في أول ظهور إعلامي له عقب تكليفه بمنصب رئاسة الحكومة الإيطالية، حاول المحامي “جوزيبي كونتي”، طمأنة جيران إيطاليا بأنه لن يحاول الإضرار بالاتحاد الأوروبي، في ظلّ الخوف المتنامي من سياسات الشعبويين المرتقبة في هذا البلد الذي يعتبر أحد مؤسسي الاتحاد.
طمأنة الشركاء الأوروبيين
رئيس حكومة إيطاليا المكلف “جوزيبي كونتي”، قال في كلماته بعد حصوله على تفويض لتشكيل الحكومة، “نحن نمر بمرحلة صعبة ودقيقة وتحديات كبيرة ولذلك فإننا بحاجة إلى التأكيد أن إيطاليا ستظل في الاتحاد الأوروبي”.
وقال كونتي إن حكومته ستدافع عن مصالح الإيطاليين العاديين، ولكنه أقر بأنه سيتعين عليها الوفاء بالتزاماتها الأوروبية والدولية. وقال كونتي أيضا إنه واع بضرورة دعم مكانة إيطاليا في أوروبا وفي العالم، وإنه على الحكومة أن تعمل بجهد بخصوص الميزانية الأوروبية، وإصلاح قانون الهجرة، وتحقيق الاتحاد المصرفي.
ويتعين على كونتي، الذي كلّف بتشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة، والتي تضم حزبي حركة خمسة نجوم والرابطة “من اقصى اليمين”، أن يضع قائمة بأعضاء حكومته يقرها رئيس الجمهورية قبل أن يصبح بوسع الحكومة أداء اليمين.
تطمينات “كونتي” للأوروبيين لن تتجاوز مجرّد التصريحات وفقًا لعديد المراقبين
وكونتي، المدعوم من حزبي حركة خمسة نجوم والرابطة، ليس له أي منصب منتخب، كما أنه لا يملك أية خبرة سياسية أو إدارية. وهو أستاذ جامعي من مدينة فيرنسي ومقرّب من “حركة النجوم الخمس”. وقد وُلد في عام 1964 في قرية فولتورارا أبولا الصغيرة الواقعة في منطقة بوليا جنوب ايطاليا.
وكان زعيم “حركة النجوم الخمس”، لويجي دي مايو، قد ردّ على كل من انتقد اختياره كونتي لرئاسة الوزراء، خصوصاً أنه لم يُنتخب، فقال “إن كونتي جزء من فريق عملي، بالتالي فإن 11 مليون إيطالي انتخبه”. وكان دي مايو قد عرض اسم كونتي ضمن فريق وزرائه قبيل الانتخابات العامة في 4 مارس/ آذار، وأوكل إليه تسهيل البيروقراطية التي ترهق البلاد.
خشية أوروبية
تطمينات “كونتي” للأوروبيين لن تتجاوز مجرّد التصريحات وفقا لعديد المراقبين. ويتوقع أن تضع حكومة كونتي المرتقبة حدا لأزمة سياسية استمرت لأكثر من شهرين في ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، لكن موقف الائتلاف المشكك بالمعاهدات الأوروبية والمعادي للهجرة أثار قلق مسؤولين أوروبيين كبار.
ومن المنتظر أن يتولى زعيم حزب رابطة الشمال المتطرفة ماتيو سالفيني أحد أبرز المناصب الحكومية، وهي حقيبة وزارة الداخلية، ما سيسمح له بمتابعة سياسات مكافحة الهجرة الصارمة التي وعد بها. فيما يتوقع أيضا أن يرأس حليفه الجديد زعيم حزب حركة خمس نجوم، لويجي دي مايو، وزارة جديدة تشمل التنمية الاقتصادية والعمل، حيث يمكنه تنفيذ وعده الرئيسي في الحزب بتقديم إعانات الدخل الأساسية للفقراء.
تخشى كل من فرنسا وألمانيا من سياسات إيطاليا المرتقبة
تعيين “كونتي” على رأس الحكومة الشعبوية، جاء بعد مفاوضات أجرتها حركتي “خمس نجوم” و”الرابطة اليمينية المتطرفة” لأيام، انطلاقاً من اتفاقهما على عدد من القضايا الأساسية، التي تبدأ من معارضة النظام السياسي والحزبي التقليدي القائم ومنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي، ووعود بتخفيض سن التقاعد، ومنح راتب لكل مواطن، وبوقف الهجرة وترحيل 600 ألف مهاجر ولاجئ، ما أثار قلقًا أوروبيًا عبر عنه وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، الذي أبدى مخاوف حيال استقرار منطقة اليورو.
هذه المخاوف لم تصدر عن الفرنسيين فقط، بل أثار وصول الشعبويين إلى السلطة في واحدة من أهم وأكبر دول الاتحاد الأوروبي مخاوف ألمانيا أيضا، حيث قال ميشائيل روت، وزير الدولة للشؤون الخارجية أمس الخميس،”إنّ أوروبا في أمس الحاجة أكثر من السابق إلى شريك إيطالي يشغل مكانا في قلب أوروبا ولا يهتم بخدعة الأمن القومي”. مؤكداً “أن وصول الشعبويين إلى روما مدعاة للقلق”.
وتؤكّد استطلاعات رأي سابقة شعور قرابة نصف الإيطاليين، بخذلان في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، بسبب سياسات اقتصادية وتجارية، وليس آخرها “ترك إيطاليا تواجه أزمة الهجرة وحدها”، كما يقول من يشعر بامتعاض من بروكسل.
