من كان يتوقع أن يتسبب فن الخط والجرافيتي بجذب كل هذا الاهتمام الدولي بالمدينة التي لم يكن يهتم بها سكانها المحليون، وأن يتمكن من تصوير السكان في الإعلام بطريقة لم يعتد الإعلام نفسه على تصويرهم بها، ومن كان يتخيل أنه سيعمل على توحيد الناس، حتى لو كانوا لا يفهمون معاني الكلمات المكتوبة التي يعاني أهل لغتها أنفسهم من قراءتها أيضًا، عن فن الخط العربي والجرافيتي الذي أنقذ مدن تونس نتحدث.
تحدث الفنان التونسي “السيد” في إحدى محادثات “تيد” عن مساهمته في استخدام فن الجرافيتي والخط العربي أو “الكاليجرافي” في تحويل مناطق مهمشة في تونس إلى مناطق تجذب انتباه السكان المحليين والاهتمام الدولي أيضًا من خلال رسائل من القرآن الكريم والشعر العربي يستخدمها السيد من أجل تحويل المناطق المهمشة أو النائية أو التراثية التي لم تنل اهتمام السلطات إلى مناظر خلابة تجذب اهتمام السياح والصحافة الدولية.
اتفق مع فنان الكاليجرافي السيد، فنان تونسي آخر قرر تحويل إحدى القرى التونسية الفقيرة التي كادت أن تكون مهجورة من سكانها الأصليين ومن السياح إلى أكبر معرض فني مفتوح في العالم توجد لوحاته على الجدران في كل شوارع القرية، كان ذلك ضمن مشروع “جربة هوود” على يد الفنان التونسي مهدي بن شيخ الذي قام بمهمة صعبة لتحويل قرية مهملة إلى متحف ومزار سياحي عالمي.
يرى السيد أن الدمج بين الخط العربي والجرافيتي بمثابة دعوة لمعرفة اللغة العربية والفن الخاص بها
إحدى لوحات الفنان السيد في تونس
قبل أن يبدأ الفنان مهدي بن شيخ بالخطوات الأولى في مشروعه “جربة هوود” في جزيرة “جربة” التونسية، كانت تراوده فكرة أكبر متحف فني مفتوح في العالم لسنوات طويلة، ولهذا جمّع أكثر من 150 فنانًا من 30 بلدًا مختلفة والذهاب بهم إلى موطنه تونس، ليعيد للجنوب التونسي مغامرات فنية نادرًا ما كان يحظى بها.
في حوار له مع “دويتشيه فيليه” قال مهدي بن شيخ إنه كان يهدف لخلق متحف متحرك ومفتوح ومجاني للجميع، له نفس مزايا المتحف العادي، لكنه في الهواء الطلق وليس محصورًا في مكان ضيق، وقد أخذ في الاعتبار التأثيرات الضوئية والإشارات الحركية لإقامة هذا المتحف.
اللوحة من إحدى قرى جزيرة “جربة” في تونس
تتمتع جزيرة جربة بطراز أندلسي بالنسبة للهندسة المعمارية، وهو ما ساعد الفنان التونسي على إتمام غايته التي أظهر تجاهها السكان المحليين بعض التعنت لعدم اعتيادهم على وجود الرسومات على الجدران بهذا الشكل، وبعد رؤيتهم السائحين من كل أنحاء العالم يتركون الشواطئ والفنادق للتنزه بين شوارع القرى في الجزيرة وجدوا أن هذا المشروع يعود بالنفع أولًا عليهم وعلى تونس إجمالًا.
هناك ما يقارب 300 لوحة فنية على مختلف جدران جزيرة جربة في تونس
كيف يمكن أن ينقذ الفن المجتمعات؟
تصميم لوحة الصبي في “فيلاكروزيرو”
جزيرة جربة في تونس لم تكن المثال الوحيد على كيفية إنقاذ الفن للمدن والمجتمعات، كان هناك مثال آخر، حي من الأحياء الفقيرة في مدينة “ريو” في البرازيل، حيث تتكون المدن داخل المدن بعد انتشار الأحياء الفقيرة داخلها، كان هناك فنانان من هولندا يلقيان نظرة على أحد الأحياء شديدة الفقر في مدينة ريو وهو حي “فيلاكروزيرو” المشهور بانتشار الفقر والجريمة والمساكن غير المكتملة ذات الطوب العاري، لتأتي إلى الفنانين فكرة عن كيف من الممكن أن يبدو الحي إن قاما بطلاء كل المساكن غير المكتملة تلك!
