لم يكن يدري أن قدمَيه ستقودانه إلى السجن المؤبد، إذ تفاجأ اللاجئ السوري حسن حربا بتوقيفه عندما ذهب إلى مبنى الأمن العام اللبناني الواقع بمدينة بعلبك قبل 9 سنوات، لاستخراج بطاقة إقامة لتكون أوراقه نظامية في لبنان، لتبدأ حكاية معاناة مستمرة إلى اليوم.
يقضي حسن محمد جميل حربا محكومية المؤبد في سجن بيروت المركزي في منطقة رومية شرق العاصمة بيروت، والتي أصدرتها النيابة العامة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع اللبنانية في 17مايو/ أيار 2021، رغم تقديم المحامية والشهود الأدلة القاطعة لبراءته، أبرزها اختلاف اسم الوالدَين عن اسم والدَي المتهم الحقيقي حسن يونس حربا الملقب بـ”أبي علي الوادي”.
الحكم الصادر بحقّ حسن حربا بتاريخ 17 مايو/ أيار 2021. (المصدر: “سوريا على طول”)
كيف بدأت الحكاية؟
في 27 فبراير/ شباط 2015 اعتقلت السلطات اللبنانية الشاب حسن حربا مواليد مدينة القصير جنوب حمص عام 1980، إثر تشابه أسماء مع أحد أبناء عمومه القيادي في فصائل المعارضة السورية المطلوب للسلطات اللبنانية يحمل ذات الاسم الثنائي، والتهمة مشاركة القيادي في معارك وقعت بين فصائل مسلحة سورية “إرهابية” والجيش اللبناني في بلدة عرسال وجرودها بتاريخ 02 أغسطس/ آب 2014، وأسفرت عن خسائر مادية وبشرية من الطرفين. وفي 17 مايو/ أيار 2016 اتهمت قاضية التحقيق نجاة أبو شقرا أكثر من 152 شخصًا في الضلوع بهذه الواقعة.
ملف الاتهامات في قضية أحداث عرسال عام 2014. (خاص “نون بوست”)
قصة المعتقل حسن محمد جميل حربا تنقلها لـ”نون بوست” شقيقته آمنة حربا، مشيرة إلى مرحلة اليأس التي وصلت إليها عائلته، لكن يبقى أملهم في أن تنتصر قضيته كونه مظلومًا ولم يبقَ لديهم سوى الإعلام، معربة عن أملها وامتنانها في تسليط الضوء عبر هذا التقرير الذي يسرد قصته على لسانه.
قال حسن حربا: “كان لدي في مدينة القصير مزرعة أبقار ومحل لبيع الألبان والأجبان، وخلال الثورة السورية لم أحمل السلاح ولم أشارك في القتال، وتهجّرت مع سكان القصير قسريًا في يونيو/ حزيران 2013 إلى مدينة يبرود بريف دمشق، ثم اضطررت إلى اللجوء لبلدة عرسال اللبنانية الحدودية في ديسمبر/ كانون الأول 2013 بسبب سيطرة نظام الأسد عليها، وذلك برفقة عائلتي”.
وأضاف: “تابعت العمل في مهنتي ببيع الحليب ومشتقاته في مخيمات عرسال، وكي تكون أمور إقامتي قانونية، ذهبت إلى مبنى الأمن العام اللبناني بمدينة بعلبك في 26 فبراير/ شباط 2015 لإجراء تسوية الوضع حتى تكون إقامتي شرعية في لبنان، فتفاجأت بتوقيفي هناك، ثم نقلوني في اليوم التالي إلى فرع أبلح التابع لمخابرات الجيش اللبناني في منطقة البقاع، وبدأ التحقيق معي على أني المطلوب حسن يونس حربا “أبو علي الوادي”، ولم أكن أتوقع أنني سأُسجن بدلًا منه لتشابه الأسماء”.
وتابع: “بقيت 3 أيام تحت التعذيب الجسدي والنفسي في فرع أبلح، ثم نقلوني إلى مبنى وزارة الدفاع اللبنانية في بيروت بقيت فيها 10 أيام تحت التعذيب، تخلّله تكسير أسناني وضلوعي، فاضطررت للاعتراف تحت الضغط (أنا أبو علي الوادي) لأتخلص من التعذيب”.
وأكمل: “حولوني إلى المحكمة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع التي أكدت فيها لقاضي التحقيق عماد زين بأني مدني أبيع الحليب ولم أشارك بالعمل المسلح في سوريا ولا في لبنان، لكنه تجاهل أقوالي واعتمد على التحقيق الأولي الذي اعترفت فيه تحت التعذيب، حيث بقيت أسبوعًا في المنفردة في المحكمة العسكرية ثم نقلوني إلى سجن بيروت المركزي المبنى D (سجن رومية)، وحوّل عماد زين ملفّي إلى رئيس المحكمة العسكرية حسين العبد الله للبتّ بالحكم”.
