منذ استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/ نيسان الماضي، وما تلاها من هجمات جوية إسرائيلية واغتيالات نفذتها الطائرات المسيرة في محيط العاصمة دمشق وتحديداً على طريق بيروت، بدأت طهران باتخاذ إجراءات احترازية لدواع أمنية في المناطق التي يكثر تمركزها فيها وخاصة في جنوب دمشق وصولًا إلى ريف حمص.
هذه الإجراءات التي شملت تغيير أماكن إقامة قادة الميليشيات إضافة إلى النشاط العسكري الذي لا يزال، رغم توسعه ونقل عتاد قتالية تضمن طائرات مسيرة وقاذفات صواريخ غير موجهة وأخرى مضادة للدروع، سرياً وبأسلوب حرب العصابات، إذ تنفرد كل مجموعة مع سلاحها في منطقة جغرافية ضيقة تقوم بشكل شبه يومي بتغيير مواقعها ضمن ذات المنطقة.
ورغم اتخاذ كل تلك التدابير، فإنّ الطائرات المسيرة الإسرائيلية التي تحلق على مدار الساعة في أجواء المنطقة السورية الجنوبية وأجواء العاصمة دمشق وعلى طول الشريط الحدودي مع لبنان، تمكنت من اغتيال عدة شخصيات قيادية، لعل أبرزهم براء القاطرجي المقرب من النظام السوري.
التحصين الديمغرافي
استغل الإيرانيون التركيبة السكانية في بلدة السيدة زينب ذات الأغلبية الشيعية لتكون حاضنة آمنة ومربعًا أمنيًا يحمي تجمعهم في سوريا، وخلال السنوات الماضية وسّع الحرس الثوري وقادة الميليشيات المرتبطة به تواجدهم في المنطقة سواء كمقار أمنية أم عسكرية أم مبانٍ للسكن الشخصي أم مستودعات عسكرية، لتصل إلى مزارع عقربا والبحدلية شرقًا وببيلا شمالًا وحجيرة غربًا.
مصادر خاصة لـ”نون بوست” أكدت أن ضباطًا رفيعي المستوى في الحرس الثوري نقلوا مواقع سكنهم من منطقة السيدة زينب إلى مناطق أخرى منها بلدة قطنا التي شهدت زيارات متكررة مطلع العام الجاري إلى أبنية متطرفة أعيد ترميمها وتأهيلها وبناء أسوار حولها تحت إشراف عناصر من ميليشيا حزب الله اللبناني.
وأضافت المصادر أنّ مبانٍ مماثلة يجري في الوقت الحالي إعادة تأهيلها في بلدة جديدة عرطوز، إضافة إلى مزارع وفيلات مهجورة على أطراف البلدة تمت زيارتها مؤخرًا أيضًا من قبل عناصر يتبعون لميليشيا الحزب.
وقال صاحب أحد المكاتب العقارية في ضاحية قدسيا لـ”نون بوست” إنّ الأشهر الأربع الأخيرة شهدت بيع وتأجير ما يزيد على 25 شقة سكنية في المنطقة بعقود سنوية لأشخاص يحملون الجنسية الإيرانية.
وأضاف عاملون في سوق العقارات أن كل السكان الجدد اشترطوا أنّ تكون المنازل ضمن أبنية طابقية وقريبة من الأسواق والشوارع الرئيسية، مبدين رغبتهم بأن تكون غير مفروشة، كونهم سينقلون أثاث منازلهم معهم من مناطق ريف دمشق الجنوبي.
وحسب مصادر لـ”نون بوست” فإن شبكة واسعة من السماسرة السوريين يعملون لصالح الميليشيات الإيرانية في دمشق بقطاع العقارات، لتأمين شقق سكنية للشخصيات الإيرانية في ظل امتناع كثير من السكان عن التعامل معهم رغم العروض المالية المغرية التي يقدمها الإيرانيون، خوفًا من خسارة منازلهم جراء الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لمواقع تمركزهم.
