بعد أقل من 7 أشهر على احتفالها بولايتها الرابعة على التوالي والخامسة بوجه عام، ها هي صفحة رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة واجد (76 عامًا) تُطوى سياسيًا على أيدي الطلاب البنغاليين الثائرين، الذين أجبروا المرأة الحديدية التي هيمنت على الحكم في البلاد لقرابة عقدين كاملين، على الفرار ومغادرة العاصمة دكا على متن مروحية عسكرية في مشهد يشبه ذلك الذي حدث في المنطقة العربية قبل 13 عامًا.
وأمام التظاهرات العارمة التي عمّت أرجاء بنغلاديش منذ يونيو/ حزيران الماضي، وسقط فيها ما يقرب من 300 مواطن، اعتراضًا على نظام المحاصصة في الوظائف، لم تجد الشيخة حسينة، بعد أن اقتحم المتظاهرون مقر رئاسة الحكومة، سوى تقديم استقالتها كخيار وحيد بعدما وصلت الأمور بينها وبين الشعب إلى طريق مسدود، لتغادر البلاد مع شقيقتها الشيخة ريحانة إلى ولاية البنغال الغربي الواقعة في غربي الهند، وسط أنباء عن توجُّهها إلى لندن.
وفي خطاب متلفز له، قرر قائد الجيش في بنغلاديش، وقر الزمان، تولي المؤسسة العسكرية المسؤولية بعد استقالة واجد، معلنًا عزمه عقد محادثات لتشكيل حكومة مؤقتة بمشاركة العديد من التيارات السياسية المختلفة، داعيًا المواطنين إلى الكفّ عن العنف والثقة بالجيش.
وبعد عدة جولات من السجال ومعارك الكرّ والفرّ بين الشارع المتمترس بحقوقه والشيخة المحمية بسلطتها وجندها، نجح الطلاب الثائرون في إنهاء حكم المرأة التي حكمت البلاد بالحديد والنار لأكثر من 20 عامًا.. فما قصة هذا السقوط؟
قصة السقوط.. تسلسل زمني
– في سبعينيات القرن الماضي، أسّس رئيس الوزراء البنغالي آنذاك، الشيخ مجيب الرحمن، والد الشيخة حسينة، وقائد مسيرة استقلال البلاد، نظام المحاصصة “الكوتا”، والذي يخصّص قرابة ثلث الوظائف الحكومية لأبناء المحاربين القدماء الذين شاركوا في حرب الاستقلال ضد باكستان عام 1971.
– كان هذا النظام حينها مقبولًا على المستوى الشعبي كنوع من التقدير والوفاء لمن شاركوا في حرب الاستقلال والتحرير، لكن مع مرور الوقت بدأت الأمور تتخذ منحى آخر، فهناك أكثر من 400 ألف خريج يتنافسون سنويًا على 3 آلاف وظيفة حكومية، فيما هناك قرابة 18 مليون شاب عاطل عن العمل.
– مع تولي الشيخة حسينة السلطة عام 2009، واصلت العمل بهذا النظام الذي وصفه البعض بـ”الطائفي”، خاصة بعدما تحول إلى أداة في يد رئيسة الحكومة لدعم أنصارها ومنحهم العطايا والمزايا لتعيين أبنائهم ومعارفهم، فيما يغرق شباب البلد في مستنقع البطالة والفقر.. ومن هنا بدأ التململ الشعبي وبدأت بذرة الاحتقان تنمو رويدًا رويدًا.
– أسفر هذا التململ والغضب الشعبي المتصاعد طرديًا مع تفاقم أزمة البطالة عن احتجاجات عارمة شهدتها البلاد مع بدايات العشرية الثانية من تلك الألفية، وظهور ما عُرف بـ”حركة إصلاح الحصص”، والتي تطالب بإعادة النظر في هذا النظام، ما اضطر الحكومة في الأول من يناير/ كانون الثاني 2018 إلى إصدار تعميم يلغي هذا القانون.
