على مدار العقود القليلة الماضية، شهدت بريطانيا موجات متعددة من الاحتجاجات وأعمال الشغب التي استهدفت الجاليات المسلمة، لكن الأحداث المروعة التي جرت مؤخرًا تعد الأعنف، وسط تساؤلات عدة حول الأسباب والدوافع التي أدت إلى تصاعدها بهذا الشكل المريب.
وتأججت الاضطرابات في بعض المدن البريطانية بعد نشر نشطاء من اليمين على وسائل التواصل الاجتماعي معلومات مضللة عقب حادث طعن جرى خلال حفل رقص، تسبب بمقتل ثلاث فتيات تتراوح أعمارهن بين 6 و9 سنوات في 29 يوليو/تموز بساوثبورت، وهي بلدة ساحلية شمال ليفربول (شمال غرب إنجلترا)، كما أصيب 8 أطفال آخرين واثنان من البالغين.
هذه الحادثة استغلها مؤثرو اليمين المتطرف ومنظرو المؤامرة، بهدف نشر شائعات ومعلومات زائفة، زاعمين أن المشتبه به مسلم وصل مؤخرًا إلى المملكة المتحدة لطلب اللجوء، ورغم كشف الشرطة عن هوية المشتبه به – أكسل روداكوبانا، 17 عامًا – وتأكيدها أنه بريطاني غير مسلم، إلا أن أعمال الشغب لم تتوقف.
تعد موجة العنف تلك هي الأسوأ في بريطانيا منذ سنوات، وأدت إلى اعتقال مئات الأشخاص (428 شخصًا، وجهت التهم لـ 120 منهم، حتى ساعة متأخرة من مساء الثلاثاء، بحسب الغارديان)، في حين تعهدت الحكومة بأن يشعر مثيرو الشغب “بالقوة الكاملة للقانون”، بعد إلقائهم الطوب والمقذوفات الأخرى على الشرطة، ونهب المتاجر ومهاجمة الفنادق المستخدمة لإيواء طالبي اللجوء.
وأعلنت الشرطة البريطانية، استعدادها لاضطرابات مخطط لها من قبل “مجموعات الكراهية المثيرة للانقسام”، وسط عزم اليمين المتطرف تدشين أعمال شغب في 30 تجمعًا يضم الأقلية المسلمة ولاجئين، وتهديدات ضد المتخصصين في قانون الهجرة، اليوم الأربعاء 7 أغسطس/آب، بحسب الغارديان.
موجة الشغب والاحتجاج ضد المسلمين: أبرز محطات
- 29 يوليو/تموز: قُتلت ثلاث فتيات تتراوح أعمارهن بين 6-9 سنوات في حادث طعن بمدينة ساوثبورت الساحلية، شمال غرب إنجلترا، ووجهت الاتهامات للبريطاني أكسل روداكوبانا.
- 30 يوليو/تموز: اعتقلت شرطة ميرسيسايد أربعة أشخاص بعد ليلة من أعمال الشغب في ساوثبورت أسفرت عن إصابة ما لا يقل عن 50 ضابطًا.
- 31 يوليو/تموز: أعمال شغب خارج فندق هوليداي الذي يُعتقد أنه يؤوي طالبي اللجوء في نيوتن هيث، شمال مانشستر، وقام مثيرو الشغب بإلقاء الزجاجات الحارقة والألعاب النارية على الشرطة ومهاجمة سائق حافلة.
- 1 أغسطس/آب: اشتبك أكثر من 100 شخص مع الشرطة في هارتلبول، وكان بعضهم يهتف بعبارات معادية للإسلام، مع أعمال شغب عنيفة في لندن خارج داونينج ستريت، حيث هاجم مثيرو الشغب الشرطة وألقوا القنابل الصوتية. واحتشد العشرات خارج فندق يستضيف طالبي اللجوء في ألدرشوت.
- 2 أغسطس/آب: أعمال شغب عنيفة طالت وسط سندرلاند، تم إشعال النار في سيارة ومقر هيئة استشارات المواطنين، وإصابة العديد من ضباط الشرطة.
