قد يكون العلاج النفسيّ من أهمّ المجالات التي توصّلا إليه العلم الحديث مع بداية القرن الماضي، إذ يُعطي منذ ذلك الوقت للأفراد فرصةً كبيرة لرفع مستويات رفاهيتهم وتحسين انفعالاتهم وتطوير علاقاتهم واسترداد توازنهم العاطفيّ ومساعدتهم بالخروج من أزماتهم ومشاكلهم العاطفية والاجتماعية والمهنية وغيرها الكثير.
ولعلّ اختلاف أشكاله وتنوّع طرقه ساهمت بشكلٍ كبير في إثبات نجاحه وازدياد إقبال الأفراد عليه، فما بين الطبّ النفسيّ الذي يعتمد على الأدوية والتدخل في كيمياء الدماع وأعصابه، أو العلاج المعرفي السلوكيّ الذي يعلّمنا جدليات المنطق في التعامل مع الحياة وأفكارها، أو العلاجات الحديثة التي ما تزال قيد الدراسة كالعلاج بالفن والموسيقى أو العلاج الجماعيّ، يجد الأفراد أنفسهم أمام خياراتٍ جيدة تعطيهم بعضًا من العزاء وتساعدهم على تحمّل صعوبات الحياة العديدة.
العلاج المعرفيّ السلوكيّ: تصرفاتك هي نتاج أفكارك
يرى هذا النوع من العلاج أنّ أفكارك ومشاعرك الداخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتصرفاتك وسلوكيّاتك، لذلك يعمل على مبدأ تغيير أنماط التفكير للتمكّن من تغيير السلوكيات والتصرفات التي يأتي بها الفرد، وبالتالي تغيير الطريقة التي يشعرون بها تجاه ما يمرّون به من تجارب ومواقف في حياتهم اليومية بتفاصيلها المتعددة.
ويعدّ العلاج المعرفيّ السلوكيّ “CBT” ناجعًا في حالات الاكتئاب والقلق، بالإضافة للعديد من المشاكل العقلية والنفسية الأخرى ومشاكل صعوبات النوم أو العلاقات العاطفية والاجتماعية، أو المشاكل الناتجة عن إساءة استخدام المخدرات والكحول والإدمان عليهما، أو المشاكل المتعلقة بالأكل وزيادة الوزن.
وباختصار، يركّز CBT على تغيير مواقف الناس وسلوكهم من خلال التركيز على أفكارهم ومعتقداتهم المرتبطة بتلك المواقف لإيجاد حلول أفضل للتعامل معها. وتكمن ميّزته الأساسية في أنه يعدّ من العلاجات النفسية قصيرة الأجل، إذ قد يكون أطول مدةٍ له 10 شهور، على اعتبار أنّ هناك جلسة أسبوعيًا تمتدّ إحداها قرابة الخمسين دقيقة تقريبًا.
يركّز هذا العلاج على تغيير مواقف الناس وسلوكهم من خلال التركيز على أفكارهم ومعتقداتهم المرتبطة بتلك المواقف لإيجاد حلول أفضل للتعامل معها
وخلال الجلسة الواحدة يحاول كلٌ من العميل والمعالِج معًا فهمَ ماهية المشكلات الحاصلة وتحليلها إلى أجزاء منفصلة مثل الأسباب والأفكار والأحاسيس والمخاوف المرتبطة بها وما إلى ذلك، ومن ثمّ العمل على تطوير استراتيجيات جديدة للتعامل معها ومساعدة المريض على تغيير أفكاره وسلوكياته غير المفيدة، إلى جانب الوصول إلى عدد من المبادئ والآليات التي يمكن تطبيقها في الحياة اليومية، خاصة بعد انتهاء الجلسات.
ويستند هذا النوع من العلاج إلى النظرية أو النموذج الذي يرى أنّ الأحداث ليست هي ما يزعجنا، بل المعاني التي نعطيها لها ونحمّلها إياها. فإذا كانت أفكارنا سلبية للغاية، فإنها قد تمنعنا من رؤية الأشياء على حقيقتها أو تدفعنا للقيام بسلوكيات وتصرفات لا تتناسب مع تلك الأحداث، وهنا يحدث انزعاجنا وتتولّد مشكلاتنا النفسية. ويتفاقم الأمر حين نواصل التمسك بنفس الأفكار القديمة ونفشل في تعلم أي شيء جديد.
فعلى سبيل المثال، قد يظنّ المصاب بالاكتئاب أنه وحيد تمامًا وعاجز عن القيام بأي أمر، أو أنّ كلّ ما يقوم به فهو محكوم بالفشل. لذلك يبدأ بالتفكير بأنه غير قادر على الذهاب للعمل، أو أنه سيزداد تعاسةً حين يذهب لأنّ كلّ شيء سيكون سيئًا ولن يسير أيّ أمر على ما يرام. لذلك سيبقى في منزله، دون أن يخوض التجربة التي قد تكشف له مدى خطأه أو التي قد تقدم له فرصة لمعرفة أنّ أفكاره كانت محض أوهام. ومع ازدياد حدّة هذا التفكير، ينشأ المرض أو المشكلة النفسية أشبه بالدوامة التي لا تنتهي، وتمتدّ إلى جوانب أخرى في الحياة حتى لدرجة أن تغطى عليها جميعًا.