– لكن يبدو أن هذا القرار لم يحظَ بالقبول لدى المحكمة العليا في بنغلاديش، والتي رأت فيه ليًّا لذراع السلطة، لتصدر قرارًا في 6 يناير/ كانون الثاني 2018 بإلغاء هذا التعميم الحكومي باعتباره غير قانوني، الأمر الذي أدى إلى موجة جديدة من الاحتجاجات قوبلت بمواجهات أمنية عنيفة، ما ساهم في إجهاضها مبكرًا.
– لم تتوقف دعوات المواطنين إلى ضرورة التصعيد لإلغاء هذا النظام، رغم القبضة الأمنية المشددة وموجات الاعتقال التي لا تتوقف بحق المعارضين وكل من يغرّد خارج السرب، ومع بداية يونيو/ حزيران 2024 تصاعدت المناشدات على منصات التواصل الاجتماعي لإحياء الاحتجاجات مرة أخرى بعدما ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب، لكن جاءت إجازات عيد الفطر ومن قبلها شهر رمضان لتقلّل نسبيًا من استجابة الشارع لتلك الدعوات.
– مع انتهاء إجازة الأعياد، عادت الاحتجاجات إلى الشارع مرة أخرى في 1 يوليو/ تموز 2024، لكن هذه المرة كانت بشكل أكثر زخمًا وحضورًا واتّساعًا، حيث شارك فيها العديد من الجامعات الحكومية والخاصة وعدد من المدارس والجهات الحكومية، تزامن ذلك مع تحرك قانوني لإلغاء حكم المحكمة العليا.
– بينما كان يُمني الشباب البنغالي نفسه باستجابة الحكومة والقضاء لمطالبه، إذ به يفاجأ في 10 يوليو/ تموز 2024 بحكم جديد من محكمة الاستئناف تؤيد فيه حكم المحكمة العليا بعدم قانونية إلغاء نظام المحاصصة، ليبقى الوضع على ما هو عليه، وهي الخطوة التي أشعلت الموقف وساهمت في اتّساع رقعة الاحتجاجات.
– أمام هذا المشهد الملتهب أصدرت رئيسة الوزراء، الشيخة حسينة واجد، في 14 يوليو/ تموز 2024، بيانًا هددت فيه “المتسبّبين في عمليات القتل والنهب”، دون أن تحدد هوية المقصود بهذا الوعيد، بل وصل الاستفزاز إلى تشبيه المشاركين في تلك الاحتجاجات بالخونة الذين قدّموا المساعدات للجيش الباكستاني خلال حربه مع بنغلاديش عام 1971، وكان ذلك نقطة التحول الكبرى في مسار الاحتجاجات التي بات من الصعب احتوائها.
– جاء هذا البيان بمثابة الضوء الأخضر لأعضاء رابطة شاترا البنغلاديشية (الجناح الطلابي لحزب رابطة عوامي الحاكم) للهجوم على الطلاب المحتجين داخل حرم جامعة دكا، وذلك في الخامس عشر من الشهر ذاته، أي بعد يوم واحد فقط من بيان الشيخة، لتتصاعد وتيرة العنف بين الطرفين مع دخول قوات الأمن كخصم ضد المتظاهرين، لتبدأ كرة النار في التدحرج لتشمل جامعات ومدارس أخرى.
– في ظل إصرار السلطة، حكومةً وأمنًا، على المضيّ قدمًا في طريق العنف مع المحتجين، أضرم الطلاب المتظاهرون النار في مبنى التلفزيون الرسمي للبلاد وعشرات السيارات المركونة في محيطه، وذلك في الثامن عشر من الشهر الماضي، لتفتح الشرطة النار على الطلاب حيث سقط 32 قتيلًا.
– أعقب هذا التطور قرار حكومي بقطع شبكة الإنترنت بشكل كامل على معظم مدن البلاد، ما استفز المتظاهرين الذين اقتحموا في اليوم التالي مباشرة سجنًا في منطقة نارسينجدي بوسط بنغلاديش، وأطلقوا سراح مئات السجناء قبل أن يضرموا النار في المبنى، لتبدأ موجة عنف شرطي جديدة أسفرت عن سقوط 115 طالبًا.
