يخبرنا التحليل النفسيّ في واحدةٍ من أكثر نظرياته إثارةً للاهتمام أنّ الاكتئاب قد لا يكون في الحزن أو مشاعر الألم التي نعيشها، بل إنه نوعٌ من الغضب الكامن الذي لم يعثر الفرد عليه داخليًا، أو لم يفهم طبيعته وأصله، فقام عقله بشكلٍ لا واعٍ بتحويله وإعادة توجيهه على أنه مشاعرٌ من الحزن والألم النفسيّ التي نعيشها وتجعلنا ندخل في حالةٍ الاكتئاب تلك. كما تفترض تلك النظرية أيضًا على أننا ذا استطعنا فقط فهم خيبة أملنا وغضبنا بشكل أكثر نضوجًا وحكمةً، فبإمكاننا فهم ذواتنا ووجودنا في نهاية المطاف المطاف، بما في ذلك مشاعرنا وعواطفنا المختلفة تجاه العديد من جوانب حياتنا.
وهنا قد تسأل نفسك، كيف يمكنك أن تكون غاضبًا فتظنّ نفسك حزينًا؟ أو كيف تكون حزينًا فتتحوّل مشاعرك لغضب كما تفترض تلك النظرية. لكن في البدء، علينا أولًا أن نفهم طبيعة الغضب والأسباب النفسية الكامنة وراء حدوثه أو تطوره. ففي علم النفس، يُعدّ الغضب موضوعًا معقّدًا مثله مثل غيره من العواطف والانفعالات الأخرى، كما يحمل العديد من التعريفات المختلفة، لعلّ أبسطها أنه استجابة طبيعية وتلقائية لانفعالاتٍ داخلية تحدث عندما لا يشعر الفرد بحالةٍ جيّدة إزاء شخصٍ أو موقفٍ ما، أو حين يشعر بالرفض أو التهديد أو الخوف أو الإحباط أو الألم أو الحزن.
تفترض إحدى نظريات التحليل النفسي أنّ الاكتئاب قد لا يكون في مشاعر الحزن التي نعيشها، بل إنه نوعٌ من الغضب الكامن الذي لم يعثر الفرد عليه داخليًا، أو لم يفهم طبيعته وأصله، فقام عقله بشكلٍ لا واعٍ بتحويله وإعادة توجيهه على أنه مشاعرٌ من الحزن
ونظرًا لكونه قد يحدث في معظم الأحيان نتيجةً لشعورٍ آخر أو عاطفةٍ أخرى، فغالبًا ما يميل الكثير من علماء النفس للتعامل معه على أنّه عاطفة ثانوية لا أساسية، وربّما من هذه النقطة بالتحديد نستطيع أنْ نفهم طبيعة غضبنا أكثر أولًا، ومدى ارتباطه بشعورنا بالحزن والألم ثانيًا. لذلك فالطريقة الأمثل للتعامل مع الغضب هو فهمه ومحاولة معرفة أصله وأسبابه وكيفية التحكم به وتمييزه عن الشعور بالحزن أو الأذى النفسيّ أو الإهانة أو الألم أو الإحباط.
وبكلمات أخرى، نستطيع القول أنّ الغضب يغلب عليه بكونه عاطفةً بديلةً؛ أيْ أنّنا في كثيرٍ من الأحيان نميل للتعبير عن أنفسنا بالغضب حتى لا نضطر للتعبير عن ألمنا أو عن خوفنا على سبيل المثال، فنحن نعتقد أنه من الأفضل لنا أنْ نُظهر غضبنا على أنْ نظهر ألمنا للغير، وهذا قد يحدث بوعيٍ منا أو دون وعي. فكّر بالمرّات التي كنت تشعر فيها بالإحباط والألم من صديقك أو حبيبك، فبدأتَ تأتي بانفعالاتٍ غاضبة كالصراخ أو الضرب أو السباب والشتم وما إلى ذلك، فلربما تفهم الفكرة أكثر.
