التحديات في طبيعة الخطاب الإسلامي الذي غلب عليه بصورة عامة الجانب العاطفي والمثالي المستند إلى نظرة أحادية وتقليدية للفقه والتاريخ الإسلامي الذي يُنظر إليها من الكثيرين كجزء لا يتجزأ من الدين، إضافة إلى كثير من الفتاوى غير المسؤولة والداعية إلى التشدد في الدين.
كما تزايدت في الآونة الأخيرة الأصوات التي تطرح ما يسمى “الخطاب الإسلامي” على بساط البحث، وتشعبت الآراء بشأن ذلك، ففريق ينتقد ويدعو إلى التصويب والتصحيح، وفريق – من داخل الصف الإسلامي – يرفض الانتقادات ويصل أحيانًا إلى درجة اتهامات الداعين إلى التطوير بالخضوع لضغوط خارجية، وفريق يود – لو استطاع – استئصال “الخطاب الإسلامي” من الساحة.
المشكلة في الخطاب الديني أم في رجال الدين؟
بعد انزواء بعض الخطاب المتشدد الذي تتبناه التنظيمات الجهادية، طرأ على الخطاب الديني تحولاتٌ عديدة، ودخلت في إنتاجه جهات وأشخاص وجماعات متنوعة، حتى أصبح من اللغط معرفة من يمثّل الخطاب الإسلامي اليوم ومن ينتجه.
وبالنظر إلى خطبة الجمعة كوسيلة لتوعية المجتمع الإسلامي لكثير من القضايا التي تهم المسلمين، نجد أنها سلكت الطريق السهل، وتبنى شيوخها الخطاب الناعم، ما يدعو للتساؤل: أين خطباء الدين من قضايا المسلمين؟
بعد تعميم خطب الجمعة في مصر مثلاً، كانت وما زالت الخُطب تدور حول الترغيب والترهيب وغض البصر والبُعد عن المعاصي وكبائر الذنوب والحديث عن الصيام في رمضان وقراءة القرآن ثم صلاة العيد ثم الإكثار من العبادة وفضل الحج.
يهدد الخطباء الشعوب المسلمة بالمثل لبلدانهم حتى إن وقع على أرضهم عدوان نكَّسوا رؤوسهم لما كسبت أيديهم
وحين اشتد الصراع خلال الأيام الماضية بشأن القضية الفلسطينية، وُضع اللوم على الشعوب ببعدها عن دينها، ويتكرر الخطاب الديني في كل يوم على أن سبب هلاك الأمة وضعفها هو المسلم.
وما يحدث من مجازر في سوريا والعراق إنما استحقه أهلهم بسبب ما كان من انتشار الفواحش من شرب للخمور والزنا، والأطفال والنساء الذين قُتلوا إنما عقاب لأصحاب هذا البلد، وهكذا يستخدمون الدين.
يهدد الخطباء الشعوب المسلمة بالمثل لبلدانهم حتى إن وقع على أرضهم عدوان نكَّسوا رؤوسهم لما كسبت أيديهم، خُطباء يزرعون الضعف والانكسار والمرض النفسي بين الشعوب حتى يصبحون بلا إيمان وتصبح قلوبهم خاوية مربادةً كالكوزِ.
تزامن ذلك مع وجود منابر إعلامية أخرى، حيث ارتفعت عدد القنوات الفضائية المنتجة للخطاب الطائفي مع اشتداد الصراع بين القوى السياسية والعسكرية؛ من أجل الاستيلاء على السلطة في البلدان التي تعيش حربًا أهلية بكل ملابساتها وامتداداتها الإقليمية والدولية.
الخطاب الناعم أو المتشدد: متلازمة السلطة ورجال الدين
في المقابل تظهر في الساحة نماذج لما يمكن تسميتهم بشيوخ السلطة بوصفهم النقيض الموضوعي لشيوخ المقاومة، وغالبًا ما تكون الاستفادة متبادلة بين هؤلاء الشيوخ والحاكم المستبد، وهو ما أفضى تدريجيًا إلى اندراج شيوخ السلطة ضمن الهيكل العام الفاسد، وهو أمر يمنعهم من قول الحق أو التعبير عن رفض الانتهاكات.
فقد عينت الأسرة الحاكمة في السعودية رجال الدين في أعلى وظائف الدولة، وأتاحت لهم فرض رؤيتهم لأحكام الشريعة الاسلامية، وبات لهم تأثير عظيم على الجوانب الاجتماعية وقواعد الأخلاق العامة، كما قدمت لهم التمويل السخي للدعوة الخارجية ومعاهد تعليم المذهب المتساهل مع الانفتاح الذي تشهده المملكة.
وهو ما أشار إليه الإمام الغزالي في كتابه “الإحياء” بقوله “ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر، والله المستعان على كل حال”.
