سيبدو هذا السؤال متأخرًا عن زمنه، فالناس يظهرون حماسة للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، وسط احتدام الصراع بين المترشحين للمنصب، وأمس 6 أغسطس/ آب أغلق باب الترشح بانتظار معرفة القائمة النهائية للمقبولين لدى لجنة الانتخابات.
ما جدوى العودة إلى السؤال إذًا، وقد حُسم أمر المشاركة وإنهاء الحديث على أن ما قام به الرئيس الحالي يوم 25 يونيو/ حزيران كان انقلابًا على مسار ديمقراطي؟ نجادل هنا المتحمّسين من زاوية القدرة على تحويل الانتخابات إلى فرصة تغيير، أو بالأحرى استعادة الديمقراطية.
هل يملك المتحمسون خريطة طريق فعّالة أكثر من تلك الجملة اليائسة التي تُختم بها نقاشات كثيرة تخفي إحباطًا حقيقيًا: “نشارك فإن لم نفز نكون قد أحرجنا الانقلاب أمام العالم”؟ وهي جملة قريبة من جملة العجوز البدوي وقد أغار عدو على مضاربه أشبعتهم سبًّا لكن فازوا بالإبل.
فرصة على الورق
نسلّم نظريًا بوجود فرصة، فالانقلاب (ولا نزال نسميه باسمه) قبل مضطرًّا بإجراء الانتخابات. البعض يقول لثقة عند المنقلب في شعبيته وقبوله تحدي الصندوق، والبعض يقول تحت ضغوط خارجية، وهي جملة متعالمة لا تزال تظن أن العالم (حتى بعد حرب غزة) مشغول بتأسيس ديمقراطية في العالم العربي. هذه الفرصة تنعدم على الأرض ونقدّم مؤشرًا يفسّر ذلك.
تقدم أحد الحقوقيين المشهود لهم بمكافحة الديكتاتورية (الأستاذ المحامي العياشي الهمامي) بمبادرة سياسية في مارس/ آذار 2024، تقوم على توحيد المعارضة حول مرشح وحيد تحشد له كل القوى وتنافس به الرئيس الحالي.
ورغم أن الاختيار كان سيتم في كواليس وبطرق أقرب إلى العمل السرّي بعيدًا عن الناس، إلا أن المبادرة لم تسقط بسبب طريقة الاختيار (أو حول اسم الشخصية التي لم تظهر أصلًا) بل بسبب استئصالي، فالمبادر لم يستثنِ منها مشاركة الإسلاميين، فلما عرض مبادرته على الصف الاستئصالي قالوا بإجماع لا مشاركة في أي عمل أو مبادرة مع الإسلاميين، فسقطت المبادرة في المهد.
لهذا السبب نقرأ المشهد المتسارع الآن، ونصل من دون تعقيدات أن الساحة المطعونة بعقل استئصالي لن تفلح في تحويل الانتخابات إلى فرصة تغيير، وقد تأكد لدينا ذلك بأكثر من دليل غير ما ذكرنا عن المبادرة إياها، فالأيام الماضية وبعد أن أعلن عدد من الشخصيات ترشحها، عاد النقاش بلمح البرق إلى ما قبل 25 يونيو/ حزيران، أي الفرز الاستئصالي.
عدد من المترشحين ومنهم المهندس عماد الدائمي، رفيق نضال الدكتور منصف المرزوقي، وُصم منذ الساعة الأولى بأنه ورقة النهضة، وأنه غواصة المرزوقي غير الاستئصالي. وهو ليس الوحيد، فرغم أن خطاب النوايا الذي أعلنه عدد من المترشحين كان عامًّا وغير محدَّد المضامين، إلا أن الإعلام الاستئصالي التقليدي والاجتماعي فرز على أساس واضح: من لم يصرّح بوضوح عن محاسبة النهضة فهو نهضاوي أو غواصة نهضاوية.
ورغم أن حزب النهضة أعلن بوضوح أنه لا يرشح للمنصب ولا يلزم أنصاره بالمقاطعة ولا بالمشاركة، إلا أن خطابه ولسبب استئصالي لم يُحمل على محمل الجدّ. هنا نرى السبب الرئيسي لضياع الفرصة التي يروّج لها المتحمسون للانتخابات، المناخ الاستئصالي الذي لم يراجع نفسه سبب رئيسي للفشل السياسي العام وفشل الفرصة الانتخابية.
