أكاد لا أصدق بأن الشهر الفضيل قد حل، وأنه عاد إلينا مجددًا بنفحاته الروحانية، حاملًا في أجوائه كتلة من السعادة والطمأنينة، زف المذيع كالعادة وككل سنة خبر حلول رمضان المبارك، تسابقنا للخارج بصرخاتنا البريئة معلنين خبر حلول شهر الخير، واسترسلنا في ترديد الألحان الشعبية التي يتقنها الجميع، صغارًا وكبارًا، كترحيب منا بقدوم الضيف المنتظر.
أومن كل الإيمان بمبدأ الحرية والاختلاف، وأن لكل فرد منا حق الفكر الحر وحرية العيش، إلا أنني أَجِد أن بعض المفاهيم الخاطئة وجب تصحيحها
تكاد رائحة الحريرة والخبز المطهو على نار هادئة ورائحة البغرير والشباكية وما إلى ذلك من أطباق مغربية تملأ الحي، وأجواء التراويح والتسابق إلى المساجد وما إلى ذلك من ذكريات خلدتها ذاكرتي، لكن الزمن عجز عن تكرارها مجددًا.
فعلى مدار السنة، يخوض الإنسان معارك طويلة، فتتقاذفه الأمواج وترسو به شواطئ الحيرة حيث تنتظره كثبان من التحديات ليتسلقها ومسافات طويلة ليقطعها، باحثًا فيها عن تحقيق ملذاته وإثباتًا منه لطاقته وسعيًا منه لتحقيق مطالبه ومآربه، ليصطدم بعد مسيرة طويلة بحقيقة أنه كائن عاجز يحتاج إلى سترة نجاة لتنقذه، وقارب نجدة لينتشله، وكأن الروح تستنجد خالقها ليخلصها من أعباء ما صارت تحمله، فيأتي رمضان.
حل شهر الخير مجددًا، إلا أن الفرحة التي اعتاد أن يرسمها والقيم التي اعتاد غرسها اضمحلت وتمت هجرتها، فالشهر الفضيل أصبح للعديد منا، عبارة عن أكلات شهية تحضر في المطبخ لتقدم على مائدة الإفطار ويتسابق لها الجميع لالتقاطها ونشرها عبر الإنستغرام سريعًا قبل الشروع في الأكل، وهو فرصة لاستعراض الملابس التقليدية التي تعج بها خزائننا تعلق إحداهن عبر حسابها، وتؤكد أخرى أن ليالي رمضان وسهارته الغنائية هي الأفضل، ففرصة السهر حتى وقت متأخر متاحة لك بكل أريحية.
أومن كل الإيمان بمبدأ الحرية والاختلاف، وأن لكل فرد منا حق الفكر الحر وحرية العيش، إلا أنني أَجِد أن بعض المفاهيم الخاطئة وجب تصحيحها، فرمضان فرصة مهداة لنا على طبقٍ من ذهب، فرصة لإمعان النظر والتأمل في أفعالنا وما اقترفته أنفسنا، النفس التي استطاعت أن تتخلى عن كل الملاهي وتمتثل لأمر الخالق، وهو فرصة لتمتلئ صدورنا بالأدعية والأماني التي طال انتظارها، وتفيض أعيننا طمعًا في رحمة الرحيم.
لا ضير أبدًا في سهارتنا الرمضانية، ولكن لا تبخل على نفسك من اتصال ليلي امتثال أمام الواحد الأحد ولو لنصف ساعة
فلا ضير في أن تقضي جزءًا من الْيَوْمَ وأنت تحضر أطباق تشتهيها النفس لتملأ بطنك ساعة الإفطار، ولكن لا تبخل أيضًا عن غذاء الروح والفؤاد بنفحات من الإيمان وفيض من التأمل والخشوع، ولا ضير أبدًا في ارتدائك لملابس مطرزة وملونة من التراث والتقاليد ولكن لا تنسى أن رمضان فرصة لارتداء ثوب الهداية والاستغفار وغسل القلوب وتعطيرها، ولا ضير أبدًا في سهراتنا الرمضانية، ولكن لا تبخل على نفسك من اتصال ليلي امتثال أمام الواحد الأحد ولو لنصف ساعة وأنت تدعوه مخلصًا وطامعًا في رحمته.