بعد أيام من المشاورات المكوكية لمجلس الشورى العام في حركة حماس، اختار المجلس يحيى السنوار بالإجماع رئيسًا للحركة وقائدًا لمكتبها السياسي خلفًا للشهيد إسماعيل هنية، الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي خلال تواجده في العاصمة الإيرانية طهران للمشاركة في احتفالات تنصيب الرئيس الإيراني الجديد.
شكّل إعلان اختيار السنوار رئيسًا لحركة حماس صدمة كبيرة في العديد من الأوساط لم تقتصر على الاحتلال وحلفائه، بل أيضًا صدمت العديد من اللاعبين في المنطقة، منهم الحليف والخصم لحماس والمقاومة الفلسطينية، وسط تقديرات متعددة بأن عملية اختيار خليفة إسماعيل هنية ستتّسم باللجوء إلى خيارات باهتة أو مسارات لتسيير الأعمال، حتى تجاوز الحركة عنق الزجاجة أو اتضاح ملامح نهاية الحرب العدوانية الكبرى التي يشكّل القضاء على حماس هدفها الرئيسي.
يحيى السنوار.. المطلوب الأول
تتهم “إسرائيل” يحيى السنوار، الذي كان يشغل موقع رئيس حركة حماس في قطاع غزة وقائدها، بالمسؤولية المباشرة عن عملية السابع من أكتوبر، التي تعدّ الضربة الأكبر التي توجّهها المقاومة الفلسطينية -بل العربية- إلى منظومة الأمن الإسرائيلية وإلى أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، إذ نجح مقاومو القطاع في القضاء على فرقة كاملة من الجيش الإسرائيلي (فرقة غزة) في ساعات معدودة، إضافةً إلى التمكُّن من أسر عدد كبير من المستوطنين والجنود بينهم ضباط في الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام “الشاباك”.
سبق وأُدرِج السنوار على لائحة الإرهاب الأمريكية، وفرض عدد من العواصم الأوروبية عقوبات، وقدمته “إسرائيل” ليحتل موقع المطلوب رقم واحد للتصفية والاغتيال، وهي المهمة التي فشلت فيها لسنوات، وتفشل فيها باستمرار خلال شهور حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، والذي قلبته خلالها حجرًا حجرًا بحثًا عن أثر للقائد العنيد.
ضرب الإجماع الحمساوي على اختيار يحيى السنوار رئيسًا للحركة رهانات عديدة لإغراق حركة حماس في أزمة قيادة أو دفعها نحو خلاف تنظيمي، فيما حسم بلا جدل خيارات الحركة بالإجماع ليس فقط في اختيار رئيسها، بل بالتشبُّث بمسارها الذي يتبنى خيار المواجهة والمقاومة بلا مواربة، مثبتة فشل السياسات الإجرامية الكبرى والقوة الغاشمة في تليين أو تدجين قيادتها أو تغيير توجهاتها وأولوياتها.
سياقات انتخاب خليفة هنية
كانت حماس أمام مفترق طرق هام في إطار التعامل مع تجليات اغتيال إسماعيل هنية، فإما أن تذهب إلى خيارات تسيير أعمال مؤقتة وإما أن تمضي في معالجة تنظيمية كاملة للفراغ القيادي الناشئ عن عملية الاغتيال وإتمام الاستحقاق الانتخابي، مع الأخذ في الحسبان أن الحركة قد كانت مُقدمة على موسم انتخابي داخلي مع حلول العام القادم.
بعد مشاورات متعددة المستويات شملت دراسة لارتدادات كل خيار، ذهبت حماس في اتجاه خيار إنجاز المعالجة الشاملة والالتزام باللوائح الداخلية الناظمة بألّا يُترك موقع رئاسة الحركة شاغرًا، خصوصًا أن انتخاب الرئيس يأتي من هيئة مصغّرة لن يشكّل جمع رأيها وتصويتها معضلة كبيرة.
