المعلومات مقابل الراحة، ومقابل الخدمات المجانية الأكثر مرونة والأكثر سرعة بالتأكيد، هذا هو شعار مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعرض عليك الخدمات التي تسيطر تقريبًا على أغلب نشاطاتك اليومية مقابل الحصول على معلومات تتيح لك فرصة التمتع والحصول على تلك الخدمات مقابل كل معلومة شخصية تقوم بمنحها طوعًا لمقدم الخدمة، سواء كان جوجل أو فيسبوك أو إنستغرام.
الحصول على المعلومة والوصول إليها والحرية في نقلها وتبادلها مع الآخرين هو حق من حقوق الإنسان في المجتمع الديموقراطي الذي يكفل حق الإنسان في التعلم والوصول إلى المعلومة دون عوائق مثل حجب مصادر المعلومة أو حظر الوصول إليها إلى آخره من وسائل حجب المحتوى المعرفي، والذي طالما تدخلت فيه الحكومات والسلطات بشكل أو بآخر على الكتب ووسائل الإذاعة والتلفزيون.
جاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتكسر تلك القاعدة، وتقدم لجميع شرائح المجتمع فضاءًا واسعًا يصلون فيه إلى المعلومة ويستطيعون تبادلها ونشرها بشكل حر وبدون قيود، إلا أن كل ذلك احتاج مقابل، فكيف يمكن أن تدير تلك الشركات منصات عملاقة مثل جوجل وفيسبوك تضم مئات الملايين من المستخدمين، يستخدمونها بشكل يومي دون الاستفادة منهم، وكما أجاب “مارك زوكربيرغ” بكل بساطة حينما سأله أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي في جلسة الاستماع، كيف تربح الشركة من منصة مجانية تمامًا ليجيبه الأول بكلمتين: “ندير الإعلانات”.
ولكن لم تكن تلك المنصات تدير الإعلانات بشكل موضوعي للتربح فحسب، بل كانت تستغل كل مئات الملايين من المستخدمين الموجودين عليها من خلال استغلال معلوماتهم الشخصية ونشاطهم الرقمي من خلال كل ضغطة يضغطونها سواء كانت للإعجاب بمنشور أو لإعادة نشره أو لترك تعليق ما هنا أو هناك، واستخدام كل ذلك من أجل أغراض تجارية أو سياسية من خلال استهداف الفرد الصحيح في الوقت الصحيح والمكان الصحيح.
“مارك زوكربيرغ أثناء جلسة الاستماع”
كان أبرز الأحداث التي شغلت الرأي العام باستغلال مواقع التواصل الاجتماعي لبياناتهم الشخصية لأغراض سياسية دون علمهم هو ما عُرف بـ “أسبوع الفضائح” الذي كشف استغلال شركة تحليل البيانات “كامبريدج أنالاتيكا” لبيانات أكثر من 50 مليون مستخدم في الولايات المتحدة لاستهدافهم لأغراض سياسية تساهم في نجاح حملة المرشح الرئاسي والرئيس الحالي للولايات المتحدة “دونالد ترامب”.
من الواضح أن الأوروبيين أول من سيجد طريقًا جديدًا لمزيد من التحكم في بياناتهم على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي بشكل سيُغير من شكل حماية الأفراد لبياناتهم على تلك المنصات
كانت الاستجابة، كما هو الحال في كل مرة تتورط شركة تكنولوجيا وتواصل اجتماعي عملاقة في مصيبة ما، على المستوى الشخصي، أي على مستوى المستخدمين، ثار الجميع واتهموا فيسبوك بتكوين إمبراطورية من مواقع التواصل الاجتماعي هدفها استغلال بيانات المستخدمين ونشاطهم الرقمي واختراق خصوصيتهم من أجل التربح لأغراض تجارية وسياسية، حتى أن بعضهم قام بحملة “احذفوا فيسبوك” التي شارك فيها عدد كبير من المستخدمين من بينهم مشاهير مثل “إيلون ماسك” لمسح حساباتهم الشخصية من على فيسبوك.
