مع ارتفاع مستوى التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية الأسبوع الماضي من قبل “إسرائيل”، وتهديد إيران ومحور المقاومة بالردّ على هذه العملية، شهدت الساحة العراقية تحولات أمنية متصاعدة في الأيام الماضية، فيما اُعتبر تحضيرًا استراتيجيًا من قبل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، لتشغيل الساحة العراقية ضمن الساحات الأخرى التي تسعى إيران إلى توظيفها في عملية الردّ.
بالتوازي مع عملية اغتيال هنية، نفّذت القوات الأمريكية هجومًا عسكريًا على مواقع الفصائل المسلحة في مدينة جرف الصخر غرب العراق، استهدفت من خلاله موقعًا لكتائب “حزب الله” العراقي لتصنيع وتجميع الطائرات المسيَّرة، قُتل على إثرها 4 خبراء في تصنيع الطائرات المسيرة، أحدهم يمني الجنسية هو العميد حسين عبدالله مستور الشعبل الملقب بـ”أبو جهاد”، والذي يعمل في ممثلية جماعة الحوثي في العراق، والتي يرأسها ممثل الحوثي أبو إدريس الشرفي.
وردًا على الهجوم الأمريكي قصف فصيل “ثوريون”، الذي تمّ تشكيله حديثًا، قاعدة عين الأسد الأمريكي، الاثنين الماضي، مخلفًا العديد من الجرحى في صفوف القوات الأمريكية، ما يمثل تحولًا خطيرًا في استراتيجية المواجهة بين الفصائل المسلحة والقوات الأمريكية في العراق.
ورغم أن البيان الذي أصدرته الفصائل المسلحة، نفى أن يكون الهجوم على القاعدة الأمريكية مرتبطًا بـ “الانتقام المدروس” الذي تخطط له إيران وباقي أطراف محور المقاومة، إلّا أنه أكد بأن استهداف القاعدة يأتي في سياق الردّّ على الهجوم الأمريكي على مدينة جرف الصخر، إضافة إلى التعنُّت الأمريكي لعدم الانسحاب من العراق، لكن الأهم هو التأكيد الواضح من قبل الفصائل المسلحة على كسر الهدنة مع القوات الأمريكية في العراق.
فرص وتحديات
ممّا لا شكّ فيه أن الساحة العراقية يمكن اعتبارها من أهم الساحات المفترضة للمواجهة بين إيران و”إسرائيل”، فيما لو قرر الطرفان الاتجاه نحو حرب إقليمية، وذلك لما توفره الساحة العراقية من قيمة استراتيجية عليا لإيران، نظرًا إلى القرب الجغرافي وانتشار الفصائل المسلحة، والأهم ضعف سيطرة الحكومة العراقية على الحدود مع سوريا، ما قد يعطي لإيران فرصة الحصول على مقتربات استراتيجية في نشر العديد من منظومات الصواريخ الباليستية، واستخدام الطائرات المسيَّرة، فضلًا عن تسخير الحدود العراقية في عمليات الدعم اللوجستي لحلفائها في الساحة السورية.
تمثل عملية تمركُز العديد من الفصائل المسلحة وخبراء الحرس الثوري و”حزب الله” اللبناني في مدن غرب العراق، وتحديدًا في جرف الصخر والقائم، فرصة لإيران لتوظيف الساحة العراقية لتصعيد وتكثيف عمليات الردّ على “إسرائيل”، مما قد يقلل من الحاجة لشن هجمات صاروخية أو عبر الطائرات المسيَّرة من داخل إيران.
ويتمثل نجاحها في بناء العديد من القواعد العسكرية، التي تستخدمها في عمليات تجميع الطائرات المسيَّرة وتركيب الصواريخ الباليستية، وتحديدًا قاعدة الإمام علي على الحدود العراقية السورية، ما يوفّر عنصر الوقت والمفاجأة في عملية الدفع بأعداد كبيرة من الصواريخ والطائرات القادرة على الوصول إلى “إسرائيل” بوقت أسرع وكفاءة أعلى.
إن التحدي الأبرز الذي يقف في طريق إيران في إمكانية توظيف الساحة العراقية، يكمن في حالة الانكشاف الأمني الذي تعاني منه هذه الساحة، بسبب ضعف منظومات القيادة والسيطرة، وعدم امتلاك العراق لمنظومات الدفاع الجوي أو الإنذار المبكّر، وهو ما قد يمنح القوات الأمريكية، وحتى “إسرائيل”، فرصة إجهاض أي هجوم كبير من العراق.
تشير عملية تمركز القوات الأمريكية قبل يومَين في قاعدة “كي 1” في كركوك، ووصول قائد القوات المركزية الأمريكية مايكل كوريلا، فضلًا عن التوجيهات التي صدرت من وزارة الدفاع الأمريكية في ضرورة أن تتخذ القوات الأمريكية كافة التدابير اللازمة لردع أي عملية تصعيد إقليمي أو احتواء أي هجوم قد تتعرض له “إسرائيل”؛ إلى جدّية حقيقية لاستخدام الردع الفعّال في المنطقة من قبل الولايات المتحدة.