ويتلاعب السماسرة بعقود الإيجار من خلال إضافة بند “مضياف”، لتسجيل العقد باسم شخص سوري الجنسية يدعي أنه يعمل في مجال التجارة ويستقبل ضيوف أجانب بين الحين والآخر بحكم أعماله التجارية.
وتركز عمل تلك الشبكات في منطقة المزة بالعاصمة دمشق، لوقوعها بالقرب من القنصلية الإيرانية ومركز المدينة، إضافة إلى قربها من مناطق انتشار الطرق الرئيسية المؤدية إلى ريف دمشق الجنوبي الذي ينشط به الحرس الثوري.
كما كشفت المصادر أن معظم قادة الميليشيات، لتجنب لفت الأنظار، تخلوا عن مرافقيهم الشخصيين باستثناء السائق الذي يُختار غالبًا من أبناء الطائفة الشيعية في سوريا، خاصة من بلدتي الفوعة وكفريا في ريف إدلب. يعود ذلك إلى ضرورة إتقان اللغة العربية، نظرًا لعدم إجادة الكثير من الشخصيات الإيرانية لهذه اللغة، وأيضًا بسبب معرفة السائق أو المرافق بشوارع المدن السورية.
تحركات عسكرية
لم تقتصر الإجراءات الاحترازية على تغيير مواقع السكن والعمل فقط، وإنما طالت أيضًا مواقع عسكرية خاصة بالحرس الثوري الإيراني والميليشيات المرتبطة به، إذ نقلت ميليشيا لواء الإمام الحسين مستودعات خاصة بالطائرات المسيرة من مزارع بالقرب من الجسرين الرابع والخامس على طريق مطار دمشق الدولي، وأخلت اثنين من مقراتها أحدهما في محيط بلدة بيت جن بريف دمشق، والآخر بالقرب من بلدة ماعص بريف القنيطرة، حسبما ذكر مصدر خاص لـ”نون بوست”.
وحسب المصدر فإن الميليشيا نقلت وحداتها المسؤولة عن تشغيل الطائرات المسيرة إلى داخل الأراضي اللبنانية، فيما تم إخلاء المقرات العسكرية ونقلها إلى ثكنات عسكرية مهجورة تابعة لجيش النظام السوري بالقرب من مطار الضمير العسكري.
وأبقت ميليشيا الإمام الحسين وميليشيا حزب الله اللبناني على أعداد قليلة من مقاتليها على شكل مجموعات متفرقة مسلّحة بأنظمة صواريخ قصيرة المدى وقواعد إطلاق الصواريخ الموجهة في القرى والبلدات المحاذية للخط الأزرق، رغم مطالبات قوات حفظ السلام الأممية “يونفيل” المتكررة للنظام السوري بضرورة إجلاء أي قوات غير شرعية من المنطقة.
وأخلت الوحدة 840 التابعة لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني كل مواقعها في العاصمة دمشق وريفها الجنوبي وصولًا إلى القنيطرة باتجاه ثكنات عسكرية في موقع عين الصاحب بالقرب من بلدة الدريج في منطقة القلمون الغربي، وفقًا لما ذكره مصدر مقرب من الميليشيات الإيرانية.
وكشف موقع صوت العاصمة المحلي في فبراير/شباط الفائت عن بدء مجموعات تابعة لميليشيا حزب الله بإعادة ترميم وتأهيل ثكنة ومستودعات عسكرية وتجهيز مستودعات تحت أرضية في الموقع ذاته.
وبحسب المصدر، فإنّ الوحدة 108 في ميليشيا حزب الله المسؤولة عن الإمداد العسكري اللوجستي وعمليات نقل وتهريب الأسلحة الإيرانية هي من أشرفت على تجهيز الموقع لصالح الوحدة الخاصة بفيلق القدس، مبينًا أن الأخيرة تنقسم إلى أربع مجموعات: الأولى مختصة بإدارة الطائرات المسيرة، والثانية مختصة بتأمين الغطاء اللازم لتمويه عمليات النقل العسكري، والثالثة والرابعة مسؤولتان عن تنظيم نشاط الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري في كل من محافظات دمشق وريف دمشق ودرعا والقنيطرة والسويداء.
