هناك من فقد الإيمان بقدرة المنهاج الأكاديمي والطبشور على إنتاج أجيال على دراية كافية بتطبيق العلوم التي تعلّمها لهم الكتب على أرض الواقع، وبات يؤمن بشدة أن المدرسة بما فيها من نظام متسلسل من المعلمين وانضباط مواقيت الدروس وانتظام الطلاب في صفوف ومقاعد دراسية محددة لن تخلق سوى نسخ من الأجيال متشابهة لا تتمتع بالتفكير الإبداعي ولا تؤمن بحرية الاختيار لنفسها بعد سنوات طويلة ومستمرة من التلقين.
هناك الملايين من الناس من يكملون تعليمهم في المراحل الدراسية كلها اللازمة لكي يبدأ حياته العملية دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن الوظيفة التي يحلم بالعمل بها، أو يكون لديه أي فكرة عما يريد أن يفعل لبقية حياته، إلا أنه يلتزم بمرحلة التعليم كاملة حتى لو لم يعد لديه الحافز لإتمام دراسة التخصص الذي بدأ في دراسته بالفعل.
باتت فكرة ترك التعليم ملحة على الكثيرين ممن فقدوا حافز الاندماج ضمن سلسلة منضبطة من التعليم عن طريق التلقين لما يقرب من أكثر من 10 سنوات من حياتهم، وبدت النماذج الناجحة لكل من تركوا التعليم في المدارس من أجل تحقيق أهدافهم وإتمام التعليم على طريقتهم الخاصة التي يختارونها بأنفسهم دون أن يختارها لهم أحد بمثابة قدوة في سبيل التحرر من نظام التعليم المفروض.
كان من بين هؤلاء من آمن بقدرات كل طفل في نظام التعليم على حدة، واختلاف كل طفل عن الآخر من خلال اختلاف القدرات والمواهب، وآمن بأن الأطفال ليسوا “صفائح فارغة” يتم تعبئتها بواسطة من كان وبأي شيء كان، كان من بين هؤلاء “ماريا مونتيسوري”.
1- مونتيسوري
أول امرأة في إيطاليا تنال شهادة علمية في الفيزياء، طورت نموذجًا للتعليم حمل اسمها بعد أن بدأت في تطبيقه على نحو 50 طفلًا فقيرًا في أحياء بعيدة عن روما، يخدم النظام الذي وضعته الطبيبة مونتيسوري الأطفال من سن 3 سنوات وحتى 18 سنة، بدأت في تطبيقه عام 1907 من خلال مراقبة نشاط الأطفال مع الطبيعة، فهو نهج تعليمي يدمج التعليم مع الحركة والتفاعل مع البيئة ويهدف لتنمية قدرات الطفل الإبداعية والقدرة على حل المشاكل وتنمية قدرات التفكير النقدي.
من أهم الركائز التي يعتمد عليها نظام “مونتيسوري” إطلاق الحرية الكاملة للطفل مع مراقبة المسؤول سواء كان الأهل أم المعلم الخاص، والبُعد كل البُعد عن التلقين الإجباري، بمعنى أن يتم احترام النمو النفسي الطبيعي للطفل، واختيار الطفل النشاط الذي يرغب في القيام به من خلال مجموعة من الأنشطة المحددة المسموحة له، وذلك من خلال التفاعل مع البيئة والدقة والتكرار والتواصل مع الآخرين والاستكشاف والعقلية الرياضية، وذلك من خلال مجموعة من الأنشطة الحرة الملائمة لنشاط الطفل ونموه الطبيعي.
يسعى نظام مونتيسوري إلى احترام شخصية الطفل مع الحرص على تمتعه بقدر كبير من الحرية ركيزة هذا النظام، فهو نظام تربوي مؤسس على اعتبار الطفل مشارك إيجابي في إطار بيئة أعدت خصيصًا له.
قسمت مونتيسوري نهج التعليم الخاص بها إلى 3 مراحل تبدأ مع الولادة، الأولى تكون حتى عمر الـ6 ويرتكز فيها على صقل الحواس ومهارات اللغة والسلوك الاجتماعي والتركيز على أهداف صغيرة، ومن ثم تأتي المرحلة الثانية حتى عمر الـ12 التي تهدف إلى الميل للعمل في مجموعات وتطور الخيال والقدرات الإبداعية.
