يحبس العالم أنفاسه منذ فجر الأربعاء 31 يوليو/تموز بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، باستهداف إسرائيلي، عقب مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، ترقبًا لتنفيذ إيران ردها على تلك العملية، التي توعدت بأن يكون “قاسيًا جدًا” على “إسرائيل”.
وكانت طهران قد أرجأت الرد على عملية الاغتيال التي مسّت سيادتها ووضعت سمعتها الإقليمية والدولية على المحك، لحين التنسيق مع محور المقاومة في لبنان واليمن والعراق من أجل توحيد الموقف، مؤكدة على لسان قادتها بأن قرار الرد قد تم اتخاذه فعليًا، لكن تبقى تفاصيله قيد الدراسة، منوهة أنه سيكون أكثر تعقيدًا مما حدث في أبريل/نيسان الماضي، إذ تجاوزت “إسرائيل” العديد من الخطوط الحمراء.
وشهدت الأيام الـ5 الماضية حراكًا دبلوماسيًا كثيفًا من بعض القوى الإقليمية للضغط على طهران لعدم الرد، أو على الأقل ألا تتجاوز قواعد الاشتباك المعمول بيها بين الطرفين، طهران وتل أبيب، تجنبًا لإدخال المنطقة في آتون من الحرب المفتوحة، يتزامن ذلك مع تحركات عسكرية ردعية أمريكية نحو الشرق الأوسط للوقوف على أهبة الاستعداد للدفاع عن الحليف الإسرائيلي حال تعرضه لاستهداف من الإيرانيين.
وتنقسم الآراء بشأن التلكؤ الإيراني في الرد، لا سيما بعد الخفوت النسبي لخطاب التهديد والوعيد، وما يثار بشأن التنسيق المسبق مع بعض الدول والقوى في المنطقة، حيث يرى فريق حتمية الرد واختراقه لقواعد الاشتباك التقليدية حفاظًا على هيبة طهران التي مرغها الاحتلال في التراب بعد استهدافه أحد أبرز ضيوفها داخل أراضيها، وآخر يميل إلى رضوخ الإيرانيين لمقاربات التصعيد وعدم تجاوز الإطار الجيوعسكري الذي التزمت به عملية “الوعد الصادق” في 13 أبريل/نيسان الماضي.. فهل تنجح دبلوماسية الساعات الأخيرة في امتصاص الغضب الإيراني وإذابة جليد الرد الرادع لـ”إسرائيل”؟
حراك دبلوماسي مكثف
العديد من التحركات الدبلوماسية شهدتها المنطقة خلال اليومين الماضيين، آخرها تلك الزيارة النادرة التي أجراها وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى طهران، في محاولة لتخفيف حدة التوتر وإقناع الإيرانيين بخطورة التصعيد وإدخال المنطقة في دوامة عنف محفوفة بالمخاطر، حال قيامها بالرد بالكيفية والطريقة والمستوى الذي توعدت به.
وكانت الخارجية الأردنية في بيان لها أشارت إلى أن الصفدي سينقل رسالة من العاهل الأردني عبد الله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، بشأن الأوضاع في المنطقة والعلاقات الثنائية، وأنه سيجري محادثات موسعة مع القائم بأعمال وزير الخارجية في إيران، علي باقري كني، بخصوص هذا الملف.
ومن ناحية أخرى تحاول عمان تهدئة الأجواء مع طهران، لضمان عدم التورط في أي تصعيد محتمل، قبيل اندلاع أي هجمات على الكيان المحتل، خاصة أن المملكة كانت قد لعبت دورًا محوريًا في التصدي لعشرات الصواريخ والمسيرات التي انطلقت من إيران باتجاه “إسرائيل” أبريل/نيسان الماضي.
