انتعشت الحركة الثقافية في الموصل بعد رحيل داعش وانجلاء نار الحرب، فقد برزت منتديات ومقاهي ثقافية، كما ظهرت وبشكل كبير مهرجانات تحتضن القراءة والثقافة، جذبت الكثير من الشباب، فضلًا عن ازدهار المكتبات وظهور الروايات التي تكلمت عن حقبة داعش، ولا يخفى هذا عن الموصل فهي حاضرة من حواضر الدنيا القليلة، لها عمقها التاريخي والجغرافي والعلمي.
انطلاق الحركة الثقافية بعد التحرير
تصور الكثيرون أن تخرج الموصل وشبابها وهم عبارة عن أناس محطمين وغير راغبين في الحياة، لكن الشباب أثبتوا العكس تمامًا، فقد خرجوا بطاقةٍ كبيرة جدًا، مع أمل وحب للحياة، تجسّد هذا في أعمال خيرية وإنسانية، وبرز بشكل رائع ومؤثر في المشاريع والمهرجانات الثقافية.
وفي حوار مع الناشط والإعلامي محمود النجّار، أجابنا عن ازدهار الثقافة بعد التحرير قائلًا: “بدأت حكاية الحركة الثقافية بعد تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم داعش الإرهابي عام 2017، حيث كانت الشرارة الشبابية سببًا في انفتاح المدينة نحو تبني لغة التراث والفن والموسيقى والفعاليات الثقافية التي تؤكد أهمية الانفتاح الفكري والثقافي نحو الشعوب الموجودة في محافظة نينوى، بهدف رفع مستوى الوعي والتقبل المجتمعي ونشر مفاهيم الديمقراطية المتزنة والحرية المنضبطة، الأمر الذي يسير نحو تبني قيم وأخلاقيات ترقى بالإنسان وتحافظ على تراثه وحضارته، وهذا التحول كان له أثر مجتمعي كبير في إحياء الأمل لبيوت الموصل من جديد”.
تجسّدت الحركة الثقافية بمشاريع حيوية ولها ديمومة وتحولت القراءة من مجرد ردة فعل إلى نشاطات ومؤسسات لها أهدافها وفعالياتها المستمرة
ما أهمية الحركة الثقافية للشباب الموصلي؟
الكثيرون يتساءلون عن التغيير وبداية الحياة الجديدة وخصوصًا المدن التي خرجت من قريب من الحرب، هل للحراك الثقافي أثره على شباب هذه المدن، أم أنه مجرد نشاطات لسد الفراغ وقضاء الأوقات؟ يجيبنا عن السؤال الناشط والإعلامي محمود النجار قائلاً: “إحدى أهم مفرزات الإرهاب كانت وصول الرسالة الثقافية لسكان الموصل التي كان مضمونها صريحًا لكسر الطبائع المتوقعة والبدء بحركة ثقافية تؤكد التشاركية والتوافقية، وتركز على مبادئ التعايش السلمي كونها السبيل الوحيد لإعادة إحياء المدينة.
إذ برزت أهمية الحركة الثقافية إثر مبادرات شبابية في المجال الإعلامي والصحفي وإنتاج فيديوهات قصيرة تحاول مخاطبة العقول وتنشر الثقافة المشتركة، ساعيةً لكسب الحقوق لجميع مكونات المجتمع الموصلي في محافظة نينوى، منطلقةً من أهمية عكس العادات والتقاليد المختلفة وإيصالها لأكبر شريحة من الشعب كي يكون هناك تقبل مجتمعي وتقارب في وجهات النظر التي تؤكد بالأول والأخير صيانة حضارة وثقافة المكونات بما يضمن توثيق القضايا الإنسانية”.
أهم المراكز والمقاهي الثقافية والمبادرات والمشاريع الثقافية؟
تجسّدت الحركة الثقافية بمشاريع حيوية لها ديمومة وتحولت القراءة من مجرد ردة فعل إلى نشاطات ومؤسسات لها أهدافها وفعالياتها المستمرة، ولعل المهرجانات ليست الصورة الوحيدة التي برزت، ولكن تحولت إلى مقاهٍ وأصبح لهذه المشاريع نجومها وروادها في نفس الوقت، وحدثنا الناشط والإعلامي محمود النجار عن أهم المراكز والمقاهي الثقافية قائلًا:
“من أهم المراكز الثقافية مقهى ملتقى الكتاب ومقهى قنطرة الثقافي ومقهى المسقى التراثي الثقافي الذي يقيمه مجموعة من الآثاريين والمختصين في الآثار وعلى رأسهم التاريخ الكبير جنيد الفخري، والندوات التي يقيهما شيخ الآثاريين البروفيسور أحمد قاسم الجمعة، وهناك مشاريع ثقافية عديدة كفعاليات شبكة الشرق الشبابي الثقافية ومشروع روح موصلية، وصفحات موصلية مثل دلال وراديو الغد، ومهرجانات عديدة كمهرجان القراءة الأول الذي أقامه الناشط المدني صفوان المدني ومهرجان السلام الذي أقامه الناشط المدني صقر آل زكريا، ومنصة الموصل الإعلامية الذي يديريها الصحفي صالح إلياس.
