بعد أن ظلت الأمور تسير بوتيرة مكتومة بين السعودية وألمانيا، يعتري التوتر من جديد العلاقات بين البلدين، على خلفية إصدار أمر سعودي بعدم إبرام أي عقود حكومية مع شركات ألمانية بعد الآن، كردٍ على ما وُصف باستمرار حالة الغضب من سياسة برلين الخارجية في الشرق الأوسط.
وتحدثت وسائل الإعلام الألمانية علانيةً هذه المرة عن قرار سعودي رسمي بمعاقبة برلين تجاريًا، ومثَّل عدم النفي السعودي لما أوردته الدوائر الإعلامية في ألمانيا دليلًا إضافيًا على أن الرياض قررت التصعيد.
عقاب سعودي للسياسة الألمانية
أشارت مجلة “دير شبيغل” الألمانية في تقريرها إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يقود شخصيًا الحرب التجارية على ألمانيا حاليًّا، قائلة إنه أصدر أمرًا داخليًا للوزارت والهيئات باستبعاد الشركات الألمانية من المناقصات الحكومية.
وبحسب المجلة، فإن موقف ألمانيا فيما يتعلق بالاتفاق النووي مع إيران أحد أسباب الغضب السعودي، الذي قال عنه وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بعد أن أجرى مشاورات مكثفة مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي يوم الثلاثاء الماضي: “إننا في ألمانيا، وأيضًا في أوروبا، مصممون على المساهمة بشكل فعال للحفاظ على الاتفاق النووي مع العمل في نفس الوقت على ترويض طهران”.
واعتبرت المجلة التي لم تنقل عن أي مصادر أن الخطوة ستلحق الضرر على الأرجح بشركات كبرى مثل “سيمنس” و”باير” و”بورينجر إنجلهايم” وكذلك “دايملر” لصناعة السيارات، وبحسب تقرير لوكالة الأنباء الألمانية، فإن مستثمرين ألمان ينشطون في السوق السعودية يواصلون الشكوى من التهميش في العقود والمناقصات بشكل ملحوظ.
Saudi Arabia to exclude German firms from government tenders: Spiegel https://t.co/9ll8t00FTF pic.twitter.com/Wh8u0Iir2X
— Reuters Top News (@Reuters) May 25, 2018
وقال رجل أعمال ألماني بارز في السعودية، طلب عدم كشف اسمه، لوكالة رويترز الجمعة إن قطاع الرعاية الصحية على وجه الخصوص يشعر حاليًّا بمزيد من التدقيق حين يتقدم بطلب للمشاركة في استثمارات سعودية، وأضاف “هم يسألون: من أين ستأتي المنتجات؟ هل هي مصنعة في ألمانيا؟ هل لديكم مواقع تصنيع أخرى؟ وبمجرد أن يكون المُنتَج ألماني الصنع، فإنهم يرفضونه”.
اللافت للانتباه في الرد السعودي على ما وصفته بـ”السياسة الاستفزازية الألمانية” استخدام المملكة للعقوبات الاقتصادية على دولة بحجم ألمانيا يعد تهديدات مسبقة، ففي وقت سابق قال رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ السعودي زهير الحارثي في حديثه مع “دويتش فيلله” العربية إنه لا يستبعد أن تلجأ المملكة لكل الوسائل المشروعة لتحقيق مصالحها ومنها العقوبات الاقتصادية.
مضى حتى الآن أكثر من نصف عام على سحب الرياض سفيرها من برلين، احتجاجًا على ما وصفته حينها بالتصريحات “اللامسؤولة” لوزير الخارجية الألماني آنذاك سيغمار غابرييل
العلاقات المكتومة بين برلين والرياض
اتسمت العلاقات بين برلين والرياض بالتوتر منذ فترة، وعلى خلفية هذا التوتر القائم بينهما أخذت السعودية من جانبها مسارًا تصعيديًّا في الفترة الأخيرة تجاه ألمانيا، وظهر ذلك في توجيه انتقادات غير مسبوقة للحكومة الألمانية.