- استجواب قاضي التحقيق عماد زين في 10 مارس/ آذار 2015 (المصدر: “نون بوست”)
4 قرائن أكّدها الشهود لبراءته في المحكمة
بدأت المحكمة العسكرية برئاسة القاضي العميد حسين العبد الله بإجراء التحقيقات مع المتهمين بقضية جرود عرسال لإصدار الأحكام القضائية بحقّهم، وأوكل ذوو حسن حربا المحامية ديالا شحادة لمتابعة قضيته قانونيًا، وخلال جلسات المحكمة استمع رئيس المحكمة وعدد من القضاة للمتهم وشهود من أهالي القصير الموجودين في عرسال.
وأكدت 5 شاهدات من سكان مخيم عرسال لرئيس المحكمة حسين العبد الله، أنهن رافقن حسن حربا وعائلته في بحثهم عن ملاذ آمن يوم معركة عرسال عام 2014، وبأنه متواجد معهم دائمًا في مخيم عرسال وهذه قرينة أولى على براءته، وهنّ: فداء محمد محب الدين، فاتن يوسف حمزة، خديجة أحمد سويد، حليمة محمد نعسان وخولة هايل خانكان”.
كما أكدت بيانات الاتصال في هاتفه أنه كان يبحث عن ملجأ ليأوي إليه، وفقًا لملف طلب النقض للمحامية داليا شحادة الذي وصلت نسخة منه لـ”نون بوست”.
بدوره، قال الشاهد خالد حسن رعد، وهو من سكان القصير وعرسال وحاليًا يقيم في هولندا، لـ”نون بوست”: “بعد أن علمنا بملف المتهم حسن حربا من خلال المحامية داليا شحادة، قدمنا أنا والمحامي أحنف علي الحوراني شهادتنا، وأكدنا فيها لرئيس المحكمة العسكرية حسين العبد الله في العام 2018 أنه “شخص بسيط وخلوق يبيع الحليب واللبن لأهالي القصير ثم لأهالي مخيم عرسال””.
وأوضح رعد الذي كان يشغل رئيس لجنة التنسيق والمتابعة بين الحكومة اللبنانية واللاجئين السوريين ومدير أحد مخيمات عرسال، أن دليلهم على براءته من جانبَين، الأول أن حسن حربا ذهب إلى مبنى الأمن العام لإجراء بطاقة إقامة تسمّى “تسوية وضع”، بعد مرور 6 أشهر من معركة عرسال، فلو كان فعلًا مشاركًا فيها لما ذهب بقدمَيه إلى الأمن العام اللبناني لاستخراج البطاقة، فأي عاقل لا يذهب بقدمَيه إلى السجن، والجانب الثاني هو أن أبو علي الوادي معروف كقائد عسكري في القصير. مضيفًا: “أكدنا براءته للقاضي حسين العبد الله، فكان ردّ القاضي: “أنت رأيته في النهار يبيع الحليب، وفي الليل ماذا يعمل؟ قلت له: لا أعرف””.
المحاكمة والشهود من ملف المحامية ديالا شحادة (المصدر: “نون بوست”)
أما القرينة الثانية، فذكر خالد حربا، عمّ حسن حربا، لـ”نون بوست” أن حسن حربا المطلوب للدولة اللبنانية تختلف بياناته الشخصية عن المعتقل حسن حربا بائع الحليب، فلا تتطابق معلومات الولادة وأسماء الوالدَين مع بعضهما، موضحًا أن “حسن محمد جميل حربا والدته فاطمة مواليد 1980، وحسن يونس حربا والدته عزيزة مواليد 1979”. كما أشار إلى أن صلة القرابة بعيدة بين الاثنين تصل إلى خامس جدّ، وبأنه مطّلع على ملف قضية عرسال كون ابنه معاوية حوكم بالملف ذاته 7 سنوات.
والقرينة الثالثة على براءته هي أن أبو علي الوادي منشق عن جيش النظام السوري وقائد كتيبة في مدينة القصير، بينما حسن حربا المعتقل حاليًا قد أدّى الخدمة العسكرية وتسرّح منها قبل الثورة السورية وبحوزته “دفتر العسكرية دليل براءة”، ولم يشارك بالعمل المسلح، وجميع المتهمين بمعركة عرسال الذين تمّ استجوابهم، عند سؤال القاضي لهم عن حسن محمد جميل حربا، أكدوا أنهم لم يشاهدوه معهم إطلاقًا.
بينما القرينة الرابعة هي مقتل المتهم الحقيقي أبو علي الوادي، وشهد في المحكمة العسكرية شقيق الوادي ووالدته عزيزة بأنه قُتل في المعارك، والمعتقل الموجود بدلًا منه في المحاكمة هو شخص آخر.
