في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي تعليق العمل باتفاقية قرطاج المحددة لعمل الحكومة الحاليّة بسبب تعثر المفاوضات بشأن تغيير تركيبتها أو إقالتها، بعد أسبوع من إجراء الانتخابات البلدية التي أفرزت فوز حركة النهضة وتراجع “نداء تونس”.
أسباب القرار
تعليق العمل بهذه الاتفاقية جاء نتيجة عدم اتفاق المجتمعين على النقطة 64 من الوثيقة، وهي النقطة المتعلقة بمصير رئيس الحكومة يوسف الشاهد، رغم اتفاقهم على 63 نقطة، حيث تمسّك كل طرف بموقفه بشأن الشاهد الذي يترأس الحكومة منذ أغسطس/آب 2016.
ووقعت 9 أحزاب و3 منظمات تونسية في 13 من يوليو/تموز 2016، بقصر قرطاج في تونس العاصمة، وثيقة اتفاق قرطاج، وتم على أساسها تشكيل حكومة وحدة وطنية هي الثامنة في تونس بعد ثورة 2011 برئاسة يوسف الشاهد.
وتضمنت “وثيقة قرطاج 1” خطوطًا عامة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وحددت أولويات العمل الحكومي في عدد من المجالات أهمّها إحلال الأمن والاستقرار في البلاد وتسريع نسق النمو والتشغيل ومقاومة الفساد واستكمال تركيز المؤسسات وترسيخ الانتقال الديمقراطي وحمايته من الانحرافات، وذلك بفرض احترام الدستور والقانون وصون حقوق وحريات التونسيين.
مسؤولية تعليق العمل بالوثيقة حمّله رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي للأطراف التي لم تسع إلى التوافق
وقالت المتحدثة باسم الرئاسة التونسية سعيدة قراش للصحفيين عقب اجتماع للموقعين على “وثيقة قرطاج” أمس، إنه جرى تعليق العمل بالوثيقة إلى أجل غير مسمى، وأرجعت قراش قرار السبسي إلى استحالة الوصول إلى موقف موحد بين الأطراف الموقعة على الوثيقة بشأن مصير حكومة يوسف الشاهد.
يذكر أنه في يناير/كانون الثاني الماضي دعا الرئيس التونسي الأطراف الموقعة في يوليو/تموز 2016 على وثيقة قرطاج إلى الاجتماع للتداول بشأن أوضاع البلاد، في ظل تدهور الوضع السياسي والاقتصادي مع فترة من عدم الاستقرار بسبب عودة الاحتجاجات الاجتماعية في مناطق إنتاج الفوسفات والبترول، وتعطل مسار إصلاح الاقتصاد المتردي.
وفي مارس/آذار الماضي شكل الموقعون على الوثيقة لجنة خبراء لصياغة وثيقة جديدة تتكون من 18 عضوًا، تحدد أولويات جديدة اقتصادية واجتماعية، وتم الاتفاق على 63 نقطة في “وثيقة قرطاج 2” تتعلق بالبرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفترة المقبلة، وتعذر الوصول إلى اتفاق بشأن مصير حكومة الشاهد.
من يتحمّل المسؤولية؟
مسؤولية تعليق العمل بالوثيقة حمّله رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي للأطراف التي لم تسع إلى التوافق، ولفت إلى أن حركته تعودت على التنازل لمصلحة البلاد، لكن حينما يصل الأمر إلى مرحلة الخطر والإضرار بالمصلحة العليا فإنها لن تقدم التنازلات.
وأوضح الغنوشي أن حركته لا ترى أي مصلحة لتونس في الإطاحة بالحكومة الحاليّة دون إيجاد بديل واضح، وقال: “هذه الحكومة ليست مثالية لكن تغييرها ودون بديل واضح لا سيما أنه عندنا برنامج الآن يمكن أن نفرضه على الحكومة، فلماذا التغيير في وقت تتعرض فيه المالية التونسية لخطر شديد؟”.