وقبل تلك الزيارة أجرى وزير الخارجية الأردني اتصالات عدة بنظيريه الإيراني والمصري، بطلب من الولايات المتحدة، حسبما نشرت بعض وسائل الإعلام، لاحتواء التوتر الراهن وإقناع إيران بضرورة منع انزلاق المنطقة إلى حرب واسعة، فيما أشارت مصادر أخرى إلى جهود دبلوماسية موازية تقوم به قطر وسلطنة عمان والعراق في الاتجاه ذاته.
وفي الاتجاه المعاكس أجرى وزير الخارجية الإيراني اتصالات هاتفية بعدد من نظرائه في البلدان العربية والإسلامية، خاصة في الخليج ومصر والأردن، بجانب عدد من المسؤولين الأمميين في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش، وكذلك الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامية، إبراهيم طه، لإقناع تلك البلدان بضرورة الرد على اختراق “إسرائيل” لقواعد الاشتباك المعمول بها، وبناء حشد إقليمي ودولي لهذا الرد.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية في تصريحات له صباح اليوم الإثنين، قال إن رد بلاده على الكيان الإسرائيلي سيكون في إطار القوانين والأعراف الدولية، وأن عددًا من الدول تواصلت مع طهران بشأن التهدئة، لافتًا إلى أن إيران لا تسعى لزيادة التوتر في المنطقة.
ورغم تراجع حدة الخطاب الإيراني، اليومين الماضيين، بشأن ضرورة الرد الحاسم والرادع، مقارنة بالأيام الـ3 الأولى لاغتيال هنية، فهناك وحتى كتابة تلك السطور رفض إيراني لرسائل التهدئة التي حملها هذا الحراك الدبلوماسي خلال الساعات الماضية، الأمر الذي يجعل الباب مفتوحًا على كل السيناريوهات التي يتوقف مستوى ترجيح أي منها على حجم المقاربات الخاصة به، لا سيما بعد حالة التجييش والتجييش المضاد التي تخيم على المشهد حاليًا.
ما السيناريوهات؟
وأمام تلك الوضعية الحرجة، والاستثنائية كذلك، وحالة الترقب التي تفرض نفسها على الشرق الأوسط الذي بات فوق فوهة بركان، واستراتيجية التلكؤ في الرد التي تتبعها طهران حسمًا لبعض المقاربات ابتداءً، فإن المشهد الراهن أمام 3 سيناريوهات رئيسية:
السيناريو الأول: الرد القاسي والحازم تنفيذًا للوعيد الإيراني
وهو السيناريو الذي أكدت عليه طهران منذ عملية الاغتيال التي مست كرامتها وسيادتها وعرضت هيبتها للخطر، كونها العملية الأكثر حرجًا لإيران خلال العقود الـ3 الأخيرة، أن يُستهدف ضيف بهذا الحجم فوق أراضيها عقب مشاركته في مراسم تنصيب رئيس جديد قادم على خلفية مقتل الرئيس الأسبق ومرافقيه في عملية مثيرة للجدل.
العملية في مضمونها كانت خرقًا لكل القواعد المتعامل بها بين الطرفين، وعليه جاءت التصريحات الإيرانية بضرورة أن يكون الرد على نفس مستوى هذا الخرق، وهو الأمر الذي قد يجر المنطقة بأسرها إلى حرب مفتوحة، فهل طهران مستعدة لتبعات هذا السيناريو؟
في الثالث من أغسطس/آب الجاري وصل الجنرال الأمريكي المسؤول عن القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، مايكل كوريلا، إلى المنطقة، لحشد تحالف إقليمي ودولي من أجل الدفاع عن “إسرائيل” كما حدث في هجوم 13 أبريل/نيسان الماضي، فيما نقلت بعض وسائل الإعلام الأجنبية تحرك عدد من البارجات الحربية وحاملات الطائرات الأمريكية باتجاه الشرق الأوسط تحسبًا لأي اعتداء إيراني على الحليف الإسرائيلي.