مصادر القلق الأوروبية
الملف الاقتصادي
مصدر القلق الأوروبي، ينطلق من البرنامج الاقتصادي للحزبين الذي تضمنه برنامجهما الانتخابي، وساهمت سياسات الحكومة المرتقبة، التي تشمل وعودا بخفض الضرائب وتخفيف التقشف وتعزيز الإنفاق على الرعاية الاجتماعية، في واحدة من أكثر بلدان العالم مديونية، في إثارة القلق في بروكسل والأسواق المالية.
ما يثير قلق الأوروبيين أيضًا الإصرار على “ترحيل 600 ألف لاجئ”، كما وعد سالفيني
ويخشى الاتحاد أن يطبق رئيس الوزراء الإيطالي الجديد التخفيضات الضريبية التي ينص عليها برنامج رابطة الشمال والتي تصل إلى 50 مليار يورو سنويا، وكذلك 17 مليار يورو أجور للعاطلين وفق برنامج حركة الخمس نجوم، بالإضافة إلى تغييرات في إصلاح نظام التقاعد عام 2011، والذي ربما يكلف البلاد 15 مليار يورو سنويا. وبحسب بعض التقارير الإعلامية، فإن إجمالي هذه الفاتورة يمكن أن يدفع إيطاليا إلى تجاوز عجز سنوي يبلغ 3% الذي حدده الاتحاد الأوروبي.
ملف الهجرة
ما يثير قلق الأوروبيين أيضا الإصرار على “ترحيل 600 ألف لاجئ”، كما وعد سالفيني، زعيم “الرابطة اليمينية المتطرفة”، وتبني حركة “النجوم الخمس” مقولة أن “إيطاليا لا يمكنها أن تكون مخيم أوروبا للاجئين”، خاصة وأن الاتحاد يحضر لقمته في يونيو/حزيران المقبل، وعلى جدولها يحضر التعاون الأوروبي في مجال الهجرة والإدارة الاقتصادية الجماعية.
يعتبر ملف الهجرة أبرز الملفات الخلافية
ولا يخفي هذا التحالف رغبته بتعديل اتفاقية دبلن للجوء، وهو ما ستسعى روما الشعبوية إلى ضعه على طاولة مجلس أوروبا، بحسب ما ذهب إليه الطرفان، الخميس الماضي، إذ طالبا بقية الأحزاب بدعم مطلبهما أمام الأوروبيين. وخلال سنة 2017، بلغ عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى إيطاليا بحرا أكثر من 119 ألف شخص، مقابل 181 ألفا في 2016، واستنادا إلى معطيات وزارة الداخلية، فقد تم في عام 2017 ترحيل ستة آلاف و340 أجنبيا لمخالفات تتعلق بالإقامة.
الخطاب الشعبوي
إلى جانب ذلك، يخشى الأوروبيين من تنامي استخدام خطابات تحمّل الآخرين مسؤولية أزمات إيطاليا، وسبق أن أنتج ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فبخطاب قومي متشدد ذهب سالفيني إلى شعاره “الاتحاد الأوروبي كارثي”، ورغبته بضرورة “خروج إيطاليا من منطقة اليورو”. ولم تختلف “النجوم الخمس” في التقييم حول مسؤولية أوروبا عن أزمات إيطاليا الاقتصادية.
ويبدو تشكيل حكومة شعبويين وفاشيين في بلد أوروبي مركزي، يحتل المرتبة الثالثة في منطقة اليورو، مع تقدم لهذا التيار الشعبوي في عدد من دوله، مثل ألمانيا وهولندا وفرنسا، وتوسع نفوذه في النمسا، وزيادة المتشككين بفكرة وجود الاتحاد الأوروبي، كابوساً لا يمكن تجاهل نتائجه. ويخشى الأوربيين وخاصة فرنسا وألمانيا من أن وصول حكومة شعبوية تعارض المؤسسات الأوروبية، سيكون نقطة جذب لبقية المشككين في أوروبا، ومعارضي الإدارات السياسية التقليدية.
لا يخفي الشريكين رغبتهما في تطوير العلاقات مع موسكو والتوجه نحو الشرق
وبهذا تكون إيطاليا المثقلة بالديون والمشاكل قد انضمت – إذا ما صادق البرلمان، على الحكومة المرتقبة، إلى صف دول أوروبية قد اصطفت في وقت سابق على أقصى يمين الصف الأوروبي، مثل الجارة النمسا والقريبة هنغاريا، وكلتاهما تشكوان من قضيتي اللجوء والمهاجرين.
السياسة الخارجية
من النقاط الخلافية التي يخشاها الأوروبيين أيضًا، ما يتعلّق بالسياسة الخارجية، فتبدو “الرابطة” و”النجوم الخمس” أكثر توجسًا وتشككًا بفكرة حلف شمال الأطلسي والتعاون الدفاعي الأوروبي، وأكثر ميلاً لانتقاد سياسات واشنطن، خصوصاً في قضية طلب زيادة الموازنة الدفاعية.
خشية أوروبية من توجه إيطاليا نحو روسيا
ويرى الحزبين في “روسيا شريكا ضروريا لإنقاذ الاتفاق النووي مع إيران، من دون إغفال أن إيطاليا أحد أهم شركاء إيران التجاريين في أوروبا”. ولا يخفي الشريكين رغبتهما في تطوير العلاقات مع موسكو والتوجه نحو الشرق.
ويرى الاتحاد الأوروبي في توجه روما “شرقا” تقويضا وتحديا لسياساته المشتركة في شأن القضية الأوكرانية، ونظام العقوبات على موسكو، فالطرفان الإيطاليان يضعان العلاقة مع روسيا في موقع تفضيلي على علاقة روما بغرب أوروبا.