لقد أصبحت مجتمعاتنا تشهد انحدارًا أخلاقيًا لا مثيل له، الإنسانية جمعاء في خطر جراء فقدان الكثيرين لتوازنهم القيمي والأخلاقي، الذين غدو محكومين بشهواتهم الحيوانية وغرائزهم البدائية. وفي هذا السياق لسائل أن يسأل ما الذي يدفعهم إلى هذا المستوى المتسم بالفحش المفرط والعنف في أعمالهم وتصرفاتهم؟ وفي المقابل ما الذي يجعل الأقلية المهادنة والسلبية تتمادى في غض الطرف والاكتفاء إيماءً بالرأس تأسفًا؟
التوازن خصوصية موجودة في كل الكون (مادية كانت أو غير مادية) قبل أن تكون مطلبًا بشريًا أساسيًا يتمثل في تحقيق حياة مستقرة لا تحيد عن مسارها مهما كثرت المربكات، هذا الجوهر البشري متاح للجميع ولا يخص فئة بعينها، وبما أن الطبيعة البشرية اتسمت بالاختلاف في السلوكيات ونمط الحياة، منظور التوازن يختلف بدوره من شخص لآخر، فهناك من يرى أن تحقيق التوازن وهم لا يدوم وهو أشبه بالسير فوق حبل مشدود، وآخرون يرون أنه مرتبط بالمرحلة العمرية والظروف والتطورات التي يعيشها الإنسان.
مسألة التوازن مسألة غير معقدة إذا توفرت عوامل معينة أهمها معرفة حاجات الذات والتصالح معها والتحكم قدر المستطاع في مسار الحياة برسم أهداف والالتزام بمبادئ وقيم سامية تفرضها إلى جانب القيم الكونية، قيم وأخلاق ماورائية.
في مقالتي هذه سأركز على التوازن القيمي والأخلاقي المرتبط ارتباطًا وثيقًا بالجانب الروحي، وقبل أن أخوض في تفاصيل هذا الموضوع المعقد، أنا لست مختصًا في علم النورولوجيا أو علم الماورائيات، كذلك لست طبيبًا نفسانيًا أو متخصصًا في علم الأحياء أو علم الاجتماع أو ما شابه ذلك، أنا دكتور في علم الفيزياء العامة وبالتحديد في الجانب الميكانيكي منه وباحث في مجال التوازن الديناميكي للأشياء، وكما ذكرت سابقًا، التوازن مفهوم شامل يشمل كل ما في الكون، وعلى هذا الأساس أعطي لنفسي الحق كمفكر وباحث في أن أكون مجرد مطلع سيحاول الانغماس في هذا الموضوع بكل صراحة وتجرد.
الجانب الروحي أو الإيماني في حياة الإنسان مهم جدًا لما يحققه من استقرار نفسي و جسماني وفي كثير من الأحيان اجتماعي
لعل من أهم أسباب تشرذم وتمزق النسيج المجتمعي إهمال الجانب الروحي والفكري لدى أفراده، وفي هذا المنحى لا أقصد المعاملات الإنسانية والأخلاقية كالعفة والكرم والصدق، رغم ارتباطهم الوثيق بالجانب الروحي، إنما أقصد العلاقة الباطنية بين الإنسان التواق فطريًا لتوازنه النفسي والقوة الفاضلة الراشدة التي تعدل له اتزانه النفسي وتسمو بحياته إلى الأفضل، وهنا أقصد جميع الأديان دون استثناء.
الجانب الروحي أو الإيماني في حياة الإنسان مهم جدًا لما يحققه من استقرار نفسي وجسماني وفي كثير من الأحيان اجتماعي، من خلال التفاعل والتعايش بين الكائنات الحية بعضها البعض، فالإنسان بطبعه وفطرته يميل إلى البحث عن سر وجوده ومآله بعد الموت، ومهما تطورت العلوم والتكنولوجيا فلن يجد الإنسان مسكنًا لحيرته سوى بما يسمى بـ”المعتقد”، هو ما يحتاجه الإنسان فطريًا لإيجاد تفسير لما يسمى بالماورئيات أو عالم النقاء والصفاء.
فعلى سبيل المثال كان الهنود الحمر في أمريكا الشماليَّة يرسلون أبناءهم البالغين لوحدهم إلى البراري للتواصل مع أرواحهم المرافقة والمرشدة ويعتبرونه نوعًا من أنواع الاتصال مع عالم الغيب لبلوغ الرشد ونيل الحكمة، وكذلك قبائل الهوسا الإفريقية الذين يقيمون طقوس الرقص للتواصل مع تلك الأرواح المرشدة التي تعزز تكتلهم وتحاببهم.
هذا التقليد يشبه كثيرًا ما يقوم به بعض اللائذين من المتصوفين عندنا كنوع من أنواع التواصل الروحاني، وتتعدد الطقوس والشعائر وتختلف حسب ثقافة الحضارة وأحيانًا تجد في البلد نفسه عدة أطياف ومعتقدات والكل مرتبطون بعالمهم الروحاني ارتباطًا وثيقًا لا تنفصم عراه، الكل يبحث عن التوازن الروحي النقي من الشوائب الذي يدفع نحو الخير والمحبة والأمان.
مثلما يحتاج جسدك للغذاء لتستمر في صحة وعافية، كذلك نفسك هي أيضًا تحتاج إلى غذاء روحاني، فكلما سموت بروحك إلى “مرشدها” وطهرتها من كل دنس ومن فتنة الشهوات التي تهفو لها، ارتقيت إلى أعلى منطقة الروح حيث السعادة وراحة البال.
وأذكر على سبيل المثال لا الحصر سياسيًا جهبذًا عبقريًا مثل مهاتما غاندي يعبد البقر ولا يرى ضير في ذلك، أو عالم ياباني شنتوي مثل يوشينوري أوسومي في ضريح يحاول الاتصال بالكامي (أي بالأرواح) رغم التقدم الياباني الذي يفتن القلوب في جميع المجالات، كلاهما قام بطريقته بتغذية روحه والنتيجة توازن على جميع المستويات.
يجب على كل منا أن يستجيب إلى متطلباته الجسدية والعقلية والروحية، طبعا في حدود المستطاع وحسب الظروف ودون انحراف أو تطرف
إذًا الإنسان مزيج من المادي واللامادي وكلاهما مرتبط ببعضه البعض ولكي يعيش الانسان في إتزان متكامل يجب أن يهتم بجسده وروحه على حد السواء. واستنادًا إلى كل ما سبق، نستنتج أنه يتحتم على كل شخص اتباع ما يظنه أقرب إلى قلبه ويطمئن إليه، أي عقيدة ملهمة يلتزم بتعاليمها وتعطيه الطاقة الروحية والحماسية اللازمة، يجب على كل منا أن يستجيب إلى متطلباته الجسدية والعقلية والروحية، طبعًا في حدود المستطاع وحسب الظروف ودون انحراف أو تطرف، لكي ننجح في هذا الجانب يجب أن نتوجه إلى البيئة أو المكان الأمثل الذي نجد فيه نظرائنا وأشباهنا.
أين يمكننا أن نستمد شحنات روحية تدعم ثقتنا بأنفسنا و تشكل حياتنا، يجب أن نطرح على أنفسنا وباستمرار الأسئلة التي تدفعنا نحو العمل وتقودنا إلى حل المشكلات – بعيدًا عن الحلول المقتضبة وغير المجدية – من قبيل: كيف أتصالح مع نفسي؟ كيف أرتقي بنفسي وأصل بها إلى بحر السعادة وعلى ضفافه أتمتع بنقاء السريرة؟ ما دوري في هذا الكون؟