ويفهم من كلام الغنوشي تحميله المسؤولية لحزب “نداء تونس”، وهو حزب رئيس الوزراء الذي يصر على ضرورة إقالة حكومة الشاهد كلها بدعوى إخفاقها في إنعاش الاقتصاد المنهك ووصول المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات “كارثية”، وإيجاد ربان جديد لرئاسة الحكومة، على أن تكون شخصية ندائية تلتزم بعدم الترشح للانتخابات المقبلة في العام 2019، وتحظى بثقة حافظ قائد السبسي المدير التنفيذي لحزب نداء تونس.
من جانبه اعتبر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي أن تعليق العمل بوثيقة قرطاج قرار من رئيس الجمهورية، وأن الاتحاد سيعود إلى هياكله لاتخاذ القرار المناسب، وأكد أن منظمته لم تعد ملزمة بشيء فيما يتعلق بالوثيقة.
النهضة مع الاستقرار
قرار التعليق طرح الكثير من الأسئلة بشأن مصير الحكومة التي يقودها يوسف الشاهد، في هذا الشأن قال زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي إن تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2 لا يعني انتهاء العمل بها أو فقدان حكومة يوسف الشاهد للشرعية، فشرعية الحكومة منبثقة عن البرلمان وأن من يريد الإطاحة بها عليه المرور بالبرلمان.
واعتبر الغنوشي أن مسألة تغيير الحكومة ليست من مهام الموقعين على وثيقة قرطاج، ولو أراد رئيس الجمهورية تغيير هذه الحكومة لتمكن من ذلك، وأمامه طرق عديدة من بينها الذهاب إلى البرلمان أو مطالبة رئيس الحكومة بالاستقالة، بالنظر إلى أنه هو من أتى بالشاهد.
“نداء تونس” اعتبر أن الحكومة الحاليّة قد تحولت إلى عنوان أزمة سياسية أفقدتها صفتها كحكومة وحدة وطنية
زعيم النهضة أوضح أن حركته وكتلتها بالبرلمان ترى أن الإطاحة بالحكومة فيها خطر على البلاد لا تتحمل مسؤوليته، وهي تدعو إلى إعطاء الحكومة الحاليّة فرصة تنفيذ البرنامج المتفق عليه في ظل بوادر الانتعاش الاقتصادي التي تعيشها البلاد، وبيّن أن حركة النهضة مع الإصلاح في إطار استمرارية الحكومة، لاعتبارها أن التغيير لا يمثل مصلحة لتونس وبالنظر إلى أن البلاد تحتاج إلى إصلاحات وتمر بظرف دقيق نتيجة وضعها الاقتصادي والمالي الذي لا يتحمل الإطاحة بالحكومة.
ونبه الغنوشي أن البلاد متجهة نحو انتخابات تشريعية ورئاسية في 2019، والزج بها في مشروع تغيير جذري بتغيير رئيس الحكومة سيتطلب المزيد من الوقت، لا يمكن لتونس أن تتحمله بالنظر إلى أنها في حاجة إلى الاستقرار والاستمرارية في إطار سياسة التوافق التي يقودها رئيس الجمهورية.
نداء تونس: حكومة الشاهد عنوان أزمة سياسية
قرار التعليق لم يرق لحركة نداء تونس، حيث كانت قياداتها تصر على ضرورة إقالة يوسف الشاهد بعد أن حمّلته نتيجة فشل الحزب في الانتخابات المحلية التي عرفتها تونس في الـ6 من مايو/أيار الحاليّ، وأفرزت فوز حركة النهضة بأغلبية مقاعد المجالس المحلية بنسبة 29.6% بواقع 2135 مقعدًا، في حين حل حزب “نداء تونس” في المرتبة الثانية بـ22.7% من الأصوات، وذلك بعد أن حصل على 1595 مقعدًا.