يستند العلاج السلوكي المعرفيّ إلى النظرية أو النموذج الذي يرى أنّ الأحداث ليست هي ما يزعجنا، بل المعاني التي نعطيها لها ونحمّلها إياها.
هنا يكون دور المعالِج كالآتي: أولًا، يساعدك في أن تدرك أنّ لديك مثل هذه الأفكار من خلال تحليلها والغوص فيها، ومن ثمّ شرح كيفية حدوثها وتطوّرها. لاحقًا، يعمل المعالِج على مساعدة المريض في الخروج من أفكاره التلقائية التي كوّنها ومحاولة اختبار وجودها وواقعيّتها، كأنْ يشجّع المصاب بالاكتئاب في المثال السابق على الخروج من المنزل والذهاب للعمل لاختبار النتائج التي ترتبط بهذا الفعل.
ومن منظورٍ أكثر واقعية، قد تتمكن من استغلال فرصة اختبار نتائج أفكارك من خلال الكشف عن شيء من الصعوبات التي تواجهها فعليًا بعيدًا عن الأوهام والمخاوف.بعد ذلك، يُعلمك مقايضة تلك الأفكار السلبية بأخرى أكثر إيجابية لتحقيق الهدف الأساسيّ من العلاج، أي التغيير في الموقف والأفكار يؤدي إلى تغيير في السلوك.
يختلف العلاج المعرفي السلوكي عن أنواع أخرى عديدة من العلاجات النفسية من حيث اعتماد جلساته على بنيةٍ محددة، فلا يوجد في خططه أنْ يتحدث المريض والمعالِج بحرية عن أيّ شيءٍ قد يتبادر إلى ذهن المريض. فيكون الهدف من الجلسات الأولية في العلاج هو تحديد مشاكل معينة ووصفها وتحديد الأهداف المرجوّة التي ينبغي العمل على تحقيقها.
فقد تكون المشاكل عبارة عن أعراض مزعجة، مثل صعوبات النوم والأرق، أو عدم القدرة على التواصل مع الأصدقاء، أو صعوبة في التركيز على الدراسة أو العمل. أو قد تكون مشاكل تفصيلية في الحياة، مثل الشعور بالإحباط في العمل ، أو مواجهة صعوبات في التعامل مع والديْك أو طفلك المراهق أو في زواجك غير السعيد على سبيل المثال.
تعدّ الواجبات المنزلية بين الجلسة والأخرى جزءًا حيويًّا أساسيًا من العلاج السلوكيّ المعرفيّ، نظرًا لأنها تساعد في تقييم سيرورة العلاج ومناقشتها مع المعالِج
وبالتالي، تصبح هذه المشكلات والأهداف أساسًا لتخطيط محتوى الجلسات وكيفية سيرها. وفي بداية كلّ جلسة، يتم الاتفاق على الموضوعات الرئيسية التي يرغب كلٌّ من المريض والمعالِج بالعمل عليها هذا الأسبوع، وتحديد الواجبات البيتية أو الفروض المنزلية التي سيطلب المعالِج من المريض تأديتها بعد الجلسة لحين موعد التي تليها.
إذ تعدّ الواجبات المنزلية بين الجلسة والأخرى جزءًا حيويًّا أساسيًا من العلاج السلوكيّ المعرفيّ، نظرًا لأنها تساعد في تقييم سيرورة العلاج ومناقشتها مع المعالِج وتمكّن المريض من متابعة تطوّره من عدمه من جهةٍ، وقد تريه جوانب أخرى من حياته قد يكون غفل عنها أو لم يعرها أيّ انتباهٍ في وقتٍ سابق، لذلك كان بحاجةٍ لإرشاد المعالِج وواجباته.
عادةً ما يكون العلاج المعرفي السلوكي علاجًا فرديًا، ولكنه أيضًا يعدّ مناسبًا تمامًا للمجموعات أو العائلات أو الشريكيْن، لا سيما في بداية العلاج. إذ يمكن للمجموعة أنْ تكون مصدرًا للدعم والتشجيع والمشورة في كثيرٍ من الأحيان، نظرًا لأنّ أفرادها يكونون قد مرّوا بنفس التجربة على اختلاف بعض تفاصيلها.
وفي السنوات الأخيرة، زاد لجوء الأفراد لهذا النوع من العلاج بشكلٍ ملاحظ، خاصة في الحالات المتعلّقة بالاكتئاب واضطراب القلق العام اللذيْن يعدّان من أكثر الاضطرابات والأمراض النفسية المرتبطة بالعصر الحديث وما يحدث فيه من تطوّراتٍ سياسية وأزماتٍ اقتصادية ومشاكل مجتمعية تنعكس جميعها على الفرد وصحته النفسية.