ومضى حتى الآن أكثر من نصف عام على سحب الرياض سفيرها من برلين، احتجاجًا على ما وصفته حينها بالتصريحات “اللامسؤولة” لوزير الخارجية الألماني آنذاك سيغمار غابرييل الذي كان قد انتقد بشدة انتهاج المملكة سياسة المغامرة في الشرق الأوسط، احتجاجًا على أزمة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري حينها.
واستمر الاحتجاج السعودي قائمًا حتى بعد استبدال سيغمار غابرييل بخلفه كوماس، فقد ألغت السعودية زيارة كان من المقرر أن يقوم بها مسؤول رفيع إلى ألمانيا، وهو مؤشر على أن الأزمة أعمق من ذلك بكثير.
الوزير الألماني يقول بإن #الحريري محتجز في المملكة وإعلام ألمانيا يهاجم بلامنطق وبكلام مشحون وكأنها النازية تعيد إنتاج نفسها و#الإليزيه ومكتب #ماكرون يصدران بيان لزيارة رئيس وزراء لبنان بعد ساعات قليلة ونتمنى على ألمانيا أن تعيد حساباتها ولاتؤجر عقلها.!#السعودية #لبنان #ألمانيا pic.twitter.com/VsLbpqQWfr
— بدر بن سعود (@BaderbinSaud) November 18, 2017
بالإضافة إلى ذلك، كان استثناء ولي العهد السعودي ألمانيا من أول جولة خارجية قام بها إلى أوروبا بعد تعيينه وليًا للعهد في المملكة مؤشرًا آخر على الأزمة العميقة بين البلدين.
سبق كل ذلك، تقرير علني في ديسمبر/كانون الأول 2015 من جهاز المخابرات الاتحادية الألماني، يُحذر من السياسة المندفعة والمتسرعة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان والمخاطر التي تنشأ عن استحواذه على العديد من السلطات.
امتدت حالة الرفض الألماني الرسمي لسياسات الأمير الشاب إلى الصحف ووسائل الإعلام الألمانية التي تصفه بـ”الأمير الهائج”
وكان هذا التقرير الفصل الأول ضمن فصول المواجهة الألمانية الرسمية عبر مؤسساتها الرسمية والشعبية تجاه ولي العهد السعودي الذي بدأ – آنذاك – يستحوذ على السلطات كافة داخل المملكة، التقرير الذي خرج إلى العلن يُشير بوضوح إلى الرفض الألماني لسياسات الأمير المندفع، حسبما وصفته.
كما امتدت حالة الرفض الألماني الرسمي لسياسات الأمير الشاب إلى الصحف ووسائل الإعلام الألمانية التي تصفه بـ”الأمير الهائج”، على سبيل المثال صحيفة “تاغس تسايتونغ” الصادرة في برلين ترى خطر أن يفجر ولي العهد السعودي بسياسته الخارجية المنطقة، فيما كتبت صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه” أن ولي العهد المعروف كـ”صقر” غير صبور يسعى إلى تصعيد الخلاف داخل لبنان، كما يردد بالإجماع دبلوماسيون غربيون.
فصول المواجهة السعودية الألمانية
#السعودية تستدعي سفيرها في #ألمانيا.. وما علاقة #لبنان ؟!https://t.co/HqZgoBfmrC pic.twitter.com/CPXJjkFRzB
— Mulhak (@Mulhak) November 18, 2017
المواجهة السعودية الألمانية ليست وليدة اليوم رغم الشراكة التجارية الكبيرة بين البلدين، ويمكن القول من خلال ما سبق إن المواجهة بين البلدين مرت بسلسة من الأحداث التي تعصف بمستقبل الشراكة، لا سيما بعد تولي ولي العهد الجديد، ويمكننا أن نعدد هذه الأحداث في النقاط التالية:
حقوق الإنسان في المملكة
تحضر الأزمة بين البلدين بشكل واضح في “ملف الحقوق والحريات”، وهو الملف الذي انتقدته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارتها الأخيرة إلى السعودية نهاية أبريل/نيسان 2017، فقد تحدثت علانية عن قصور في ملف حقوق الإنسان بالمملكة، وذلك في حضور الملك سلمان الذي كان يجلس بجانبها.
