شهدت الليرة التركية مؤخراً تهاوياً ضخماً بلغت نسبته 4% خلال اليومين الأخيرين فقط، الأمر الذي جعل عوامل انخفاضها بهذا الشكل مثار تساؤل من قبل عددٍ من الصحف العالمية، نظراً لما تحظى به تركيا من أهمية سياسية وجغرافية في الساحة الدولية.
اقتصادياً، تؤثر عدة عوامل داخلية؛ كالاستقرار السياسي والأمني أو انعدامه والتسهيلات الاقتصادية وحجم الإنتاج والصادرات مقارنة بالواردات، ونسبة التضخم، وغيرها، وعوامل خارجية؛ كسعر فائدة العملات الأجنبية الكبيرة، وخاصة الدولار، وتقييم وكالات الائتمان العالمية، والتطورات الاقتصادية العالمية، وغيره، في سعر الصرف لأي عملة حول العالم.
وفي إطار هذه العوامل، وفي ظل تتبع الصحف التركية، يُلاحظ أن العوامل الداخلية المؤثرة في تدهور قيمة الليرة التركية هي كالتالي:
ـ عجز ميزان المدفوعات:
يُستخدم ميزان المدفوعات كسجل محاسبي يقيس حجم التبادل التجاري والمالي بين دولة ما والعالم الخارجي خلال فترة زمنية عادة ما تكون عاماً. ويتألف ميزان المدفوعات، بشكلٍ أساسي، من:
ـ الحساب الجاري: يقيس حجم صادرات الدولة من السلع ـ الصادرات ـ والخدمات ـ السياحة وغيرها من الخدمات ـ مقارنة بوارداتها، والحوالات النقدية القادمة للدولة بدون مقابل؛ كحوالات المغتربين.
ـ حساب رأس المال: يقيس حجم رؤوس الأموال القادمة لأي دولة بقصد الاستثمار الملموس أو المالي “النظري”؛ كالاستثمار في البورصة مثلاً.
وفقاً لموقع ريتال تركيا الإخباري، فإن ضعف تدفق السيولة المالية للاستثمار في القطاعين المادي والمالي، وانسحاب بعض الشركات الضخمة، كفرع شركة بست باي الإلكترونية مثلاً، من تركيا، لعب الدور الأكبر في انخفاض قيمة العملة التركية
وبحسب صحيفة خبر ترك، فإن ميزان المدفوعات التركي شهد في الآونة الأخيرة على جميع الأصعدة، لا سيما فيما يتعلق بالحساب الجاري، حيث بلغ حجمه 4.2 مليار دولار بانتهاء الربع الأول من عام 2018. أي أن هناك تراجع نسبي في معدلات السياحة وارتفاع معدل الواردات على حساب الصادرات. وطبقاً للخبير الاقتصادي، ساردار بازي، المحلل المالي في بنك “كيو أن بي” فرع تركيا، فإن ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً ترتب على ارتفاع عجز ميزان المدفوعات التركي، إذ تغطي تركيا ما نسبته 99% من الطاقة عبر الاستيراد من الخارج، وهذا ما أثر سلباً في ميزان المدفوعات، خاصة في فصل الشتاء، على الرغم من ارتفاع حجم الصادرات بنسبة 14.8% في الربع الأول من العام الجاري.
لكن وفقاً لموقع ريتال تركيا الإخباري، فإن ضعف تدفق السيولة المالية للاستثمار في القطاعين المادي والمالي، وانسحاب بعض الشركات الضخمة، كفرع شركة بست باي الإلكترونية مثلاً، من تركيا، لعب الدور الأكبر في انخفاض قيمة العملة التركية. وتُجاري صحيفة قرار موقع ريتال مشيرةً إلى أن هناك ضعف في تدفق السيولة الشخصية الأوروبية، كالسيولة المصروفة على شراء البيوت مثلاً، إلى تركيا. وربما لتدهور العلاقات السياسية التركية ـ الأوروبية من جهة، والتركية ـ الأمريكية من جهة أخرى، تأثير في تراجع تدفق العملة الأجنبية، بل وانسحابها، فضلاً عن اتجاه محاكم أمريكية لفرض عقوبات على بنك “هلق” الحكومي، وتخوف المستثمرين والمساهمين من أن تصيب هذه العقوبات بنوك ومؤسسات أخرى.
وفي ضوء ذلك، أشار موقع بورصة غوندام إلى أن حجم الاستثمار الأجنبي المباشر لتركيا انخفض من 16.5 مليار دولار لعام 2015، إلى 10.8 مليار لعام 2018.
تناقض تصريحات الرئيس مع سياسات البنك المركزي
لطالما خرج الرئيس أردوغان بتصريحات لاذعة ضد تلويح البنك المركزي التركي برفع الفائدة للمساهمة في استقطاب السيولة الأجنبية التي تزيد من أصول البنك المركزي والبنوك الأخرى الفاعلة في تركيا.