– بعد وصول الاحتجاجات إلى طريق مسدود أمام تلك الدماء التي أُريقت عن عمد وإصرار ممنهج، اضطرت الشيخة حسينة في أعقاب اقتحام المتظاهرين لمقرّ رئاسة الوزراء، مغادرة البلاد فورًا برفقة شقيقتها، ليُطيح الطلاب بالمرأة الحديدية التي حكمت البلاد بالنار على مدار عقدَين كاملَين.
المحاصصة ليست السبب الوحيد
قد يكون قانون المحاصصة وتخصيص قرابة ثلثي الوظائف الحكومة للمحاسيب والمحظيين هو الشرارة التي أشعلت نيران الاحتجاجات لكنه ليس السبب الوحيد، فهناك قائمة مطولة من الأسباب والدوافع التي أجبرت البنغاليين على ركل الشيخة خارج البلاد وإنهاء مسيرتها الأطول على رأس الحكومة.
وعرفت السنوات الأخيرة من حُكم حسينة موجات متتالية من الاعتقالات والحبس والمحاكمات الجائرة واستهداف المعارضين، وإطلاق يد الشرطة والجيش والقضاء لقمع الخصوم والتنكيل بهم، وتفشي الفساد وحدوث انقسامات مجتمعية بسبب التفرقة بين المواطنين على حسب الميول السياسية، فضلًا عن الاتهامات بتزوير الانتخابات والتلاعب بإرادة المواطنين.
وشهدت الاحتجاجات الأخيرة فقط اعتقال أكثر من 10 آلاف شخص، وقتل المئات من المتظاهرين، من بينهم 36 طفلًا بالرصاص بحسب اليونيسف، فيما وصل عدد الذين نُفّذ بحقهم أحكام إعدام جائرة قرابة 1000 شخص عام 2013، فيما يقبع نحو 2400 شخص في انتظار تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة ضدهم، فيما لم يسلم من هذا التنكيل أي من فئات المجتمع، أساتذة جامعات، أطباء، حقوقيون، صحفيون، سياسيون.. إلخ.
وكانت الجماعة الإسلامية في بنغلاديش واحدة من أصحاب النصيب الكبير في الاستهداف على أيدي حسينة، حيث حظرتها وأعدمت العديد من أبرز قادتها، منهم عبد القادر ملا القيادي البارز وأول قيادات الجماعة الذي تم إعدامه في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2013، كذلك الوزير السابق وأمين عام الجماعة علي إحسان محمد مجاهد، الذي أُعدم يوم 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، ومحمد قمر الزمان، ومطيع الرحمن نظامي، ومير قاسم علي وغيرهم العشرات.
بخلاف ذلك، حاولت حسينة ترسيخ أركان حكمها من خلال منح المقربين منها المنح والعطايا والامتيازات والوظائف الحكومية لضمان ولائهم لها، على حساب الملايين من أبناء الشعب الذين يعانون من البطالة، وهو ما زاد من حدّة الاحتقان والتفسخ المجتمعي الذي وجد ضالته في الاحتجاجات الأخيرة، لينفجر بهذه الكيفية التي لم يتوقعها المقربون من الشيخة.
حسينة واجد.. رمز الديكتاتورية المدنية
تعدّ الشيخة حسينة، المولودة في 18 سبتمبر/ أيلول 1947، الابنة الأكبر من بين 5 أبناء لوالدها الشيخ مجيب الرحمن الذي قاد بنغلاديش إلى الاستقلال، وقد تخرجت من جامعة دكا عام 1973، وشاركت في الحركات الطلابية التي كان لها فيها باع طويل، حيث كانت نائبة لرئيس اتحاد الطلاب في كلية البنات المتوسطة الحكومية، وكانت عضوًا في رابطة الطلاب بجامعة دكا.
ترأّست حسينة رئاسة الوزراء لمدة قاربت عقدين كاملين من خلال 5 ولايات، الأولى من يونيو/ حزيران 1996 إلى يوليو/ تموز 2001، ثم الأربعة الأخرى متصلة من يناير/ كانون الثاني 2009 حتى أغسطس/ آب 2024، لتكون بذلك أطول رئيسة وزراء خدمة في تاريخ البلاد.