من كان يتوقع تصميمًا لقطعة فنية واحدة مكونة من المنازل الفقيرة غير المكتملة في مكان مثل “فيلاكروزيرو”؟ في الواقع توقع “هان وهاس” فنانان من هولندا ذلك المشروع، وبدأوا بالفعل في تنفيذه بمساعدة محلية من ساكني الحي، وبدأوا بطلاء كل البيوت باللون الأزرق استعدادًا لتصميم لوحة فنية لطفل صغير يلعب بطائرة ورقية.
بدأت العديد من الصحف العالمية تكتب عن اللوحة الفنية المرسومة على منازل الحي الفقير “فيلاكروزيرو” تحت عناوين مثل “حي سيء السمعة يتحول إلى متحف في الهواء الطلق”، وهو ما دفعهم إلى العودة للبرازيل وتحويل العديد من المناطق المهمشة إلى مناطق تجذب السياح واهتمام الصحافة الدولية.
بدأت تصاميمهم تكبر شيئًا فشيئًا لتضم مساحات أكبر من المنازل وتضم عددًا أكبر من الفنانين والمتطوعين المحليين لمساعدتهم، وهو ما فعلوه في منطقة مركزية تُسمي “سانتا مارتا” في البرازيل، تعاون فيها أهالي الحي مع الفنانين الهولنديين لتحويل المنطقة إلى الصورة الموجودة أسفل.
سانتا ماريا في البرازيل
تم دعوة الفنانين إلى القيام بالفكرة نفسها في كثير من الأحياء الفقيرة في بلاد مختلفة من بينها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة “نورث فيلي” واحدة من أفقر المناطق في الولايات المتحدة، واستعانوا بالمساعدة المحلية من شباب وشابات المنطقة من خلال التصميم الفني بمساعدة أصحاب المحلات والبقالة وملاك المساكن لتحويل المنطقة شديدة الفقر إلى مزيج فسيفسائي عملاق من الألوان.
“ديسباسيتو” وإنقاذ السياحة
“بوريتو ريكو لا بيرلا” المكان الذي صورت فيه أغنية “ديسباسيتو”
ربما لم تلحظ أن الفيديو الأكثر مشاهدة على منصة يوتيوب بأكملها، وهو فيديو أغنية “ديسباسيتو” التي انتشرت بشكل فيروسي العام الماضي، كان سببًا رئيسيًا في إنقاذ الجزيرة الفقيرة “بوريتو ريكو لا بيرلا” التي صُورت بها، وجذبت اهتمام كثير من المشاهدين الذين قرروا زيارتها بعد مشاهدتهم لفيديو الأغنية.
سجل العديد من السائحين تجاربهم حينما زاروا جزيرة “بوريتو ريكو لا بيرلا” أنه كان يكفيهم ذكر كلمة “ديسباسيتو” للعامة في الشوارع ليرشدوهم للمكان الذي صُورت به الأغنية، حيث صار أهالي الجزيرة معتادين على حضور السياح لرؤية مكان تصوير الأغنية فقط.
تعتبر المنطقة التي صُورت بها الأغنية من أفقر مناطق “سانت خوان” في مقاطعة “بوريتو ريكو” بمنطقة البحر الكاريبي التي ينتشر فيها تجارة المخدرات بشكل واسع، لتكون من أكثر المناطق التي لا تُرجحها وكالات السياحة للسائحين كوجهة لقضاء عطلة، كما كانت على شفا الإفلاس نتيجة لأزمة مالية عام 2015.
جاءت الأغنية لتنقذ ذلك، وارتفعت حجوزات الطيران والفنادق للجزيرة بشكل خيالي، كما تزايدت نسبة البحث عليها في جوجل بنسبة 50% بمجرد انتشار الأغنية
لم يهتم الكثيرون لمعاني كلمات أغنية “ديسباسيتو” القبيحة بعض الشيء، فلم يكن الأمر ليزداد انتشارًا إلا بعد إعادة توزيع جاستن بيبر للأغنية، وهو ما جعلها تنتشر انتشارًا فيروسيًا في كل مكان ليتغنى ويستمتع بها الجميع، بالإضافة إلى إنقاذها أفقر المدن من الإفلاس.
يمكن للفنون الجدارية وفن الخط العربي والأغاني أن تصعد بمناطق كادت تندثر من التهميش والإهمال إلى قمة المعالم السياحية التي تجذب مئات الآلاف من السائحين سنويًا وتنشط من حركة الأعمال الحرفية الصغيرة بالنسبة للسكان المحليين، لتنقذ المدن من الفقر وسكانها من التهميش وتصعد بهم من القاع إلى القمة دون الحاجة لرأس مال ضخم أو مخططات أولية باهظة الثمن.