فضلًا عن ذلك، تحمّل قيادات “النداء” حكومة الشاهد مسؤولية ما وصل له وضع البلاد، حيث سبق أن أكد نجل السبسي أن حكومة الشاهد كانت سببًا في تدهور المقدرة الشرائية للشعب التونسي والانهيار المريع لكل المؤشرات الاقتصادية وانهيار قيمة الدينار، فضلًا عن كونها السبب في الأزمة المالية العمومية التي تشهدها تونس، والتداين من أجل خلاص الأجور، وانهيار احتياطي الدولة من العملة الصعبة بشكل غير مسبوق في تاريخ البلاد.
على إثر هذا القرار، اعتبرت حركة “نداء تونس” في بيان لها الحكومة الحاليّة التي نتجت من اتفاق قرطاج كمرجعية سياسية جامعة، قد تحولت إلى عنوان أزمة سياسية أفقدتها صفتها كحكومة وحدة وطنية، الحركة أكدت أيضًا رفضها تلقي أي دروس من أي كان في الحرص على المصلحة الوطنية واستقرار البلاد، مشيرة إلى استعدادها الكامل لخوض الاستحقاقات السياسية المقبلة ورفضها المطلق أن تكون أداة لضرب التوافق الاجتماعي والسياسي”.
ويرى حافظ السبسي أن الشاهد سيكون – في حال مواصلة ترأسه للحكومة – منافسًا جديًا له في قادم المحطات التي تخص الحزب وتونس، ذلك أن الشاهد استطاع بمجرد إعلان حربه على الفساد صيف السنة الماضية، أن يستقطب شقًا واسعًا من النواب وأنصار النداء، وهو ما زاد في تعميق الهوة بينه وبين حافظ ومجموعته.
السيناريوهات الدستورية لإطاحة الشاهد
بعد إعلان فشل الاتفاق بخصوص مصير يوسف الشاهد وحكومته، تعد السيناريوهات الدستورية لإطاحة الشاهد صعبة المنال، فإذا لم يتقدم من تلقاء نفسه بالاستقالة، سيبحث المطالبون برحيله عن سيناريوهات دستورية أخرى، على غرار إكراهه على عرض حكومته على البرلمان طلبًا للحصول على الثقة، كما فعل سلفه الحبيب الصيد، وهو السبيل الأيسر أمام “نداء تونس” وقادة قرطاج، ولكنه يحتاج إلى تسليط ضغوط سياسية جمة على الشاهد المتمسك بالبقاء على رأس الحكومة.
لا تكاد تمر سنة دون أن تتشكل حكومة جديدة في تونس
ويطرح الدستور أيضًا ورقة طلب الرئيس السبسي من البرلمان التصويت على الثقة للحكومة، وهو سيناريو لا يميل إليه الرئيس، لأن فيه مخاطرة كبيرة قد تكون عواقبها وخيمة، لأنه في حال تم تجديد الثقة بالحكومة فسيكون ذلك إحراجًا كبيرًا للرئيس وتراجع الثقة فيه.
أما السيناريو الآخر فهو القيام بعريضة لوم للشاهد، ويحتاج الأمر إلى جمع 73 توقيعًا ثم التصويت بالأغلبية المطلقة (109 أصوات)، وهو أمر صعب، فمع تمسك حزب “النهضة” صاحب الـ68 مقعدًا برلمانيًا بالإبقاء على يوسف الشاهد رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية، يتضاءل أي مشروع لتنحيته عن طريق البرلمان.
فضلًا عن صعوبته من الناحية العددية في هذا الظروف الحاليّة، فإن الفصل 80 من الدستور التونسي ينصّ على أنه لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة في حالات الطوارئ، ولا تكاد تمر سنة دون أن تتشكل حكومة جديدة في تونس، فخلال الـ7 سنوات الماضية شهدت البلاد تشكيل 9 حكومات متتالية على يد 7 رؤساء حكومة، لم يدم مكوث أطولها مدة في القصبة أكثر من سنة ونصف، وكل حكومة تشهد بدورها أكثر من تعديل وزاري، حتى إن بعض الوزراء لم يتمكنوا من معرفة أروقة وزاراتهم.