صناعة الخطاب المهيمن والمُسيطر على الأفراد باعتبار أن رجال الدين من يملكون الحقيقة؛ تجعل سلطتهم تتفوق على سلطة رجال السياسية والحكم
وتستنفد مؤسسات الحكم الفاسدة هؤلاء الشيوخ وتستعملهم لتبرير استبدادها ومظالمها وتدميرها لمقومات الوطن ولحقوق الأخوّة والجوار، فما يقوم به شيوخ الدين المزيّفون من تغييب لأذهان عامة الشعب وتهيئة عقولهم لقبول استعلاء الحاكم وما يضفيه على نفسه من سمات العظمة والكبرياء.
حتَّى يُقال: “إنَّه ما من مستبدٍّ سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقامًا ذي علاقة مع الله، ولا أقل من أنْ يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله”، كما يقول الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد”.
فصناعة الخطاب المهيمن والمُسيطر على الأفراد باعتبار أن رجال الدين من يملكون الحقيقة؛ تجعل سلطتهم تتفوق على سلطة رجال السياسية والحكم، بالإضافة لصناعة الخوف عند العامة من هذه السلطة، مما يؤدي إلى تقيد الروح والجسد أيضًا، وتشكيل آليات القهر.
وشيوخ السلطة لديهم استعداد لتبرير العدوان إلى الحد الذي جعل بعضهم يعتبر حصار بلد شقيق عملاً محمودًا يستحق الثناء، ووصل الحال بالبعض الآخر إلى درجة الافتراء واختلاق الأكاذيب لتصوير الخصوم باعتبارهم ورثة الخوارج وأعداء الدين.
جدلية تجديد الخطاب الديني
“لم تعد فكرة تجديد الخطاب الديني رفاهية كما كانت من قبل بل صارت فرض عين على العلماء لدفع البلاء عن الأمة بعدما لحق بنا من موت وخراب”، تلك مسلَّمة يتحدث الجميع عن إيمان الإمام محمد عبده بها، لكن المتابع لتاريخ المؤسسة الأزهرية يدرك على الفور المحطات التي مرت بها حتى تداعت أمام هيمنة المتشددين بما لديهم من إمكانات مادية كبيرة تستقطب المتشددين من الشباب.
ومنذ عام 1905 الذي شهد وفاة الإمام المجدد، لم يأخذ عالم أزهري أو غير أزهري على عاتقه مبدأ تجديد الخطاب الديني، ولم يستطع الأزهر الشريف صد موجة الوهابية التي أثرت على المنبر الأزهري بعد أن جذب الخليج بأمواله ونفطه أساتذة الأزهر، للتدريس في جامعاته الثرية وصار الحفاظ على الأزهر كمدرسة وسطية أمرًا مستحيلاً، ناهيك عن ظهور إمام للتجديد، غير أن تعاليم محمد عبده كمدرسة للتجديد اختفت ولم يعد لها وجود في الفكر الإسلامي المعاصر.
خلال العقد الأخير حاولت السلطات السعودية الحد من نفوذ رجال الدين عبر سجن أو طرد أولئك الذين يُتهمون بدعم التيار المتشدد
وخلال العقد الأخير حاولت السلطات السعودية الحد من نفوذ رجال الدين عبر سجن أو طرد أولئك الذين يُتهمون بدعم التيار المتشدد، كما أنها تدقق في خطب الجمعة وحصرت إصدار الفتاوى بالأعضاء الـ21 في هيئة كبار العلماء، لكن السعوديين الليبراليين لا يعتبرون هذه التدابير كافية، ويرون أن إقدام رجال الدين على استخدام لغة ذات نبرة طائفية عالية والتعبير عن ازدراء غير المسلمين ومشاهر الكراهية تجاههم تغذي الفكر المتشدد.
في هذا الصدد، يقول الباحث في مؤسسة الأبحاث الدفاعية النرويجية ومؤلف كتاب “الجهاد في السعودية” توماس هيجهامر: “الجهاديون توقفوا عن الاستشهاد بالمشايخ السعوديين البارزين في الدولة منذ سنوات طويلة”، مضيفًا “تنظيم الدولة ابتعد بدوره عن الاستشهاد بالمشايخ السعوديين القلائل الذين كانوا يدعمون يومًا القاعدة، وهم اليوم في سجون المملكة بسبب الشقاق بينها وبين القاعدة”.
إذًا عن أي تجديد نتكلم؟ هل عن المظهر دون المخبر، والشكل دون المحتوى؟ الشاهد أن التصدي لطرح التجديد مسألة ليست يسيرة، خاصة أن الناس عادة ما يكونون محكومون بالموتى، كما يقول المفكر الأيرلندي الكبير أدموند بيرك في كتابه “تأملات حول الثورة الفرنسية”، وهنا نتذكر مقولة شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال بأن “الكعبة لا تجدد بجلب حجارة لها من أوروبا”.