أيضًا شنت وسائل إعلام ألمانية ومنظمات هجومًا متكررًا ضد السعودية، على خلفية قضية المدون رائف بدوي الذي حكمت عليه المملكة بالسجن والجلد، ومنحته مؤسسة “دويتشه فيله” الممولة من الحكومة الألمانية جائزة “حرية الرأي والتعبير” وهو في محبسه بالمملكة، ما اعتبرته الرياض استفزازًا ألمانيًا.
تُظهر نتائج استطلاع رأي أجراه معهد “إمنيد” ونشرته صحيفة بيلد أن 60% من الألمان يعتبرون أنه يتوجب على برلين عدم مواصلة علاقاتها التجارية مع الرياض بسبب انتهاكات حقوق الإنسان
في العام 2015 تعرض بطل كرة القدم الألمانية بايرن ميونخ لهجوم كاسح من الإعلام الألماني عندما قبل لعب مباراة ودية مع فريق الهلال السعودي في يناير/كانون الثاني 2015، ما دفع النادي الألماني إلى إصدار بيان اعترف فيه أن خوضه تلك المباراة كان خطأً لا ينبغي ارتكابه.
وفي هذا الشأن أيضًا، تُظهر نتائج استطلاع رأي أجراه معهد “إمنيد” ونشرته صحيفة بيلد أن 60% من الألمان يعتبرون أنه يتوجب على برلين عدم مواصلة علاقاتها التجارية مع الرياض بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الأمر نفسه الذي ركزت عليه وزيرة الدفاع الألمانية ورزولا فون ديرلاين خلال زيارتها للمملكة في نهاية عام 2016، ولقائها الأمير الشاب محمد بن سلمان.
الحريري بين سياسات البلدين
تجددت فصول المواجهة مرة أخرى بين الرياض وبرلين عقب رفض ألمانيا احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في السعودية، فالأخيرة تحركت بعنف لإنهاء هذا الأمر، وقادت تحركات – مع فرنسا – للضغط على السعودية لإطلاق سراح الحريري الذي تراجع عن استقالته من منصبه التي أعلنها من الرياض، بمجرد عودته إلى بلاده، مما شكل إحراجًا للمملكة.
وفجَّر وزير الخارجية الألمانية زيغمار غابرييل أزمة استدعاء السعودية لسفيرها في برلين، بعد تصريحات – وُصفت بالمشينة وغير المبررة – بشأن دور السعودية في الأزمة اللبنانية، اعتبر فيها أن السعودية حاولت أن تجعل من لبنان “بيدقًا” لها في الصراع مع إيران.
وقال الوزير الألماني في تصريحات انتقدت السعودية: “هناك إشارة مشتركة من جانب أوروبا بأن روح المغامرة التي تتسع هناك منذ عدة أشهر، لن تكون مقبولة ولن نسكت عنها”، مضيفًا “بعد الأزمة الإنسانية والحرب في اليمن، وبعد ما حدث من صراع مع إمارة قطر، صار هناك منهجية للتعامل مع الأشياء وصلت ذروتها الآن في التعامل مع لبنان”.
ألمانيا في صف قطر
لم ينفصل التوتر القائم بين ألمانيا والأمير الشاب محمد بن سلمان عن الموقف الألماني الداعم لقطر في أزمة الحصار المفروض عليها، حيث أطلق وزير الخارجية الألماني تصريحات متكررة لرفع الحصار البحري والجوي الذي فُرض على الدوحة، وأوضح كذلك أن الحصار المفروض على قطر سيؤثر أيضًا في اقتصاد بلاده.
علاوة على ذلك، استضافت برلين أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني بحفاوة بالغة أثارت استفزاز السعوديين، وكذلك وزير الخارجية القطري الذي زار ألمانيا عدة مرات، وذلك لا ينفصل عن البُعد الاقتصادي، فقطر تعتبر ثالث أكبر سوق للصادرات الألمانية في العالم العربي، وتقدر حجم الصادرات الإنمائية لقطر بنحو 2.5 مليار يورو، وتنشط نحو 64 شركةً ألمانيةً في قطر بمقرات في العاصمة الدوحة.