- 3 أغسطس/آب: انتشرت مظاهرات اليمين المتطرف في المزيد من المدن بجميع أنحاء إنجلترا وفي بلفاست، أيرلندا الشمالية. وتم اعتقال أكثر من 100 شخص.
- 4 أغسطس/آب: تحولت مظاهرة في مدينة روثرهام إلى أعمال عنف، حيث اقتحم متظاهرون ملثمون فندقًا معتقدين أنه يُستخدم لإيواء طالبي اللجوء.
- 5 أغسطس/آب: إصابة 56 شرطيًا في أعمال عنف ارتكبها متطرفون يمينيون في أنحاء البلاد وأيرلندا الشمالية.
- 6 أغسطس/آب: الحكومة البريطانية وضعت 6 آلاف عنصر متخصص من قوات الشرطة في حالة استعداد، للتعامل مع أعمال الشغب التي يقودها اليمين المتطرف منذ أسبوع.
- 7 أغسطس/آب: ووسط استعدادات ليوم جديد من الاضطرابات في 30 منطقة مخطط لها من قبل اليمين المتطرف، ناشد صادق خان سكان لندن التحقق من أصدقائهم وجيرانهم، المسلمون والأقليات العرقية التي تشعر بالخوف بعد أعمال الشغب الأخيرة. وقال إنه على علم بمواقع محددة قد يتم استهدافها في المدينة اليوم الأربعاء، وحذر “أي شخص يفكر في نشر الكراهية والخوف في مدينتنا: إذا خالفت القانون، فسيتم اتخاذ إجراء ضدك”.
شرارة الاحتجاج
اندلعت أعمال الشغب الأولى في مدينة ساوثبورت يوم الثلاثاء الماضي 30 يوليو/تموز، بعد أن أقام السكان وقفة احتجاجية سلمية، للتضامن مع ضحايا الهجوم والمطالبة بالعدالة.
وسار المئات من الناشطين، وكثير منهم قدِموا من خارج المدينة، إلى مسجد قريب، بعد أن أعلن المتطرفون عن خطط للاحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد ذلك، أصيب أكثر من 50 ضابطًا، بعضهم بجروح خطيرة، على يد المتظاهرين الذين ألقوا الحجارة والزجاجات، وأحرقوا شاحنة للشرطة. وتوسعت رقعة العنف، على وقع الشائعات لتشمل أكثر من 12 مدينة وبلدة بما في ذلك لندن، وهارتلبول، ومانشستر، وميدلسبره، وهال، وليفربول، وبريستول، وبلفاست، ونوتنغهام، وليدز، وألدرشوت، وداونينج ستريت، موطن رئيس الوزراء.
وفي العاصمة لندن، اعتقل أكثر من 100 شخص، نهاية الأسبوع، حيث تصاعدت الاحتجاجات وأعمال الشغب، وسجّلت روثرهام أسوأ أعمال العنف، وفي جنوب يوركشاير، وتعرض فندق يؤوي طالبي اللجوء للهجوم، وكذلك هجمات مماثلة في سندرلاند بالشمال الشرقي.
اليمين المتطرف.. تأجيج مخطط
هذه الاحتجاجات جاءت بعد نحو أسبوع عقد ستيفن ياكسلي لينون، مؤسس رابطة الدفاع الإنجليزية المناهضة للإسلام والمهاجرين، والمعروف باسم “تومي روبنسون”، أكبر تجمع لليمين المتطرف في لندن منذ سنوات.
ويقول خبراء في التطرف إن ذلك عزز من تعاطف اليمين المتطرف، ولعب روبنسون، الذي غادر البلاد قبل أيام، دورًا مهمًا في تأجيج الغضب، إلى جانب بعض حلفائه، من خلال التعليقات القومية الإنجليزية عبر الإنترنت التي تستهدف المهاجرين والإسلام والحكومة والشرطة.