تسبب ذلك في خسارة الشركة ملايين من الدولارات من أرباحها، استعادتها من جديد بمجرد موافقة رئيس الشركة “زوكربيرغ” على الإدلاء بشهادته أمام أعضاء من الكونجرس الأمريكي غير مطلعين كليًا بطريقة عمل منصة مثل منصة فيسبوك، وبدا فيها الأخير مديرًا بريئًا لشركة لم يكن يدري مدى احتمالية أن تصير بهذا السوء.
الاتحاد الأوروبي يتدخل لوضع حد لمنصات التواصل الاجتماعي
على الرغم من أن هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها مواقع التواصل الاجتماعي الحكومات والقوانين والدول في سابقة من نوعها في تاريخ مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه هي المرة الأولى التي تدخل الدول والقوانين لوضع حد لمواقع التواصل الاجتماعي ومنعها من التصرف على هواها على حساب بيانات المستخدمين، أو في هذه الحالة المواطنين، كما يحلو لها للتربح منها بشتى الطرق الممكنة.
من الواضح أن الأوروبيين أول من سيجد طريقًا جديدًا لمزيد من التحكم في بياناتهم على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي بشكل سيُغير من شكل حماية الأفراد لبياناتهم على تلك المنصات، من خلال إعادة السلطة للأفراد بدلًا من مركزيتها لدى شركات التكنولوجيا الضخمة التي تعمل على كسب المليارات من الدولارات من خلال التحكم في مزيد ومزيد من البيانات والمعلومات الشخصية عن كل مستخدم، وهو ما يراه خبراء “حماية البيانات” الأوروبيين تطورًا أكثر منه ثورة على التكنولوجيا.
ولكن ما الذي سيفعله الاتحاد الأوروبي بالتحديد؟ دعنا نفسر لك “قانون حماية البيانات” ضمن “اللائحة العامة لحماية البيانات” (GDPR) التي اعتمدها كل من البرلمان والمجلس الأوروبي في شهر نيسان/إبريل من العام الماضي ليتم تنفيذها بداية من اليوم، والتي من المتوقع أن تُغير قوانين حماية البيانات التي يعمل بها الاتحاد الأوروبي منذ عام 1995.
This is it.
Today, our EU #DataProtection rules enter into application, putting the Europeans back in control of their data.
Europe asserts its digital sovereignty and gets ready for the digital age.
Read our statement → https://t.co/P19IRPWfqv #GDPR pic.twitter.com/hwCKSj2TjE
— European Commission (@EU_Commission) May 24, 2018
إعلان بداية تنفيذ “اللائحة العامة لحماية البيانات”.. الأوروبيون يعودون للتحكم في حماية بياناتهم الشخصية
ستعمل اللائحة على إعادة السلطة للأفراد للتحكم في بياناتهم بدلًا من تحكم شركات التكنولوجيا الضخمة بالإضافة إلى تحكم بعض الشركات التجارية بها
لا تُمكن اللائحة الأفراد من التحكم في بياناتهم على منصات ومواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعي فحسب، بل تُمكنهم من الاطلاع على المعلومات التي تعرفها عنهم مواقع مثل فيسبوك و أمازون وإنستغرام التي تستخدمها لأغراض تجارية أو سياسية للتلاعب بهم والتأثير على قراراتهم من خلال تلك المنصات، هذا يعني أن اللائحة ستفرض على شركات مثل فيسبوك وأمازون إلقاء الضوء على ما في جعبتها من بيانات ومعلومات عن المستخدمين من الاتحاد الأوروبي وإلقاء الضوء أيضًا على ما تفعله بها وما يفعله الآخرون بها من خلال تلك المنصات كوسيط.