يعلم الإيرانيون جيدًا أن نشوب حرب إقليمية سيأتي بالولايات المتحدة بشكل رسمي إلى المنطقة، والدخول في حرب مباشرة مع إيران، وهو ما يعني تعطل مشروعها النووي القومي، وعرقلة مشروعات التسليح التي تقوم بها، وإجهاض المكتسبات التي حققتها على مدار السنوات العشرة الماضية، هذا بخلاف تداعيات ذلك اقتصاديًا على الدولة المهلهلة بسبب العقوبات المفروضة عليها.
الأمر كذلك مع أذرعها في المنطقة، التي نجحت في تسليحهم بالشكل الذي يؤهلهم لتنفيذ ما هو مطلوب منهم بحسب الرؤية الإيرانية الإقليمية، ففي حال نشوب حرب إقليمية ربما تفقد تلك الأذرع كل ترسانتها التسليحية، وتخسر بذلك طهران واحدة من أهم أدواتها المستخدمة في توسيع نفوذها الشرق أوسطي الذي خلق معادلة متوازنة للردع الإقليمي.
وعليه يمنح الإيرانيون أنفسهم الوقت الملائم لدراسة الموقف من جوانبه كافة، ومدى قدرتهم على تحمل تبعات هذا السيناريو، الذي يضع هيبتهم في كفة وتداعيات الرد القاسي في كفة، وذلك من خلال التشاور مع مختلف جبهات الإسناد من جانب وشركائهم في المنطقة من جانب آخر.
السيناريو الثاني: الرد التكتيكي لحفظ ماء الوجه
أما السيناريو الثاني فيذهب باتجاه تكرار ما حدث في 13 أبريل/نيسان الماضي، حين أطلقت إيران مئات الصواريخ والمسيرات باتجاه الكيان المحتل، سقطت معظمها قبل أن تصل للأراضي المحتلة، فيما لم تحقق الأخرى التي وصلت سوى إصابات محدودة لا تتناسب مطلقًا مع استهداف مقر قنصلية طهران في دمشق الذي أوقع العديد من القتلى من بينهم قادة في الحرس الثوري.
ورغم أن هذا السيناريو قد يكون مستبعدًا بحسب التأكيدات الإيرانية فضلًا عما جاء على لسان زعيم “حزب الله”، حسن نصر الله، لما قد يترتب عليه من تشويه لسمعة إيران الدولية وفقدانها لمعادلة الردع الإقليمي الذي عملت على أجل ترسيخها منذ سنوات، فإنه وارد وبقوة في ظل التجييش الصهيوأمريكي للرد الإيراني والتوعد برد فعل حازم على أي تجاوز للخطوط الحمراء.
وهنا قد تتجه طهران إلى عملية عسكرية في الداخل الإسرائيلي متفق عليها ومنسقة مسبقًا مع الولايات المتحدة وبعض شركاء الإقليم، على أن تحقق تلك العملية أهدافًا بسيطة، تحفظ ماء وجه النظام الإيراني داخليًا وخارجيًا، وإن كان مثل هذا السيناريو سيجعل إيران هي الخاسر الوحيد والأكبر في المشهد الراهن، الأمر الذي دفع البعض للميل نحو استبعاده.
السيناريو الثالث: الرد عبر صفقة لإنهاء الحرب في غزة مع عمليات نوعية منضبطة
في ظل مقاربات إيران بشأن الرد القاسي على “إسرائيل” والخوف من تداعيات ذلك على مكتسباتها ونفوذها ومشروعاتها القومية، وفي الوقت ذاته محاولة الهروب من فخ الرد الدبلوماسي البارد كما حدث في أبريل/نيسان الماضي، وما لذلك من ارتدادات عكسية على هيبة الدولة داخليًا وخارجيًا، فقد تلجأ إلى السيناريو الثالث الذي قد يحقق لها هدفها: الرد القوي الذي يحفظ ماء الوجه دون التصعيد الذي يرتد عليها.