ويبدو أن مهمّة تهدئة الاضطرابات تعقّدت، بسبب تطور نشاط اليمين المتطرف وتحريكه مجموعات عنصرية بيضاء منظمة بشكل رسمي وتقسيمهم إلى مجموعات صغيرة لتعزيز قدرتهم على سرعة التحرك وإثارة النعرات وتنظيم الاحتجاجات من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تيك توك وإكس وفيسبوك، بالإضافة إلى القنوات المخصصة على تيليغرام.
دوافع الاحتجاجات
مبررات وأسباب هذه الاحتجاجات تتنوع، وتتداخل فيها مجموعة من العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية، فضلًا عن المخاوف الأمنية المرتبطة بالإرهاب، وطبيعة التغطية الإعلامية السلبية والسياسات الحكومية المثيرة للجدل.
ويشعر بعض البريطانيين بأن القيم الثقافية والدينية للمسلمين تتعارض مع القيم التقليدية للمجتمع البريطاني، خاصة فيما يتعلق بنوع الألبسة، والعادات الغذائية، والممارسات الدينية في الأماكن العامة.
ولا تُستبعد الهجمات الإرهابية التي طالت بريطانيا خلال السنوات الأخيرة، ونسبت معظمها إلى متطرفين إسلاميين، عن كونها أحد الأسباب، إذ أسهمت في زيادة الخوف والعداء تجاه المسلمين، حيث يجري تصويرهم كتهديد للأمن القومي.
كما تلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام، وفي كثير من الأحيان، تتبنى التغطيات الإعلامية نهجًا سلبيًا تجاه المسلمين، ما يعزز الصورة النمطية الخاطئة عنهم.
إلى ذلك، عززت بعض السياسات الحكومية مشاعر العداء تجاه المسلمين، خاصة تلك المتعلقة بالهجرة ومكافحة الإرهاب، والقرارات الحكومية التي تستهدف بشكل خاص المسلمين، مثل زيادة الرقابة على المساجد والجمعيات الإسلامية.
استغلال ملف الهجرة
المحرضون أيضًا استخدموا ملف الهجرة والتوترات المستمرة منذ فترة طويلة بشأنه، لتأجيج هذه الاحتجاجات، لا سيما بعد ازدياد عدد المهاجرين الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانوني مؤخرًا عن طريق عبور القناة الإنجليزية في قوارب مطاطية.
وكانت هذه المخاوف قضية محورية في انتخابات يوليو/تموز الماضي، حيث وعد رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك بوقف القوارب من خلال ترحيل “المهاجرين غير الشرعيين” إلى رواندا، وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الحالي كير ستارمر ألغى الخطة بعد فوزه الساحق، فقد وعد بالحد من الهجرة من خلال العمل مع الدول الأوروبية الأخرى وتسريع إبعاد طالبي اللجوء.
ومن بين الأسباب التي أدت إلى إحباط الناخبين، سياسة الحكومة السابقة التي تقضي بإيواء طالبي اللجوء في الفنادق بتكلفة بلغت 2.5 مليار جنيه إسترليني (3.2 مليار دولار) في العام الماضي.
الحكومة: “أصابع خارجية”!
لكن للحكومة البريطانية رأيًا آخر، إذ كشفت أن المسؤولين يدرسون الدور الذي لعبته دول أجنبية في تضخيم المعلومات المضللة على الإنترنت والتي ساعدت في تأجيج الاحتجاجات العنيفة، في حين حذرت شركات وسائل التواصل الاجتماعي من أنها يجب أن تفعل المزيد لوقفها.
وقال مدير السياسات والأبحاث في معهد الحوار الاستراتيجي، جاكوب ديفي، إن سيل المعلومات المضللة عبر الإنترنت والدور الذي تلعبه شركات وسائل التواصل الاجتماعي نفسها كانا عاملين رئيسيين. وأوضح ديفي في تصريحه لوكالة رويترز: “لا أعتقد أننا نستطيع التقليل من أهمية انتشار هذه المعلومات في الأحداث المروعة التي وقعت نهاية الأسبوع”.