الانتخابات المُبكرة وما تبعها من حالة غموض وترقب، لعب دوراً في تراجع تدفق العملة الاجنبي
المستثمر جبان يخشى من تقلب قرارات السياسة النقدية، وهذا، ربما، ما أسهم بشكلٍ أو بآخر بتراجع حجم السيولة الأجنبية الداخلة لتركيا، الأمر الذي ساهم، بشكلٍ ما، في خفض قيمة الليرة التركية، بل وحرمان الليرة التركية من التفوق على الفائدة التي ينالها المستثمر عند إيداعه نقوده بالدولار داخل تركيا ذاتها. ولعل اضطرار الرئيس أردوغان، الأربعاء، 23 أيار/مايو، للموافقة على قرار رفع البنك المركزي للفائدة لتدارك انهيار العملة التي وصلت قيمتها لـ 4.92 مقابل 1 دولار، لتعود إلى 4.5 بعد رفع الفائدة، يأتي بعد الضرورة المُلحة لذلك.
العمليات الأمنية في شمال سوريا والعراق وتطورات الانتخابات المُبكرة
كما أُسلف الذكر، رأس المال جبان، ويخشى من حالة عدم الاستقرار أو الغموض الفاعلة أو المُحتملة. وقد سبب استمرار العمليات الأمنية في شمال سوريا والعراق، وهذا ما يُطلق عليه “بالأخطار الجيوسياسية”، بتراجع تدفق السيولة الأجنبية عبر الاستثمارات والسياحة وغيره، إلى تركيا. وقد زادت جسامة هذه الأخطار بعد الحديث عن احتمال استهداف الولايات المتحدة لإيران في سوريا والعراق، وإشارة تركيا إلى رفضها الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في هذه السياسة. وقد كان لافتاً فقدان الليرة التركية لما نسبته 3.9%، والروبل الروسي 10%، والريال الإيراني 11.2%، بعد اجتماع قادة البلاد المذكورة في أنقرة، وتأكيدها على أن مسار الآستانة هو المسار “الصحيح والبديل” لتسوية الأزمة السورية.
كما أن الانتخابات المُبكرة وما تبعها من حالة غموض وترقب، لعب دوراً في تراجع تدفق العملة الاجنبية. ووفقاً لما أوضحته زينب أراتامان، عميدة كلية العلوم الإدارية والاقتصادية في جامعة بيري رئيس، لبلومبيرغ، فإن الأخطار الأمنية والسياسية وحالة الغموض تؤثر بنسبة 60 إلى 70%، أما التضخم وعوامل الاقتصاد العام “الماكرو” الأخرى فتؤثر بنسبة 30 إلى 40% في فقدان الليرة التركية لقيمتها.
تواجه الليرة التركية عوامل داخلية وخارجية أسهمت في خفض قيمتها، ولعل ارتفاع نسبة العجز في ميزان المدفوعات، وانعدام الرؤيا الواضحة في السياسة النقدية للبنك المركزي، هما العاملان الرئيسيان في هذا التدهور
أما العوامل الخارجية فيمكن سردها على النحو التالي:
خفض بعض الوكالات التصنيف الائتماني لتركيا
البداية كانت من “موديز”، ومن ثم ستاندرد آند بورز وفيتش وغيرهما من الوكالات التي خفضت التصنيف الائتماني لتركيا، والذي يعني قياس مدى قدرة البنوك والمؤسسات التركية على سداد قروضها، ما أدى إلى تراجع قدرة بعض البنوك والمؤسسات على استقطاب السيولة الخارجية، وأوقف، ولو جزئياً، التدفق الاستثماري لتركيا.
حديث الرئيس الأمريكي ترامب عن حربٍ تجاريةٍ قادمة
لم يكتفِ الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بالتلميح، بل أوضح بصريح العبارة أن هناك تنافس “حرب” اقتصادي قادمة ضد الصين التي “تستولي على الاقتصاد العالمي، وتضر بالاقتصاد الأمريكي” على حد تعبيره. تزيد هذه التصريحات من احتمال اتجاه الولايات المتحدة نحو فرض حمائية اقتصادية واسعة ضد الصين التي تمثل أكثر من 40% من المعاملات العالمية التي تربط الصين ارتباطاً اقتصادياً وثيقاً بعدد من الدول، ومن ضمنها تركيا.
الحديث عن احتمال رفع المركزي الأمريكي للفائدة
ولم يؤثر هذا العامل في قيمة الليرة التركية فقط، بل أثر سلباً في قيمة العملة الجنوب أفريقية والبرازيلية، وغيرها من الدول الأسرع نمواً. ويُعد ذلك طبيعياً في حسابات تنقل الأموال الساخنة أو العائمة التي تبحث دوماً عن الفائدة الأكبر لتعوم بها وتستفيد منها. ويرتفع احتمال انجذاب هذه الأموال تجاه الدولار أكثر، نظراً لما يتمتع به ودولته من قوة اقتصادية وأمنية وسياسية، “فلا خاسر مع الدولار”.
في الختام، تواجه الليرة التركية عوامل داخلية وخارجية أسهمت في خفض قيمتها، ولعل ارتفاع نسبة العجز في ميزان المدفوعات، وانعدام الرؤيا الواضحة في السياسة النقدية للبنك المركزي، هما العاملان الرئيسيان في هذا التدهور. ويبدو أن رفع الفائدة، وتطبيق سياسات اقتصادية تكفل للمستثمر الأجنبي عدداً من الامتيازات والتسهيلات، إلى جانب الإسراع في التخلص من الأخطار الجيوسياسية، وغيرها من الخطوات قد تكفل لليرة التركية استعادة عافيتها.