تعاملت الحركة مع عدد من الثغرات التي نشأت على طريق إتمام العملية، أهمها نظم آليات مشاركة أعضاء الشورى الموجودين في قطاع غزة، والصيغ اللازمة للتعامل مع الشواغر الناتجة عن استشهاد جزء من عضوية المجلس، وكلها تفاصيل قد حال الإجماع في الاختيار دون الحاجة إلى إيجاد معالجات كبرى لها، إذ إن عملية الاختيار لم تخضع إلى منافسة تتطلب حصرًا تفصيليًّا لكل صوت ممكن قد يغير النتيجة.
وفقًا للنظام الانتخابي للحركة، فإن أيًّا من المرشحين لا يتقدم للمنافسة بناءً على قراره وإعلانه، بل إن الصيغة السائدة في الحركة ما اعتاد عليه السلف وفق قاعدة أن “من طلب الولاية لا يُولى”، وبالتالي يترفع المرشحين عن تقديم أنفسهم ويُترك الأمر لتقدير أعضاء مجلس الشورى الأجدر بالترشح، وفي الحالة الحالية الخيار الوحيد الذي قدّمه مجلس الشورى لشغل موقع رئيس الحركة خلفًا للشهيد إسماعيل هنية، كان القائد يحيى السنوار الذي حصد إجماع المجلس عليه رئيسًا جديدًا للحركة.
دلالات اختيار يحيى السنوار بالإجماع
الصمود والمواجهة: تعكس حركة حماس بانتخابها يحيى السنوار بالإجماع رئيسًا للحركة، أن الحركة قد اختارت بالإجماع أنها ماضية في مشروع مواجهة العدوان الإسرائيلي الهادف إلى استئصال المقاومة والقضاء عليها، وأن خيارها ليس تعبيرًا عن تيار محدد في الحركة، بل إنه خيار يُجمِع عليه كل أطياف الحركة وأجنحتها ومؤسساتها في مواجهة حرب الإبادة وآلة القتل، وإن اختيار الشخصية التي تقود القتال اليوم لتقود الحركة كلها، يعني أن الحركة كلها متجنّدة في كل ساحاتها من أجل مواجهة العدوان وإفشال أهدافه.
“طوفان الأقصى” مسار مُجمَع عليه: يشكّل اختيار السنوار تأكيدًا لأن خيار الذهاب إلى “طوفان الأقصى” خيار لحركة حماس بالإجماع، وليس خيارًا لجناح الحركة في قطاع غزة، أو يحيى السنوار ومطبخه المصغّر كما حاول الاحتلال التصوير والإشاعة على مدار أشهر.
مركزية غزة: يعكس اختيار السنوار، قائد حماس في قطاع غزة والموجود على أرضها، أهمية القطاع ومركزيته في معادلة الصراع مع الاحتلال ومعادلات القيادة الفلسطينية، وانعدام جدوى سياسة الاحتلال لتحويل غزة إلى أرض محروقة وكومة من الخراب التي لا يمكن لها أن تقدِّم أية مساهمة سياسية لعقود قادمة، تختفي فيها غزة خلف ركام منازلها المدمرة وغبار المدافع، وتأكيد أن غزة ستبقى رأس حربة المشروع الوطني الفلسطيني ومحور حراكه السياسي والقيادي.
الصلابة التنظيمية: لم تختر حركة حماس العنوان الأسهل لقيادة الحركة، أي شخصية من الصف القيادي الموجود في الخارج، والخيارات كثيرة ضمن المؤهّلين لشغل هذا المنصب، بل ذهبت إلى اختيار الرجل الأقوى الذي كان سيمثّل الخيار في وضع السِّلم ويبقى الخيار في وضع الحرب، مع تأكيد أن مؤسسات الحركة قادرة أن تتغلب على الصعوبات الناتجة عن الحرب والاستهداف.
سلامة منظومات الاتصال القيادي وسلاستها: يؤكد اختيار السنوار لرئاسة الحركة حجم حضور الرجل في قرار الحركة السياسي وفي مشاوراتها وتداولاتها الداخلية، وهو ما يؤكد سلامة شبكات الاتصال المؤمن للحركة وأدوات الربط ما بين قيادة الحركة خارج قطاع غزة وقيادتها داخل القطاع، وسلاسة الاتصال والتشاور والمشاركة دون أن تنجح الضربات الإسرائيلية في إيقاع ضرر نوعي بهذه المنظومات التي حاول ضربها على مدار أشهر الحرب.