قضت سنوات حياتها الأولى خارج البلاد، قبل أن يغتال ضباط عسكريون منشقون والدها، رئيس الوزراء حينها، مع والدتها وأشقائها الثلاثة في انقلاب عام 1975، حتى عادت مرة أخرى عام 1981 لتصبح زعيمة للمعارضة وتتولى زعامة حزب رابطة عوامي الذي كان يقوده والدها.
دخلت في صدام مع الشيخة خالدة ضياء، التي كانت رئيسة للوزراء خلال فترة 1991-1996، رغم تحالفهما سابقًا والاتفاق على الإطاحة بالديكتاتور العسكري حسين محمد إرشاد عام 1990، لكن سرعان ما انقلبت عليها واتهمتها بالتزوير، لتخلفها في رئاسة حكومة بنغلاديش في الانتخابات التالية التي جرت عام 1996.
وبذلك تصبح حسينة ثاني امرأة تحكم بنغلاديش بعد الشيخة خالدة، اللافت هنا أن كلتيهما جاءتا للحكم من بيت سلطة، الأولى ابنة الشيخ مجيب الرحمن قائد الاستقلال وأول رئيس وزراء بعد التحرير، والثانية زوجة الجنرال ضياء الرحمن الذي اُغتيل في انقلاب عام 1981.
شهدت البلاد تحت حكم حسينة طفرة اقتصادية كبيرة، حيث تراجعت معدلات الفقر من 31.5% إلى 20.5%، كما ارتفع متوسط نمو الناتج المحلي السنوي الإجمالي في المتوسط بنسبة 7% ووصل إلى ذروته عام 2021 بـ 8%، وأصبحت الدولة التي كانت من أفقر بلدان آسيا واحدة من بين أسرع 5 اقتصادات نموًّا في العالم، كما احتلت المرتبة 41 من حيث الناتج المحلي الإجمالي.
مصريون يسخرون من تصريحات قائد الجيش في #بنجلاديش.. ماذا قالوا؟ pic.twitter.com/8TFrJj9x7l
— شبكة رصد (@RassdNewsN) August 5, 2024
الرخاء كان على المستوى الاجتماعي كذلك، حيث الاهتمام بالتعليم والمرأة تحديدًا، إذ وصل عدد الأطفال الذين أكملوا تعليمهم الابتدائي إلى 98% مقارنة بـ 30% أوائل الثمانينيات، كما شهدت المرأة في عصرها تقدّمًا ملحوظًا، حيث تفوقت على الرجل في نسب التعليم ومحو الأمية، لتتحول المرأة البنغالية من أكثر نساء العالم فقرًا إلى رائدات أعمال كان لهنّ دورهن الملموس في نهضة البلاد.
لكن وفي الجانب الآخر من الصورة، كانت القبضة الأمنية حاضرة وبقوة، الحكم بالحديد والنار والدماء، التنكيل بالمعارضة والجماعات الإسلامية، استهداف كل من يغرّد خارج السرب، ظنًّا أن ذلك هو السبيل الموثوق لترسيخ حكمها وتجنّب أي سيناريوهات من شأنها أن تقود إلى مصير والدها وأسلافه حيث الانقلابات والاغتيالات.
وبعد سنوات من القبضة المشددة، وغلق كل منافذ الحريات، وإجهاض كافة الحقوق، والتنكيل بكل من تسوّل له نفسه أن يعبث بالخط المرسوم له من قبل السلطة، ها هي صفحة المرأة الحديدية تُطوى بشكل مهين، لتستقل طائرتها الخاصة خلسة بمعزل عن أعين الناس، فرارًا بحياتها وروحها من حناجر الأصوات التي بُحّت على مدار سنوات لأجل منحها المتنفس، وإقرار العدالة والشفافية والحياة الكريمة.
اللافت هنا تطابق التجربة البنغالية مع نظيراتها في بعض البلدان العربية إبّان فترة الربيع العربي، في الدوافع (الظلم والفساد والتنكيل) والأدوات (التظاهرات والاحتجاجات) والنتائج الأولية (هروب الحاكم وتولي الجيش المسؤولية)، وسط تحذيرات من المصير ذاته، فهل يستفيد البنغاليون من تجارب العرب أم يواصلون كغيرهم السقوط في الفخ، حيث الانتقال من الديكتاتورية المدنية إلى الديكتاتورية العسكرية؟