من أهم الركائز التي يعتمد عليها نظام “مونتيسوري” إطلاق الحرية الكاملة للطفل مع مراقبة المسؤول سواء كان الأهل أم المعلم الخاص
أما المرحلة الأخيرة فهي التي تستمر حتى عمر الـ18 وهي مرحلة المراهقة التي تهدف إلى التغيرات الجسدية والنفسية للطفل من خلال التركيز على نمو الشعور بالكرامة والاعتداد بالنفس في مرحلة وصفتها “مونتيسوري” بمرحلة بناء الذات.
هل نظام “مونتيسوري” ناجح فعلًا؟
عملة الليرة الإيطالية القديمة “ألف ليرة” عليها صورة “ماريا مونتيسوري” تقديرًا لها
ولكن هل يصلح ما فكرت به ماريا مونتيسوري لكل طفل؟ وهل هو الحل البديل الأمثل للنظام التقليدي فعلًا؟ من أجل محاولة فهم الصورة كاملة يجب علينا ذكر سلبيات هذا الأسلوب في التعليم أيضًا، فيجب الذكر هنا أن نظام “مونتيسوري” عالي التكلفة مقارنة بنظام التعليم التقليدي، وهذا من أهم أسباب عدم اتباعه من كثير من الأهل متوسطي الحال، إذ إنه يركز على امتلاك كمية كبيرة من الأدوات عالية الجودة والمصنوعة من خامات طبيعية تعلو تكلفتها عن تكلفة المواد البلاستيكية المستخدمة في أغلب طرق النظام التقليدي.
نظام مينتسوري عالي الاستقلالية وغير محكم للغاية
السبب الثاني أنه منهاج تعليمي غير محكم للغاية، وذلك لأنه يتبع الطفل أكثر من إتباعه المعلم، فمن أجل أن يفعل الطفل ما يحلو له سيتم دون إدراك ذلك إهمال بعض الموضوعات والتركيز على موضوعات أخرى، فربما يجد الطفل حافزًا أكبر في تعلم اللغات والفنون حينها من الممكن أن يُهمَش جانب الرياضيات على سبيل المثال في حالات ما.
السبب الثالث هو كون “مونتيسوري” نظام عالي الاستقلالية، أي في سياق آخر الاعتماد التام على عدم التلقين والإرشاد من العوامل الخارجية، وهو ما سيزيد من احتمالية وجود فجوة بين الطفل والواقع الذي يجبره على التعامل مع فرق في العمل أو التعامل تحت إمرة المدير في مجال العمل.
كلنا نعلم أن نظام التعليم التقليدي مصمم للحد من حرية الطفل من خلال تطوره في نظام يعتمد على النظام والالتزام بداية من مكان جلوسه في مقعد معين محيط به طاولة تحدد مساحته داخل مكان الفصل الدراسي، تصمم قاعات دراسة “مونتيسوري” على العكس تمامًا لتتيح حرية الحركة وكسر الروتين والانضباط، من الممكن أن يعزز ما ذُكر في السبب السابق ويزيد من عدم ملاءمة تعامل الطفل مع النظم القانونية التي تجبره على الانضباط والالتزام.
2- شتاينر
اللافتة مكتوب عليها مدرسة “أدولوف شتاينر”
أودولف شتاينر عالم ألماني أسس ما عُرف بعلم “طبائع البشر” الذي دمجه في أسلوبه في التعليم لتنمية القدرات الإبداعية لدى الأطفال منذ سن صغير، وتتبع العديد من المدارس حول العالم أسلوبه حيث تبني عليها أغلب المدارس الألمانية الخاصة طريقة منهاجها، بعد أن بدأت في أنحاء مختلفة في أوروبا بعد طرد شتاينر من ألمانيا في أثناء الحرب العالمية لاعتماده خائنًا للحزب النازي.
يصف شتاينر طريقة تعليمه بجملة واحدة وهي “المدارس التي يحب الأطفال فيها ما يفعلونه”
أسس شتاينر أول مدرسة له عام 1929 لأطفال من العاملين في مصانع السجائر، وآمن أن ينمى الطفل من مختلف الجوانب في الوقت نفسه دون التركيز على الجانب الأكاديمي فحسب، فيجب تنميته روحيًا وعمليًا وأكاديميًا وجسديًا ونفسيًا كل ذلك خلال عملية التعليم نفسها دون الفصل بينهما من خلال مؤسسات مثل المدرسة أو المنزل إلخ.