فشل رهانات التفكيك من الداخل: راهن الاحتلال على أن عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي ونائبه في وسط حرب كبرى، ستخلق المجال لبروز تيارات داخلية تتصارع على النفوذ والقيادة والموقف السياسي، ويمكن أن تؤدي إلى شقاق داخلي أو زعزعة للوحدة التنظيمية للحركة، فيما كانت سلاسة العملية الانتخابية وسرّيتها والإجماع على الاختيار ردًّا واضحًا على مدى فشل هذه الرهانات.
التحرر من أي ضغط مفترض للوسطاء: حرّر اختيار رئيس حركة حماس في قطاع غزة قيادة الحركة في أماكن تواجدها من التعرض للضغط القاهر من الوسطاء في ضوء الضغط الأمريكي عليها، الأمر الذي يجعل الوفد المفاوض مرتاحًا ويحظى بهامش من حرية الحركة، بمعزل عن محاولات التأثير أو الضغط من الوسطاء لانتزاع مواقف تحت وطأة الحرج، أو الحفاظ على إيجابية العلاقة مع الدول المستضيفة لقيادة حماس.
التكامل بين المستويين السياسي والعسكري في حركة حماس: يعدّ السنوار من أكثر قيادات الحركة قربًا من الجناح العسكري لها، بل يُعتقد أنه تولى مسؤولية الدائرة العسكرية المركزية للحركة قبل قيادته للحركة في قطاع غزة، ويعدّ مقربًا جدًّا من قائد أركان كتائب القسام محمد الضيف (الذي ادّعت “إسرائيل” نجاحها في اغتياله)، وبالتالي إن وصول السنوار إلى رأس هرم القيادة في حماس يعني الحفاظ على التكاملية ما بين الجناحَين السياسي والعسكري للحركة، وتفادي أية خلافات، خصوصًا في ظل حساسية ومحورية اللحظة الراهنة.
رسالة طمأنة لحلفاء الحركة: يعدّ السنوار من أكثر قيادات حماس تشجّعًا لتعزيز التعاون مع إيران و”حزب الله”، ومن أوائل الدافعين إلى إعادة ترتيب العلاقة معهم وجسر الهوة التي نشأت بعد الخلاف بخصوص الموقف من الأزمة السورية، وبالتالي إن وصوله إلى رئاسة المكتب السياسي يعني تعزيزًا لهذه العلاقة وتأكيدًا لأهميتها، لا سيما مع تصاعد الاشتباك المباشر ما بين “حزب الله” ودولة الاحتلال، وانتظار الردّ الإيراني الموعود على اغتيال إسماعيل هنية على أرضها، وحاجة “حماس” إلى استمرار الدعم الإيراني للحركة، والاستمرار في الاشتباك من “الجبهات الإسنادية” لقطاع غزة.
فشل خيار الضغط العسكري: يؤكد اختيار السنوار رئيسًا للحركة أن رهان رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على نجاعة الضغط العسكري في الوصول إلى تنازلات جوهرية من قيادة حماس لن يُجدي نفعًا.
فشل رهانات الانهيار: منذ اليوم الأول راهن الاحتلال على أن تعاظُم الضغط والضربات الكبرى لحماس وبنيتها التحتية ومفاصلها القيادية، سيوصل الحركة إلى لحظة الانهيار المنتظَرة، والتي ستتهاوى في لحظتها كأحجار الدومينو، ما يسهّل جني ثمار الحرب وحصد الانتصار المُنتظَر، إلا أن السلاسة والمتانة في اختيار السنوار تعكسان حجم التماسك الداخلي وسلامة البنية القيادية للحركة، وتكامل أدوراها ما بين الداخل والخارج.