افتقارنا للمعرفة الذاتية وفهم النفس يعدّ سببًا منطقيًا لهذا التداخل الجدليّ بين الشعوريْن
ومحاولةً للإجابة على السؤال الذي طرحناه في البداية، فقد يكون افتقارنا للمعرفة الذاتية وفهم النفس والشخصية سببًا منطقيًا لهذا التداخل الجدليّ بين الشعوريْن. كما أنّ عقلنا يعجز في أغلب الأحيان عن إدراك المعلومات التي تتوافر إليه وترتيبها واستخدامها للوصول إلى استنتاجٍ ما بخصوص مشاعره والتعامل معها.
أو قد يرجع السبب وراء ذلك أنّنا قد نكون في الكثير من الأحيان نبحث عن طريقةٍ أو وسيلة للهرب من اعترافنا بمشاعرنا وعواطفنا الحقيقية، والتي غالبًا ما تكون مؤلمةً بالنسبة لنا ونجد صعوبةً في إخراجها وإظهارها للآخرين، وبالتالي نلجأ للغضب كوسيلةٍ بديلة تعمل على تحويل الانتباه والتركيز عن الذات وأفكارها وعواطفها ومشاعرها الحقيقية أو الأصلية، والتركيز على جانبٍ أو أحدٍ آخر بدلًا من ذلك. وهذه بالنهاية وسيلة إلهاءٍ يسعى إليها الفرد كي يحمي ذاته ونفسه مؤقتًا من مشاعره المؤلمة أو غير المرغوبة، فأن تبدو غاضبًا يمكن أن يساعدك على إخفاء حقيقة ألمك أو خوفك أو ضعفك أمام الآخرين.
قد نبحث عن طريقةٍ أو وسيلة للهرب من اعترافنا بمشاعرنا وعواطفنا الحقيقية، والتي غالبًا ما تكون مؤلمةً ونجد صعوبةً في إخراجها وإظهارها للآخرين، وبالتالي نلجأ للغضب كوسيلةٍ بديلة
كما قد يخلق الغضب لدى الفردِ إحساسًا بالسُلطة والتحكّم والتفوّق على الآخرين، وهذا كلّه لا يمكن عكسه حينما يعبّر الفرد عن حزنه مثلًا، الشعور الذي يأتي جنبًا إلى جنب مع الانكسار والضعف والتألم. فعندما تكون غاضبًا تتواجد لديك أسبابك الحقيقية التي قد تجعلها علّاقةً ومبرّرًا لمشاعر غضبك وردات فعلك، وبالتالي يصبح أسهل لعقلك التعامل مع الموقف مقارنةً فيما لو لم تحوّل مشاعرك إلى حزنٍ وألم.
إضافةً إلى أنّ هناك سببًا أكثر وضوحًا لتداخل فهمنا للشعوريْن وتداخل تعبيرنا عنهما، هي التربية التي نشأنا عليها في طفولتنا وزرعت في عقولنا طرقًا خاطئة للتعامل مع مشاعرنا وعواطفنا وردود أفعالنا. فلطالما سمعنا أوامر تنهانا عن الغضب بوصفه شعورًا غير لطيف ينتهك صورةَ النفس ويشوّهها أمام الآخرين، أو نكون قد سمعنا أنّ ردود أفعالنا الغاضبة تلك تبدو تافهة ولا تليق بنا.
أو أننا بادرنا بإظهار مشاعر حزننا فوجدنا السخرية أو التجاهل وعدم الاهتمام حيالَها، فبدأنا نبحث عن طريقةٍ أخرى نعبّر فيها عن مشاعرنا غالبًا ما تكون عنيفةً أكثر تعبّر عن سخطنا ورفضنا للتجاهل الذي وجدناه وتعاملنا به، فرأينا أنّ التعبير المنكسر عن الحزن لا يجدي نفعًا مع منْ حولنا، وبالتالي فالغضب والسلوكيات المرتبطة به ستكون أنسب وأجدى.
بالنهاية، تظلّ كلّ تلك الأسباب مجرّد افتراضات يمكن أن تصحّ في بعض الحالات وتخطئ في غيرها، ما يهمّ في نهاية الأمر هو المحاولات الجادّة والحقيقية التي يجب علينا بذلها لفهم مشاعرنا وعواطفنا دون الانجرار للسلوكيات والتصرفات المرتبطة بها والتي يمليها علينا لا وعينا أو التي قد نأتي بها بعشوائيةٍ وعلى استعجالٍ تام.