منذ اللحظات الأولى التي بدأ فيها الممثل المصري محمد رمضان الاستقلال بشخصيته التي يقدمها إلى الجمهور وهو المتصدر الوحيد لفترة طويلة شاشات السينما والدراما المصرية، الأكثر متابعة والأكثر مشاهدة، ومواده الأكثر رواجا صور، كلمات ومشاهد وغير ذلك، وقد كان يُظن أن محمد رمضان بشخصياته المختلفة التي قدمها والتي هي في الحقيقة نموذج لشخصية واحدة سأسميها “الأسطورة”، وهو الاسم الذي أُطلق فعلا على أحد شخصياته بالفعل، كان قد تصدر بل واكتسح صناعة الدراما والسينما المصرية لكونه يعبر عن شريحة كبيرة من الشعب نسميها في مصر “السرسجية”.
والسرسجية ليس لهم تعريف محدد، وليس لهم خصاص اجتماعية أو اقتصادية معينة، يل إن كل شخص يمكن أن يكون سرسجيا حسب ما يقتضيه الحال، ولكنهم في الأغلب يسكنون المناطق الشعبية ولا يفترض فيهم الفقر على الرغم من ذلك، يتكلمون بلغة “كلام الكبار” أي الحكم أو العبارات القصيرة المستوحاة من حياتهم اليومية والتي تعطي استنتاجات وتعميمات مثلما يفعل الشعراء والأدباء، ومثلما تعبر أي شريحة أو طبقة اجتماعية عن ثقافتها وعن خبراتها.
إلا أننا فوجئنا، على الرغم من أنني أتفق مع وجهة النظر هذه، أن النموذج المحمد رمضاني صار، وبسرعة النار في الهشيم، يعبر عن عموم الشعب المصري، كيف حدث ذلك؟ هل تحول الشعب المصري كله إلى سرسجية؟
قد يكون التماهي الواقع بفعل أدوات الإعلام بين الطبقات الاجتماعية في مصر، أو استفحال ثقافة السرسجية في الأوساط المصرية أكبر الأثر في ذلك، ولكن قبل أن نحاول أن نجيب على هذا السؤال دعونا نتعرف على شخصية المحمد رمضان ولماذا أعجبني اسم الأسطورة.
الأسطورة هو نتاج بيئته، أي أنه حصيلة تناقضات مجموعة من العوامل الخارجية والظروف المحيطة التي تتشابك وتتراكم حتى تتجسد في شخصية الأسطورة كحل لهذا التناقض
النموذج المحمد رمضاني، شخصية تعبر عن القوة المطلقة والفضيلة المطلقة، وبما أنها توجد عادة في بيئات يحكمها قانون الغاب ومنطق الغلب، مثل الحارة أو “الحتة”، مجتمعات “البلطجية” أو العصابات، العائلات في الصعيد، ولا أعرف لماذا فاته البدو في الصحاري، أو حتى رجال الأعمال والمستثمرين منزوعي الضمير -بطبيعة الحال- ومنهم تجار المخدرات والسلاح وأي تجارة يحرمها الشرع ويعاقب عليها القانون حتى وإن لن تكن مُربحة، فإن الفضيلة الوحيدة التي تتمتع بها شخصية الأسطورة هي القوة.
الأسطورة قوي قوة مطلقة، لا يخشى أحدا ولا يخشى شيئا، ولا يغلبه أحد لا في قول ولا فعل، لديه من الإمكانيات ما يمكنه دائما من فعل كل ما يريد، وما يريد هو ما يريد وليس ما يمليه عليه ضميره أو أي مرتكز خارج وعيه الذاتي، يحسن تقدير خصومه ويعرف متى وكيف يضربهم، لا يُشغل رأسك كثيرا بسبب نشأة العداوة أو جذور الخلاف بين رفاعي الدسوقي وعصام النمر، ولكنك ستفرح كثيرا حين ترى محمد رمضان وهو يقتل عصام النمر أمام عائلته بشكل مبالغ فيه من الانتقام والتشفي.
الأسطورة هو نتاج بيئته، أي أنه حصيلة تناقضات مجموعة من العوامل الخارجية والظروف المحيطة التي تتشابك وتتراكم حتى تتجسد في شخصية الأسطورة كحل لهذا التناقض، وبالتالي فهو ينشأ منزوع الضمير تماما، ربما تراه في بعض تصرفاته أو في بعض أقواله يحتكم إلى “الأصول” غير معروفة الأصول باعتبارها مكون من مكونات البيئة التي تظهر فيها شخصية الأسطورة، ولكنه لا يتألم لألم الآخرين، لا يتمركز إلا حول رغباته ولا يرى إلا ما يريد، إنه فرانكنشتين لعين مسلوب الإرادة وفي نفس الوقت لا يمكن السيطرة عليه، خطر داهم لا يمكنك أن تتجنب أذاه، لا يتمركز حول أي مطلق خارجي سوى رغباته المغروسة في داخله بفعل الطبيعة، بمعنى أنه حيوان قاتل تم برمجته من خلال الفعل ورد الفعل على التصرف بكيفية معينة في ظروف معينة.