أزمة الأمير المنشق
حضرت أبعاد الأزمة بين البلدين أيضًا في احتضان ألمانيا لأمير سعودي منشق، يُدعى خالد بن فرحان، سبق له التعرض للتمييز والاضطهاد على خلفية مطالبته بالحرية داخل المملكة، ما أدى به عام 2013 إلى الانشقاق عن الأسرة الحاكمة، والحصول على حق اللجوء السياسي في ألمانيا.
وظهر خالد في أكثر من وسيلة إعلام ألمانية رسمية، أتاحت له المساحة للحديث عن الخلافات بين آل سعود، وأبرزت انتقاداته نحو المملكة، ووفرت له الحماية القانونية التي منحتها، وبقي خالد الناجي الوحيد من عملية اختطاف أو تهديد من جانب المملكة، خلافًا لكل أمراء آل سعود المقيمين في أوروبا، ممن اعتادوا نقد سياسات المملكة دومًا.
حرب اليمن بدون أسلحة ألمانية
يعد موقف ألمانيا من الحرب السعودية على اليمن أبرز أسباب الخلاف بين برلين والرياض، فميركل عبرت خلال زيارتها إلى السعودية عن رغبتها في وقف الغارات الجوية السعودية على اليمن، قائلة: “يجب الحيلولة دون تعرض المزيد من الأشخاص في اليمن الفقير للعيش في وضع إنساني سيئ للغاية”، مضيفة “ألمانيا لديها لوائح صارمة فيما يتعلق بتصدير الأسلحة”.
بعد هذا الموقف تراجعت بالفعل صادرات الأسلحة إلى السعودية بعد وقف برلين تصدير الأسلحة إلى الدول المشاركة في الحرب على اليمن منذ عام 2015، وتمثلت الأسباب الرئيسية في تورط استخدام السعودية هذه الأسلحة في حربها ضد اليمن، وهي الحرب التي قادها الأمير الشاب وأدت إلى تدمير مناطق واسعة في اليمن ومقتل آلاف الضحايا المدنيين.
انتقد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بشدة قرار وقف تصدير الأسلحة الألمانية بالقول “لا نحتاج أسلحتكم سنجدها في مكان آخر”
وفي سبتمبر/أيلول 2017 أعلنت شركة صناعة الأسلحة الألمانية “هكلر آند كوخ” وقف تصدير الأسلحة الألمانية لعدد من الدول على رأسها السعودية، إذ وصفت السعودية بأنها دولة تشهد حروبًا أو فسادًا.
وتسببت هذه القرارات في غضب سعودي، فانتقدها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بشدة حينها بالقول: “لا نحتاج أسلحتكم سنجدها في مكان آخر”، وتعد المملكة ثالث أكبر زبون لاقتناء الأسلحة من ألمانيا، وتُشكل أجهزة سلاح الجو 90% من صادرات ألمانيا من السلاح للسعودية.
ويبقى الإشارة إلى أن السبب الأكبر للخلاف السعودي الألماني حاليًّا هو سياسات وتحركات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ما ظهر في الحملات الإعلامية الألمانية التي استهدفته بالهجوم والنقد بلغة عنيفة.
معضلة الاتفاق النووي مع إيران
كانت ولا تزال من أشد المتمسكين بالاتفاق النووي الموقع مع إيران في 2015، ورفضت مؤخرًا القرار الأمريكي بالانسحاب من الاتفاقية، وكان ذروة التحرك هو الإعلان الألماني الصيني المشترك التمسك بالاتفاق، وذلك بعد لقاء مشترك بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ.
تمسك ألمانيا بالاتفاق النووي جعل السعودية تنظر إليها على اعتبار أنها داعمة لعدوها اللدود إيران
في المقابل، أشادت السعودية بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي مع إيران الموقّع عام 2015، بينما تمسكت به بقية الأطراف (ألمانيا والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا) ما جعلها تنظر إلى ألمانيا على اعتبار أنها داعمة لعدوها اللدود إيران.
ويبقى الإشارة إلى أن السبب الأكبر للخلاف السعودي الألماني حاليًّا هو سياسات وتحركات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، التي ظهرت في الحملات الإعلامية الألمانية التي استهدفته بالهجوم والنقد بلغة عنيفة.