وسائل الرئيس المترشح
كان هذا أمرًا منتظرًا حتى لدى أكثر المتحمسين، فالذي وصل إلى السلطة بالغشّ لا يمكنه أن يتحول إلى ديمقراطي واثق من نفسه. ومقابل هذه السلطة ووسائلها كيف عزم المنافسون على المنافسة؟ لقد تقدم للمنصب عدد يفوق المئة، وستفرز اللجنة الانتخابية طبقًا لشروط واضحة وسيبقى عدد قليل، لكنه عدد كبير ستكون نتيجته تشتُّت الأصوات منذ الدور الأول، بحيث يمنح فرصة لفوز الرئيس دون الحاجة إلى دور ثانٍ.
يوجد هنا جيمناستيك رياضي ومتخصصون في الحسابات النظرية، يقولون إن التشتيت سيمسّ كل المرشحين، بحيث يفرز الدور الأول بالقوة مرشحَين اثنين، بما يضمن دورًا ثانيًا وساعاتها يتم التكاتف حول مرشح معارض. ونحن ننعت هذا بالجيمناستيك الرياضي. إذ هو يشبه إطلاق الصياد لحمامة في يده ثم الشروع في صيدها وهي طائرة، رغم علمه أن خراطيشه قليلة.
لماذا لم يتم الاتفاق حول مرشح واحد قبل الدور الأول؟ هنا نكتشف العاهة الثانية للنخبة التونسية، فإلى جانب عاهة الاستئصال المتفشية ضد الإسلاميين، تقوم الذوات النرجسية بإفراغ فرصة الانتخابات من كل احتمال ايجابي، خاصة أن المترشحين لا يملكون كاريزما سياسية فارقة، وليس لهم علاقة مباشرة بالناس عبر عمل حزبي أو مؤسساتي.
فالوحيد من بينهم الذي يملك تجربة في المعارضة زمن بن علي، وشارك في السلطة بعد الثورة ثم عاد إلى المعارضة، هو المهندس عماد الدائمي، لكن وصم الإسلامي الذي رجمه به الاستئصاليون لاقى هوى عند منافسيه أيضًا، بما يجعلهم استئصاليين من خلف ستار.
الاستئصاليون يُفشلون كل مبادرة توحيد قد يستفيد منها الإسلاميون أو يؤثرون فيها، والزعامات النرجسية بلا سيرة تجهز على ما تبقّى من الفرصة، فتفتح الطريق للمرشح الذي لا يخجل من الغش. ماذا بقيَ من الفرصة الموهومة؟
هل تعلم الديمقراطيون الدرس؟
ولا نراهم يفعلون. العاهتان (الاستئصال والنرجسية) كانتا السبب الرئيسي في تفريغ الثورة من زخمها، وكانتا السبب في إفشال الانتقال الديمقراطي حتى انتهينا إلى الانقلاب، وكم كررنا أن المنقلب مرَّ من هذه البوابة المشرعة للفشل، وحكم بها ونراه يفوز بالانتخابات بسببها. فالمنافسون أضعف من مواجهته متفرقين منذ البداية.
سيكون هناك مشهد انتخابي يعطي انطباعًا بسلامة الوضع (ويصير نطق كلمة انقلاب جريمة)، لكن هذه الذوات الصغيرة المنتفخة ستتعرض إلى درس قاسٍ، وهو المكرمة الوحيدة من هذا المشهد، غير أنها لن تتعلم وستبحث كما هي عادتها عن رمي فشلها على الآخرين.
سيقول كل فاشل إن الآخرين أفشلوه، ولن يرى أي منهم أنه ساهم في تفريغ الفرصة من زخمها، لأنه لم يرَ فيها إلا فرصة له دون البلد ودون الناس. لقد التقطنا في صفحات كثير من أنصار مرشحين شماتة بمرشحين خطرين عليهم لم يمكنهم الانقلاب من استكمال الشكليات اللازمة للترشح (بطاقة السوابق العدلية)، فهم قبل البداية يكشفون عمى سياسيًا، إذ يفرحون بجريمة الاعتداء على حقوق منافسيهم ظنًّا منهم أنها تصبّ في خراجهم.
هل انعدمت الفرصة نهائيًا؟ ما زالت هناك فسحة زمنية بعد الفرز لكي يجلس المترشحون حول طاولة سياسية، تضع اتفاقًا حول واحد منهم فيوجّه الجميع عمله (أنصاره) خلف الشخص المتفق عليه، فيضمنون دورًا ثانيًا. وهناك ستكون الانتخابات فرصة لأن المترددين والخائفين واللامبالين سيتحركون.
لقد رأينا خوف الناس من المشاركة في تزكية المترشحين، لكن منطق التصويت غير منطق التزكية فداخل الخلوة الانتخابية سيقرر الناس بلا خوف. هل يستدركون؟ سندع كوّة مفتوحة في جدار الفشل العبقري للنخبة السياسية التونسية.