“تعد لائحة حماية البيانات من أكبر تدخلات الحكومة في المنصات الرقمية في تاريخها”
إن كنت في الاتحاد الأوروبي، فهذا يعني أنه سيكون لديك الفرصة لمعرفة كيف يخزن فيسبوك وأمازون وغيرهم بيانات، وكيف ومن يستخدمها ولأي غرض، كما سيسمح لك بحق مسح كل بياناتك المخزنة لديهم إن أردت أن تمسح وجودك كليًا من على تلك المنصات فعلى كل من جوجل وفيسبوك الاستجابة لطلبك وعدم تخزين البيانات واستخدامها بعد مسحك لحساباتك الشخصية.
Google and Facebook accused of breaking GDPR laws https://t.co/r21nBJdRxM
— BBC News (UK) (@BBCNews) May 25, 2018
شكاوى ضد كل من جوجل و فيسبوك لكسر قوانين لائحة حماية البيانات منذ تنفيذها من اليوم الأول
يتعين على مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا طبقًا لـ “اللائحة العام لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي” أن ترسل للمستخدم إشعارًا فيه بيان باستخدام بياناته على منصة ما لغرض تجاري أو سياسي خلال 72 ساعة من استخدامها دون تأخر عن ذلك، بالإضافة إلى حق المستخدم في أي شركة يعمل بها أن يطلب من المسؤول عنه أو مديره بريدًا إلكترونيًا يحمل كل معلوماته الخاصة في الشركة مثل “تقييم عمله” “كلمات السر الخاصة به” ليكون للفرد مسؤولية التحكم بها.
ربما يبدو ذلك بعيد المنال قليلًا، خصوصًا بعد أن توقع الأغلبية إلزام أعضاء الكونجرس الأمريكي بعد جلسة الاستماع شركة فيسبوك بالكثير من اللوائح والالتزامات وفرض عقوبات مادية على الشركة، إلا أن الأمر انتهى ببضعة اعتذارات من “مارك زوكربرغ” ومزيدًا من ملايين الأرباح لشركته في أثناء جلسة الاستماع نفسها.
يعتمد الاتحاد الأوروبي حماية البيانات الشخصية حقًا من حقوق الإنسان
ولكن خطوة الاتحاد الأوروبي تبدو مختلفة كليًا عما حدث في جلسة الاستماع الأمريكية، إذ أن اللائحة العامة لحماية البيانات تلزم كل شركة تخالف مواد اللائحة أن تدفع غرامة تساوي 4٪ من دخلها السنوي وإن كانت تلك النسبة لا تساوي 24 مليون دولار فسوف يتعين عليها دفع ذلك المبلغ في حالة المخالفة.
اليوم الخامس والعشرين من مايو/آيار تدخل اللائحة العامة حيز التطبيق، وتسمح لكل مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي من أن يقوم بتحميل نسخة كاملة من بياناته المتواجدة على تلك المنصات لمعرفة كل ما تحويه في جعبتها عنه، بالإضافة إلى إلزام كل الشركات التي تود العمل مع الشركات المتواجدة داخل الاتحاد الأوروبي بالتعامل طبقًا للائحة حماية البيانات إن أرادت استمرار عملها مع الشركات الأوروبية.
إن كنت تعتقد أن شركات أخرى لا توجد على أرض الاتحاد الأوروبي ستفلت من تطبيق اللائحة فأنت مخطئ، ستُفرض اللائحة على أي شركة وعلى أي منصة تتعامل مع زبائن أو مستخدمين متواجدين داخل الاتحاد الأوروبي، ووسط موجة من الانتقادات حول كون تلك اللائحة هي وسيلة أخرى من وسائل رقابة منصات التواصل الاجتماعي وما بين أصوات مؤيدة لتنفيذها من أجل حماية خصوصية المستخدمين من جشع منصات التواصل الاجتماعي والشركات التجارية سيظهر في الشهور القادمة مدى فعالية تلك اللائحة وما إن ستطبقها دول أخرى.