ورغم أهميتها، إلّا إنه يمكن اعتبار الساحة العراقية بكونها ساحة غير رئيسية للمواجهة المفترضة، على اعتبار أن كلفة نقل الصراع إلى الداخل العراقي ستكون مكلفة لإيران و”إسرائيل” في آن واحد، فمن جهة لا تريد إيران نقل الحرب إلى حدودها المباشرة، لما لذلك من تهديد مباشر لأمنها القومي بالنظر إلى الداخل الإيراني الهشّ بالوقت الحاضر.
كما أن “إسرائيل” قد لا تستفيد من فكرة الصراع على الساحة العراقية، بسبب البُعد الجغرافي والكلفة المالية العالية، ولذلك إن الساحة العراقية يمكن وصفها بأنها ساحة “تموينية”، قد تستخدمها إيران لعمليات الدعم اللوجستي أولًا، وتوجيه رسائل التصعيد للإدارة الأمريكية ثانيًا.
هدف آخر
في الوقت الذي تبحث فيه إيران عمّا يمكن تسميته استراتيجيًا بـ”الردّ المركب”، الذي يدفع كل أطراف محور المقاومة إلى المشاركة في عملية الردّ على “إسرائيل”، لتحقيق عدة أهداف أبرزها محاولة طهران توزيع كلفة الرد على الجميع، وكذلك إجبار “إسرائيل” على عدم التصعيد حيال جبهة دون غيرها، إلّا أنها من جهة أخرى تدرك أهمية توزيع بنك الأهداف الإيرانية على عدة أطراف، بحيث توصل أكثر من رسالة في آن واحد.
وبعيدًا عن طريقة توظيف “حزب الله” اللبناني أو الحوثي في عملية الرد على “إسرائيل”، فإنه يمكن اعتبار أن المهمة الأساسية للفصائل المسلحة الموالية لإيران ستكون القوات الأمريكية في العراق أو على الحدود مع سوريا، خاصة إذا ما قررت الولايات المتحدة الدفاع عن “إسرائيل”، أو شنّ هجمات مضادة للهجوم الإيراني، حيث أن قدرة الفصائل بالضغط على قوى الإطار التنسيقي بتشكيل نوع من الضغط السياسي والإعلامي بعد كل عملية هجوم تشنّها القوات الأمريكية، توفر فرصة مهمة لإيران في تحريك الفصائل المسلحة نحو توظيف ورقة الوجود الأمريكي لإجبار واشنطن على عدم المشاركة الواسعة.
فالدور السياسي الساند الذي يمكن أن تقوم به الفصائل المسلحة الموالية لإيران، إلى جانب الدور العسكري، قد يعطي لإيران فرصة تعظيم الضغوط السياسية للردّ على “إسرائيل”، بالتوازي مع الرد العسكري، ما يجعل الساحة العراقية أهم الساحات التي ستوظفها إيران في عملية الردّ المقبل.
إن ضعف سيطرة حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وكذلك الهشاشة الأمنية التي يعاني منها العراق، سيجعلان الساحة العراقية ساحة مهمة في عملية الهجوم على “إسرائيل”، فما حصل يوم الاثنين الماضي أثناء الهجوم على قاعدة عين الأسد، مثّل خروجًا واضحًا للفصائل المسلحة على الالتزامات التي تعهّد بها السوداني لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بفرض مزيد من الأمن والاستقرار في العراق، وتحديدًا في موضوع حماية القوات الأمريكية.
بدوره يجعل ذلك العراق أمام تحديات أمنية كبيرة في المرحلة المقبلة، خصوصًا إذا ما قررت القوات الأمريكية إعادة إنتاج سيناريو اغتيال قائد قوات الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، عبر اغتيال شخصية فصائلية كبيرة في العراق، من أجل ردع السلوك المتصاعد للفصائل المسلحة في العراق، وتحديدًا في موضوع وضع حدّ للهجمات المميتة التي تتعرض لها القوات الأمريكية في المواقع والمقرات التي تتواجد فيها.
يشير تحرك الساحة العراقية، عبر الاستهداف المتكرر للقوات الأمريكية في الوقت الذي ما زالت فيه إيران تلتزم بالصبر الاستراتيجي، إلى أنه لا يوجد ارتباط مباشر بين الأهداف العسكرية لإيران والفصائل المسلحة الموالية لها في العراق، فالأولوية بالنسبة إلى الفصائل المسلحة هي القوات الأمريكية ومن ثم الانخراط في الهجوم الإيراني على “إسرائيل”، فيما لو قررت إيران ذلك.
في مقابل ذلك تنحصر اهتمامات إيران في شنّ هجوم على “إسرائيل” لتحقيق عدة أهداف، منها تهذيب السلوك الأمريكي في المنطقة والعودة إلى طاولة الحوار، سواء على مستوى المفاوضات النووية أو الحرب في غزة.