بالإضافة للروايات المجسدة لثقافة وتاريخ الموصل التي كتبها الروائيون كغادة رسول ونوزت شمدين، وثورة الدنابر التي قادها أيوب ذنون والتي كان لها أثر كبير بالتعريف على أزقة المدينة القديمة، وهناك مبادرات شبابية شخصية لتغطية البُعد الثقافي والحضاري لمدينة الموصل صورها ووثقها المصور ميسر نصير والمصور والمخرج حمزة الفخري والناشط والباحث عماد الشمري والباحث علي البارودي في مجال الآثار، وتجسيد الشخصية الموسيقية العالمية للمُلا عثمان الموصلي عن طريق النحت على يد عدنان حربو، وغيرهم من شباب الموصل والمختصين المخضرمين في مجال التراث والحضارة “.
وكذلك كان هناك دور لعازف الكمان الشاب أمين مقداد، فقد كان له دور مميز في العزف في أماكن الدمار، فقد عزف بكمانه أمام كل رصاصة قتلت فينا الأمل وغرست الألم، بعزفه قتل اليأس وأحيا الأمل.
وفي حديث لوكالة رويترز أضاف مقداد: “أود أن أستغل الفرصة لأبعث رسالة للعالم وأوجه ضربة للإرهاب وكل العقائد التي تقيد الحريات بأن الموسيقى شيء جميل، كل من يعارض الموسيقى قبيح).
مجتمعنا أصبح مؤمنًا بضرورة استئناف حياة جديدة مختلفة تمامًا عن سابقتها
لعل هذه أبرز الأنشطة والشخصيات الثقافية، لكن بلا تأكيد هناك أسماء أخرى لها دور كبير في هذه الحراك والنشاط الثقافي.
كيف تقيم الحركة الثقافية بعد التحرير؟
الوعي المجتمعي نحو قضية نابعة من إيمان المجتمع بها، وها مجتمعنا أصبح مؤمنًا بضرورة استئناف حياة جديدة مختلفة تمامًا عن سابقتها، فالواقع الجديد يحتم على الجميع النهوض وتقع المسؤولية على الشباب لأنهم رواد المرحلة، ولهذا نحتاج لتقييم الحركة الثقافية في موصل ما بعد داعش ولهذا توجهنا بسؤال للإعلامي والناشط محمود النجار فتحدث قائلًا:
“تمضي الحركة الثقافية في الموصل نحو توضيح الحقائق وتغطية أهم معالم نينوى بالشكل الذي يليق بتاريخها وعمقها الحضاري، وهذا نابع من قناعة موصلية شعبية تؤكد ضرورة نشر الصورة المشرقة الذي حاول الإرهاب تلطيخها بالعنف والدماء لأكثر من 3 سنوات، وهذه رسالة جريئة ومباشرة يهدف الموصليون من خلالها زرع القيم الإنسانية عن طريق مبادرات ومشاريع ثقافية مختلفة تعطي مؤشرًا واضحًا على إنقاذ المدينة وتنفسها هواء الحرية رغمًا عن الدمار والخراب الذي طالها بوحشية الإرهاب).
وأضاف النجار: “في هذا الصدد أود القول إن الموصل تعيش بثقافتها ودورها في نشر السلام في العراق، والشباب هم رواد المرحلة الحاليّة ولهم المستقبل الكبير في تغطية قضاياها إعلاميًا وثقافيًا، وهذا يبشر بمستقبل واعد للإعمار الفكري الذي يسبق المشاريع العمرانية التي للأسف لا ترقى لمستوى النكبة الموصلية، لكن المحاولات مستمرة وتراكم الحراك الثقافي سيتحول إلى صدى عالمي يوجه الأنظار نحو مدينة عريقة امتد أثرها لقرون عديدة”.
تعدد المدارس الفكرية في موصل ما بعد داعش ظاهرة إيجابية ومهمة وتعطي سمة المدينة الشاملة لكل الأفكار
وبعد هذه الرحلة القصيرة في الحديث عن أهمية الحركة الثقافية بعد تحرير الموصل من داعش نخرج بالتالي:
– الوعي مهم جدًا في إعادة التوازن الفكري في مدينة قبعت تحت نيران الظلم والتطرف، فمعركة الفكر والوعي يجب أن تكون مستمرة بعد أن سكتت نيران البنادق، لا ينبغي أن تسكت منابر الفكر والوعي.
– المقاهي والمنتديات الثقافية مهمة جدًا لاستقطاب وجذب الشباب لها، على أن تكون هذه الأماكن شاملة للجميع تضمن الحرية للجميع.
– تعدد المدارس الفكرية في موصل ما بعد داعش ظاهرة إيجابية ومهمة وتعطي سمة المدينة الشاملة لكل الافكار، على ألا يتطرف فكرٌ على آخر بالإقصاء بصورة أو أخرى.