ويستند هذا الرد على توظيف طهران لحالة القلق والرعب التي تفرض نفسها حاليًا ترقبًا لردها المحتمل ضد الكيان المحتل، في وقف إطلاق النار وإبرام صفقة تبادل بين المقاومة والمحتل، وإنهاء الحرب بشكل كامل، والضغط لإعادة إعمار غزة وعودة النازحين، كثمن معقول لعدم ردها على اغتيال هنية فوق أراضيها، مع الاحتفاظ أو تأجيل حق الرد عبر عمليات نوعية مستقبليًا لاستعادة معادلة الردع مجددًا، وهو ما جاء على لسان بعض النخب السياسية على رأسهم رئيس الوزراء القطري الأسبق، حمد بن جاسم بن جبر، الذي يرى في تغريدة له على منصة “إكس” أن التصعيد حاليًا وإطالة أمد المعركة لا يخدم سوى نتنياهو وفريقه المتطرف فقط، وأن هنية لو كان حيًا اليوم لقبل بتلك الصفقة لوقف إطلاق النار وإنهاء معاناة الغزيين، على حد قوله.
ويرى أنصار هذا الرأي أن الأجواء حاليًا رغم ضبابيتها إلا أنها ربما تكون ملائمة لإبرام صفقة والتوصل لاتفاق لإنهاء الحرب، لا سيما بعد ترويج الاحتلال لعملية اغتيال هنية ومن قبلها المستشار العسكري ل”حزب الله”، فؤاد شكر، وغيرها من الاغتيالات التي قام بها منذ بداية الحرب، على أنها انتصارات مدوية ومدعاة للفخر بعد الفشل الميداني على مدار 10 أشهر.
اعتقد أنه من الأفضل أن تطلب الآن إيران وقفاً فورياً دائماً لأطلاق النار وإعادة النازحين في قطاع غزة إلى جميع مناطقهم، وتبادل الأسرى. فهذا خير من رد لن يحقق أي نتيجة في الوقت والظروف الراهنة سوى خدمة خطوات نتنياهو التصعيدية، وسياسات حكومته المتطرفة الهادفة إلى إطالة بقائه في…
— حمد بن جاسم بن جبر (@hamadjjalthani) August 4, 2024
هذا السيناريو – وقف الحرب وإعادة النازحين وإنهاء معاناة ومأساة سكان غزة – قد توظفه إيران على أنه أكبر ثأر لهنية، وهو الإنجاز الذي لم تحققه أي من القوى الضالعة في المشهد، كما أنه سيحظى بقبول جميع الأطراف، في الداخل الإيراني وخارجه، لا سيما أن ضحية هذا الاغتيال كان رأس الهرم الدبلوماسي في حركة حماس الساعي عبر المفاوضات السياسية للتوصل إلى حل لوقف الحرب في أسرع وقت.
ويخدم سيناريو عدم التصعيد الإقليمي وتهدئة الأجواء، كل من الولايات المتحدة المقبلة على انتخابات حساسة بعد 3 أشهر، سيكون للمشهد الشرق الأوسطي تداعياته عليها بلا شك، كذلك يخدم حلفاءها في المنطقة، على رأسهم دول الخليج، هذا بخلاف دولة الاحتلال ذاتها التي تتخوف نخبتها من مغبة هذا التصعيد الواسع خاصة بعد استنزاف حرب غزة للكثير من قدرات الدولة التسليحية والاقتصادية.
لكن يبقى هذا السيناريو أسير الموقف الإيراني الإسرائيلي، فهل تقبل طهران به كخيار بديل عن الانتقام والثأر؟ وهل يرى نتنياهو في مثل هذا السيناريو ما كان يطمح في تحقيقه؟ وفي حال رفضه.. هل تنجح واشنطن وحلفاؤها في الضغط على حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب بقبول هذا السيناريو لإنقاذ المنطقة من سيناريو الحرب المفتوحة؟