وعن هذا، يوضح المعتقل السابق في سجن رومية لمدة 5 سنوات، فاضل زياد فاضل، لـ”نون بوست” أن حسن يونس حربا كان رفيقه بمقاعد الدراسة، فهما مولودان في القصير عام 1979، وهو معروف بلقب “الوادي” نسبة إلى كتيبته العسكرية “كتيبة الوادي” التابعة للجيش السوري الحر، والتي شكّلها في الثورة السورية نسبة إلى وادٍ في القصير تابع لنهر العاصي، وهو منشق عن النظام، لكنه عام 2014 بايع تنظيم “داعش” وقُتل في معارك مدينة تدمر بريف حمص عام 2015.
وأكّد فاضل أن أهل “أبو علي الوادي” لم يستطيعوا إحضار شهادة وفاة له لصعوبة استخراجها من دائرة النفوس التابعة لنظام الأسد، لكنهم شهدوا في المحكمة ببراءة قريبهم حسن محمد جميل حربا من التهمة الموجهة إليه، فهو مدني لا علاقة له بالعمل المسلح إطلاقًا.
وأشار فاضل إلى عشوائية التهم في قضية الإرهاب، مضيفًا أنه تفاجأ بورود اسمه في ملف معركة عرسال الذي بسببه تمّت الاعتقالات العشوائية من مخيمات عرسال، كونه معتقلًا قبل نحو 8 أشهر من وقوعها، لكن فاضل حوكم كواحد من نحو 200 معتقل بالتهمة ذاتها (مهاجمة الجيش اللبناني في عرسال بتاريخ 02 أغسطس/ آب 2014).
لماذا رفضت محكمة التمييز طلب النقض؟
بعد انتهاء جلسات الاستماع للشهود في المحكمة العسكرية وتقديم المحامية ديالا شحادة الأدلة القطعية على براءته (أحدها تسجيل مصور يثبت بالصوت والصورة أن أبو علي الوادي المطلوب للقضاء شخص آخر)، أصدرت المحكمة برئاسة العميد منير شحادة الحكم على حسن جميل محمد حربا بالسجن المؤبد في 17 مايو/ أيار 2021، فتقدمت المحامية ديالا شحادة بطلب نقض بتاريخ 1 يونيو/ حزيران 2021 إلى محكمة التمييز العسكرية في بيروت برئاسة القاضي جون القزي، لكن المحكمة رفضت الطلب، ومحكمة التمييز عندما ترفض طلب النقض يصبح الحكم مبرمًا غير قابل للطعن.
وفي هذا الصدد، قالت المحامية اللبنانية ديالا شحادة، موكلة المتهم حسن حربا، لـ”نون بوست”: “إن نقاط الضعف القانونية في ملف حسن حربا هي حجم وتفاصيل الإفادة الأولية التي وقع عليها تحت التعذيب”، موضحة أن ملف القضية يمكن إعادة فتحه عبر طلب إعادة المحاكمة إذا تم العثور على دليل جديد.
ولفتت شحادة إلى أن مشكلة السجناء السوريين في لبنان الملاحقين بقضايا “الإرهاب”، هي أن التحقيقات الأولية تنتهك حقوقهم، إما بالمعاملة الشديدة والتعذيب، وهذه مخالفة صارخة لاتفاقية مناهضة التعذيب التي وقّع عليها لبنان عام 2000، وإما بمنع التواصل مع محامٍ للدفاع عنهم، وهو مخالف للمادة 47 التي تفرض حضور محامٍ إلى جانب الموقوف في التحقيقات الأولية.
المحامية ديالا شحادة تقدمت بطلب نقض بتاريخ 1 يونيو/ حزيران 2021. (المصدر: “نون بوست”)
ملف المحامية ديالا شحادة – فيديو لأبو علي الوادي. (المصدر: “نون بوست”)
رد محكمة التمييز على طلب النقض في 14 سبتمبر/ أيلول 2021. (المصدر: “نون بوست”)
يتشاطر حسن حربا المعاناة في المبنى D بسجن رومية مع نحو 150 سوريًا محكومياتهم تتراوح ما بين المؤبد والإعدام والسجن من 10 إلى 20 سنة، بينما هناك سجناء غير محكومين جرمهم الوحيد معارضتهم لنظام الأسد ومنهم الانشقاق عن جيشه.
وفي هذا السياق، يقول المحامي اللبناني محمد صبلوح، مدير مركز سيدار للدراسات القانونية، لـ”نون بوست”: “واكبت العديد من قصص المعتقلين السوريين في لبنان وكل قصة حزينة أكثر من الثانية، لما فيها من الظلم الكبير من الأجهزة الأمنية والأحكام القضائية الجائرة بحقهم، ومنهم من يبحث عن شبه عدالة في محكمة التمييز العسكرية”، محاولًا رفع الظلم عنهم وتوثيق الانتهاكات بحقهم.