تعزيز لمبادئ العمل الوطني المشترك: يعدّ السنوار من أكثر قيادات حماس انفتاحًا على القوى الوطنية والإسلامية، خصوصًا في قطاع غزة، وقد دشّن العديد من صيغ العمل الوطني المشترك التي سجّلت نجاحات في عدة محافل، ويعدّ اختياره استمرارًا في تعزيز مبادئ العمل الوطني المشترك وفتح أفق أوسع تجاه إمكانات تحقيق الوحدة الوطنية.
ملاحظات لا بدَّ من ذكرها
تعاملت حركة حماس مع ملف إعداد ترتيبات القيادة الجديدة بوصفها جزءًا من عملية الردّ على اغتيال إسماعيل هنية، ففي الوقت الذي كان يراهن الاحتلال على إمكانية النجاح في تحويل عمليتَي الاغتيال اللتين استهدفتا أولًا نائب رئيس الحركة صالح العاروري ثم رئيس الحركة إسماعيل هنية، بما سيخلق مأزقًا تنظيميًّا ويدخل الحركة في حالة من اللايقين الداخلي، أو يُبرز مدارس وتوجهات داخل الحركة قد ينجح الضغط في خلقها.
أحاطت الحركة عملية الاختيار والانتخاب والآليات التي اتبعتها للنقاش والاتصال والتواصل بين أجنحتها وأقاليمها بغطاء كبير من السرّية، وحتى ساعات قليلة قبل الإعلان لم تنجح أية وسيلة إعلام أو حتى جهاز استخباراتي وأمني من التيقن ممّا يجري داخل أروقة الحركة، التي تتعرض لاستهداف من كبرى أجهزة المخابرات في العالم والمتابَعة اللصيقة من أجهزة الأمن الصهيونية.
أثبتت حماس من جديد مدى التعقيد الذي يسود بنيتها، وانعدام قدرة أي من أجهزة المخابرات في العالم على قراءتها أو تقدير خطواتها القادمة، كما أثبتت فشل تقديرات الاحتلال حول ارتدادات اغتيال إسماعيل هنية على الواقع الداخلي في الحركة والتركيبة، كما الفشل في استشراف الخيار المستقبلي لرئاسة الحركة أو التنبُّؤ بسلوكها في التعامل مع الملف.
فتح الاختيار الباب مشرعًا أمام التساؤلات حول جدوى الضغط العسكري الكبير في تعطيل ديناميكيات العمل الداخلي في حركة حماس وسلامة مؤسساتها، وبقدر ما أعطت عملية الاختيار دلالة على عجز الضغط عن تعطيل هذا الضغط، فإنها تعطي أيضًا دلالة حول حجم فشل رهان نتنياهو على نجاعة خيار الضغط العسكري في إجبار حماس على تقديم تنازلات جوهرية في ملف المفاوضات، أو المراهنة على انهيار الحركة وتفكُّك بنيتها القيادية ومنظومات القيادة والسيطرة فيها.
رحلة في عقل يحيى السنوار.. ماذا تخبرنا مؤلفاته في سجون الاحتلال؟
وكخلاصة، ورغم أن شخصية يحيى السنوار قد أُحيطت على مدار سنوات بالعديد من الهالات، ما بين عدِّه القيادي الأكثر راديكالية في الحركة، أو الرجل البراغماتي على حدّ السيف الذي تضبطه المحدِّدات الوطنية، أو عدِّه من أكثر القيادات اندفاعًا وعندًا، فإن الثابت الذي ظهر جليًّا أن حركة حماس حركة مؤسسات فاعلة وحقيقية، وأن شخصية الفرد يكمن تأثيرها في البُعد الكاريزماتي والقدرة على تقديم مساهمات نوعية إلى المؤسسات القيادية، دون أن تسيطر عقلية القيادة الفردية أو النمط الأبوي في القيادة على مؤسسات اتخاذ القرار، وهذا ينطبق على الملفات الكبرى على نحو الخصوص، وفي المقدمة منها ملف التفاوض الذي سيبقى يسير في الغالب بالوتيرة ذاتها، ووفق الاستراتيجية التي كانت في عهد الشهيد إسماعيل هنية ذاتها.