أما الميليشيا اللبنانية فاضطرت، خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الفائتين، إلى سحب أكثر من نصف قواتها من وحدتي الجولان والرضوان من مناطق الجنوب السوري إلى جنوب لبنان بعد تصعيد إسرائيلي في لهجة التهديد، وحشد المزيد من قواتها على الجبهة الشمالية.
وكان معهد ألما الإسرائيلي للأبحاث والدراسات الأمنية كشف مطلع العام الجاري عن مواقع مشتركة تنتشر فيها ميليشيا حزب الله بشكل أساسي بالشراكة مع ميليشيات مدعومة من طهران على مقربة من هضبة الجولان.
وبموجب الخريطة، توجد الميليشيا في 20 موقعًا ضمن المنطقة الحدودية منزوعة السلاح والخاضعة لرقابة قوات حفظ السلام الدولية “يوندوف”، بالإضافة إلى 44 موقعًا في أرياف محافظات درعا والسويداء والقنيطرة.
وبدلًا من الوحدات التي أخلتها من المنطقة، نقلت الميليشيا مجموعات مختصة بتشغيل الأنظمة المدفعية والصواريخ والطائرات المسيرة من مطار الضبعة العسكري في ريف حمص الغربي، وتمركزت في كل من مقر قيادة الفرقة التاسعة في الصنمين ومقر اللواء 12 وقرية إيب في ريف محافظة درعا، وإلى بلدات خان أرنبة ومسحرة وبريقة في ريف القنيطرة، وفقًا لمصادر “نون بوست”.
وبيّنت المصادر أن التواجد الحالي لميليشيا حزب الله والميليشيات المتعاونة معها يقتصر على مجموعات صغيرة تتراوح بين 5 و10 أفراد في الموقع الواحد وغالبيتهم يكونون بلباس مدني ويستخدمون سيارات خاصة تحمل لوحات محافظات سورية مختلفة، لافتة إلى أن جميع المواقع التي أعادت تموضعها فيها وانتقلت إليها لم ترفع فيها أعلام أو رايات وأخفت أي علامات تشير إلى تواجد عسكري.
خلال الشهرين الماضيين، امتنع قادة الميليشيات عن استخدام طرق منطقة القلمون الغربي، وبالأخص طريق دمشق – بيروت، على الرغم من خضوعه لسيطرة الميليشيا اللبنانية والفرقة الرابعة من جيش النظام السوري، بسبب التحليق شبه اليومي للطائرات المسيرة الإسرائيلية في أجواء المنطقة، والتي نفذت عدة اغتيالات كان أبرزها استهداف قادة وأفراد من ميليشيا حزب الله وحركة الجهاد الإسلامي. من بين هؤلاء، ياسر قرنيش، قائد وحدة الدفاع الجوي في الميليشيا اللبنانية والمرافق الشخصي لحسن نصر الله، الذي تم اغتياله في 9 يونيو/حزيران الفائت، ومحمد براء القاطرجي، قائد مجموعات القاطرجي في ميليشيا كتائب البعث والمقرب من عائلة الأسد، الذي قُتل في 15 يوليو/تموز الجاري.
وأفادت المصادر بأن التنقلات بين سوريا ولبنان أصبحت مؤخرًا عبر الطرق والمنافذ الحدودية في ريف حمص، فيما يتم تمويه عمليات شحن الأسلحة والمعدات العسكرية الإيرانية بعد وصولها إلى سوريا داخل حافلات نقل ركاب أو شاحنات بضائع تجارية عبر منفذي جوسيه وتلكلخ بشكل متواتر.