ولا أريد أن أنسى أن محمد رمضان هو معشوق النساء الأوحد -على مستوى المسلسل- فهو دائما يثير إعجاب كل النساء حتى المتزوجات منهن، هذا هو جوهر كل أعمال الفنان محمد رمضان وهذا هو نموذج الأسطورة الذي أقصده، ولا عجب أن حملة الإعلانات التي استعانت إحدى شركات الإتصالات منذ عامين بالفنان محمد رمضان من أجلها كان شعارها يعبر عن القوة أيضا بشكل مبتذل يتسق مع أفكار واتجاهات الجمهور العاشق لشخصية الأسطورة.
محمد رمضان هو أسطورة، أو “سوبر مان” نيتشه، أو إله “الغل” عند المصريين القدماء، ربما لن تتحقق، وربما ليست موجودة في الواقع، ولكنها محفورة في لاواعي الشخصية المصرية، ملجأ خلقته الرغبة في الانتقام وقلب الواقع للهروب إليها في أثناء لحظات القهر الشديد
ولا عجب، فهذا الجيل أغلبه لم يسأل لماذا نحب الفأر “جيري” ونكره القط “طوم”، مع أن الفأر هو المتطفل الذي يسرق من البيت وطوم هو من يحاول الدفاع عن البيت ويطارد هذا الفأر الدخيل، ولكن فقدان المعيارية، اختلاط الصواب بالخطأ، التمركز حول الذات، غياب الحلال والحرام في المعاملات اليومية، بل وتصفية كل الثنائيات بطريقة نيتشوية داروينية تفترض دائما أن العالم هو ما تراه والحقيقة هو ما تقول ﴿ما أريكم إلا ما أرى﴾ جعلت من شخصية الأسطورة بمثابة الحلم أو المطلق والمثال الذي يهابه ويتمناه كل مصري.
وكنت أريد قبل أن أبدا في كتابة هذا المقال أن أقارن بين شخصية محمد رمضان والكاوبوي الأميركاني، الذي يقتل خصمه دون أن تعرف ولا حتى أن يعرف هو لماذا، بسرعة فائقة يخرج مسدسه ويقتل خصمه في جزء من الثانية، ثم يمسح فوهة مسدسه بكل برود ويقبل الفتاة الواقعة في غرامه لا لشيء إلا لقوته وسطوته وقهره لأعدائه، ثم ينظر إلى المشاهدين بزواية منخفضة بنظرة ثقة ممزوجة بالغرور والاحتقار الشديدين، ولكنني رأيت أن الأسطورة تحولت إلى إله، يهابه المصرييون ويسقطون عليه أحلامهم وكبتهم، من هم المصريون؟
هم مجموعة من المقهورين والمقموعين مسلوبي الإرادة المحرومين والمغتربين، هذا الموظف الذي يتعرض لقهر وظلم مديره الذي بدوره يزيح هذا القهر الممارس عليه من قبل رؤسائه على مرؤوسيه -وهكذا- لا يحتاج أن يكون سرسجيا حتى يحلم بالقوة المطلقة والسيطرة المطلقة والانتقام من مديره، مأمور القسم، أمين الشرطة، موظف شؤون العاملين، حماته، وربما زوجته وأولاده إن لم يكن يمارس عليهم بدروه إزاحة قهر كل من سبقوا عليهم، دون أن يتوقف ليسأل نفسه هل من الصواب أن أبطش بكل هؤلاء في ضربة واحدة؟
الحقيقة أن محمد رمضان -بقصد أو بدون قصد- عبر عن أعماق سحيقة داخل الشخصية المصرية
محمد رمضان هو أسطورة، أو “سوبر مان” نيتشه، أو إله “الغل” عند المصريين القدماء، ربما لن تتحقق، وربما ليست موجودة في الواقع، ولكنها محفورة في لاواعي الشخصية المصرية، ملجأ خلقته الرغبة في الانتقام وقلب الواقع للهروب إليها في أثناء لحظات القهر الشديد، ولذلك لم أتعجب من هذه الحالة الشعورية التي استطاع محمد رمضان أن يوجدها بينه وبين رواد المقاهي الذين كانوا يتابعون المسلسل مثلما يتابعون مبارايات المنتخب، هذا التوحد المخيف بين المشاهدين من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ وبين الأسطورة لم ينشأ إلا لكون محمد رمضان هو التعبير -تستطيع أن تقول الوحيد- عن هموم وآلام المصريين، بل وطبقات سحيقة في لاواعي الشخصية المصرية.
وستجد أن كل الذين حاولوا أن يحذوا حذوه ويسيروا على خطاه، ظنا منهم أن سبب نجاحه هو ارتباطه بشريحة عريضة من الشعب المصري من المهمشين والفقراء الذين أطلقنا عليهم “سرسجية” فشلوا فشلا ذريعا بل وابتعدوا عن الشاشة كثيرا، حتى ولو كانوا أقدم في مجال التمثيل من محمد رمضان وكان لديهم من الإمكانيات الفنية والمادية ما يفوق قدرة محمد رمضان، ذلك لأنهم أساءوا تقدير شخصية الأسطورة وحصروها في المشاجرات والاستخدام المفرط للسلاح والألفاظ البذيئة والحكم و”كلام الكبار”، مع أن الحقيقة أن محمد رمضان -بقصد أو بدون قصد- عبر عن أعماق سحيقة داخل الشخصية المصرية.