هناك الآن ما يقارب 1000 مدرسة تتبع نظام شتاينر في 60 دولة حول العالم، وهو النظام الذي يسمح بقليل من الكتب وكثير من العمل، وقليل من الاعتماد على الآلة والاعتماد على الجسد وطريقة النمو الطبيعية للطفل، حيث يحظر استخدام الآلات الحاسبة أو أجهزة الكمبيوتر إلا في عمر متقدم للطفل، ويرتكز على مجموعة من الأدوات الطبيعية كالخشب بدلًا من البلاستيك للتعليم، بالإضافة إلى التركيز جنبًا إلى جنب مع التنمية الجسدية من خلال حركات رياضية معينة ورقصات معينة مع التنمية الروحية، حيث يصف شتاينر طريقة تعليمه بجملة واحدة وهي “المدارس التي يحب الأطفال فيها ما يفعلونه”.
آمن شتاينر أن أول 7 سنوات من حياة الطفل الفترة الأهم على الإطلاق في تنمية وصقل حواسه التي تؤدي بالتبعية إلى تطور وتنمية تفكيره الإبداعي، وهي الفترة الأكثر تهميشًا في نظام التعليم التقليدي، حيث وجد أنها الفترة الأهم لتفاعل الطفل مع الطبيعة وليس أن يجلس على مقعد ويُلقن مواد أكاديمية تعلمه الحروف والأرقام واللغات، كما آمن الأخير بأنه لا يجب على الطفل تعلم القراءة قبل أن يتعلم الكتابة وهو ما يحاول النظام التقليدي فعل العكس من خلال تعلم الكتابة أولًا أو الكتابة والقراءة سويًا، كما وجد أنه لا يجب على الأطفال تعلم القراءة قبل 7 سنوات.
هناك الآن ما يقارب 1000 مدرسة تتبع نظام شتاينر في 60 دولة حول العالم
من أجل أن نرى الصورة الكاملة أيضًا دعنا نلقي نظرة سريعة على مساوئ نظام شتاينر، فهو نظام يعتمد على تنمية القدرات الإبداعية والخيالية للطفل من خلال مهارات عملية تبعد عن النظام الأكاديمي، إلا أن هذا يُصاحبه الكثير من الأسئلة بشأن مدى فعاليته في العالم الذي يعيش فيه الأطفال الآن.
العمل الجماعي في الطبيعة من أهم ركائز أسلوب شتاينر في التعليم
السبب الأول هو أن الانبهار الكامل بطريقة التعليم تجعل الأهالي يغضون البصر عما هو موجود في الكتب القليلة التي تُدرس للأبناء في بعض المراحل الدراسية، حيث وُجد أن في بعضها أفكارًا من أفكار شتاينر الشخصية التي آمن بها من بينها إيمانه بفكرة تطور الجنس البشري من خلال التناسخ بين البشر، وهي الفكرة التي يرفضها كثير من العلماء والأديان السماوية، بالإضافة إلى إيمانه بفوقية العرق الآري وأن كل من كان أبيض وأشقر ذكيًا ومبدعًا.
السبب الثاني وربما يكون الأكثر أهمية هو تركيز نظام شتاينر على البُعد التام عن الآلة والكمبيوتر إلا في مراحل متقدمة للطفل، وهو ما يثير شكوكًا بشأن فعالية ذلك في العالم الذي يعيش فيه الأطفال الآن الذين يميل فيه الأهل لتنمية قدرات الطفل العقلية لمواكبة التطور التكنولوجي السريع في الأيام الحاليّة من خلال تعلم لغات البرمجة إلخ.
السبب الثالث هو ترك الأطفال في حرية تامة دون مراقبة في أثناء اللعب والتفاعل مع الطبيعة وقد يكون مؤذيًا في بعض الأحيان، حيث تتطلب بعض الظروف تدخل المسؤولين للحد من أذية الطفل لنفسه أو لأذيتهم لبعضهم البعض، وهو الأمر الذي يحاول نظام شتاينر البُعد عنه من تدخل الرقابة في حرية الأطفال في أثناء نموهم واستكشافهم للطبيعة.
هذان الأسلوبان ليسا أساليب التعليم البديلة الوحيدة، فمنذ القرن الماضي وحتى يومنا هذا خرج المئات من العلماء باكتشافات تخص طريقة نمو الطفل وكيفية تعزيز ذلك بمناهج التعليم البديل التي تنافس وبقوة طريقة التعليم التقليدي داخل المدارس التقليدية، سيكون هناك جزءًا لاحقًا يروي لكم نظم التعليم البديلة الأخرى لنلقي نظرة على مدى اختلافها عن هذين الأسلوبين.