وأشار صبلوح إلى أن المحكمة العسكرية تحت سلطة الأمر الواقع تأتمر بأمره، مضيفًا: “وحضرت مؤخرًا مؤتمرًا حقوقيًا للمفكرة القانونية وحدث خلاله جدال حاد بين 7 نواب من مجلس النواب حول تعديل القضاء العسكري، حيث يتمسك حزب الله وحركة أمل بملفات الإرهاب والتجسس والعملاء، كي تبقى بيدهم سلطة القبض على المعارضين والقضاء عليهم بهذه التهم”.
وأكمل: “بدوري كمدير منظمة حقوقية رفضت هذه التعديلات، لأسباب أبرزها التعذيب خلال التحقيقات الأولية وفبركة ملفات اللاجئين السوريين، حيث استشرست الأجهزة الأمنية اللبنانية باعتقال اللاجئين السوريين منذ عام 2014، وأنا ساهمت بإعداد تقرير مع منظمة العفو الدولية بعنوان “لبنان، كم تمنيت أن أموت: لاجئون سوريون احتجزوا تعسفيًا بتهم تتعلق بالإرهاب وتعرضوا للتعذيب في لبنان”، وهذا التقرير يوضح كيف تمّت فبركة ملفات المتهمين بالإرهاب وتعرضهم للتعذيب”.
ولتسليط الضوء على معاناتهم، أطلق صحفيون وحقوقيون حملة “أنقذوا المعتقلين السوريين في لبنان” قبل أشهر، تضمنت عريضة للتوقيع في موقع آفاز وبيان إدانة، ويقول أحد القائمين على الحملة الإعلامية، المعتقل السابق في سجن رومية من عام 2015 إلى 2018 عمر جمول، لـ”نون بوست”: “إننا نحاول جاهدين حشد أكبر عدد من الشخصيات الدولية والحقوقية والسياسية والإعلامية، ووضعهم أمام مسؤوليتهم من خلال تعريفهم بقضيتنا العادلة، والتأكيد على أن التسليم العشوائي للمعارضين للنظام السوري يعرضهم لمواجهة خطر التعذيب والموت”.
لعل الله أن يكتب لندائك القبول وتكون نجاتهم قريبة بإذن الله _أولئك القابعين في زنازين الجلادين ظلما وتلفيقا _
اللهم استجب يارب #أنقذوا_المعتقلين_السوريين_في_لبنان #أنقذوا_المعتقلين_السوريين_في_لبنان pic.twitter.com/E9W2Nr6aLr
— omar jammoul (@albshr1995) July 8, 2024
خطة عمل وخارطة طريق موجهة للمنظمات المحلية والدولية والأممية وللناشطين والحقوقيين والصحفيين السوريين.
نحن معتقلو الرأي السياسيين السوريين في السجون اللبنانية بأن يتم تحقيق الخطوات التالية بالسرعة القصوى وأن يتم تشكيل خلايا عمل طارئة واستثنائية وغير تقليدية لتحقيق العدالة وذلك…
— Moayad Skaif – مؤيد اسكيف (@moayadskaif) June 25, 2024
اثنان من المعتقلين السياسيين في السجون اللبنانية يتلقيان نبأ استشهاد ذويهما في سجون الأسد تحت التعذيب.
ياسين العتر وحسن جميل حربا ينتظران مصيراً مشابهاً إذا ما تم ترحيلهما إلى السجون الأسدية.
كونوا صوتهم#أنقذوا_المعتقلين_السوريين_في_لبنان
#BeTheirVoice pic.twitter.com/Oeb2ANJkOQ
— معتقلو الرأي السوريين في لبنان (@swry_sjyn) June 3, 2024
ما بين الألم على الظلم الذي يعيشه حسن حربا بين القضبان منذ 9 سنوات، وقد فقد زوجته المدرّسة التي تقدمت بطلب مخالعة بعد محاكمته بالمؤبد، وبين مخاوفه من أن يلقى ذات مصير شقيقه إبراهيم محمد جميل حربا الذي تلقّى خبر مقتله في سجون الأسد في 3 يونيو/حزيران الماضي حال تم تسليمه للنظام، يبقى لديه بصيص أمل يعينه على أوجاعه في أن ينجو ويضمّ ولدَيه (نبيل وإليسار)، متأملًا مع بقية المظاليم في سجون لبنان بأصوات الأحرار الذين يحاربون من أجل تحقيق مطالبهم، وأهمها عدم تسليمهم إلى نظام الأسد ونيل حريتهم التي يستحقونها.