ديفي أعرب عن اعتقاده بأن المعلومات المضللة لا تنتشر فقط من مثيري المشكلات، لكن من منصات التواصل الاجتماعي نفسها بسبب خوارزميات نماذج أعمالها التي تم إنشاؤها لتضخيم التدفق عبر الإنترنت. “لقد رأيت ذلك في الموضوعات الشائعة بالمملكة المتحدة، ورأيت أن المعلومات المضللة تظهر تحت عمليات البحث عن ساوثبورت.. إن جانب نموذج الأعمال هذا مهم حقًا”، كما أضاف ديفي.
إلى ذلك، قالت الحكومة البريطانية التي اتهمت لسنوات دولًا مثل روسيا بالسعي إلى بث الفتنة، إنها تتطلع لمعرفة مدى التأثير الذي أحدثته الدول الأجنبية في الترويج للرسائل الكاذبة.
وقال متحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر للصحفيين: “لقد رأينا نشاطًا روبوتيًا عبر الإنترنت، وقد يكون الكثير منه مضخمًا أو متورطًا فيه جهات فاعلة من الدولة، ما أدى إلى تضخيم بعض المعلومات المضللة والمغلوطة التي رأيناها”.
وانتقدت وسائل إعلام بريطانية سماح منصة (X) للمتطرف روبنسون، بنشر معلومات مضللة، وكان قد حُظِر من المنصة عام 2018، بسبب إنتاج محتوى يحض على الكراهية، لكن إيلون ماسك أعاد حسابه بعد أن اشترى “تويتر”.
وفي ردّه على منشور عبر المنصة، ألقى باللوم على الهجرة الجماعية والحدود المفتوحة في الاضطرابات ببريطانيا، كتب ماسك في تحريض مبطّن: “الحرب الأهلية أمر لا مفر منه”!
مسلمو بريطانيا: حلقة في مسلسل الكراهية
المسلمون البريطانيون يتملكهم الخوف، حيث أعربوا عن قلقهم بشأن احتجاجات اليمين المتطرف التي استهدفت المساجد في المملكة المتحدة خلال الأيام الأخيرة، وتأهبوا لتأمين المساجد والمراكز الإسلامية.
واستهدف مثيرو الشغب العديد من المساجد مرددين هتافات معادية للإسلام، وألقوا علب البيرة والحجارة على الشرطة خارج مسجد في مدينة سندرلاند شمال شرق إنجلترا.
الأمين العام للمجلس الإسلامي في بريطانيا، زارا محمد، قال لوكالة فرانس برس، إن “المجتمع المسلم يشعر بقلق عميق في الوقت الحالي، ومنزعج حقًا بشأن ما شاهده”، وأعرب محمد عن استغرابه من حملة التنسيق والتخطيط لهذا الأمر، ومدى السرعة التي أدت بها حملة الأخبار المزيفة إلى هذا، مشيرًا إلى أن هذا “لم يأتِ من فراغ، بل هو حلقة في مسلسل العداء للمهاجرين وكراهية الإسلام في البلاد، بما في ذلك من جانب الزعماء السياسيين”.
ولم يغب دور الهيئات المسلمة، والذي تمثل في اجتماع المجلس الإسلامي البريطاني مطلع أغسطس/آب الجاري، الذي عُقد مع قادة المساجد لمناقشة الوضع الأمني، حيث أبلغ بعض الحاضرين عن تلقيهم “مكالمات تهديد تقول: سنهاجمكم”، في حين تساءل آخرون عمّا إذا كان ينبغي توقف أنشطة المراكز الإسلامية وخاصة المتعلقة بتعليم الأطفال والنساء.
وأكد المجتمعون أن بعض مساجد بريطانيا التي يبلغ عددها نحو 2000 مسجد تستطيع تحمل تكاليف حراس الأمن، لكن الكثير منها لا يستطيع تأمين الحماية الكافية.
وعن ذلك كشف مدير شركة أمن المساجد التي تقدم خدمات الحماية لأماكن العبادة الإسلامية، شوكت واريش، عن تلقيه استفسارات من أكثر من 100 مسجد “تطلب المساعدة والمشورة”، مضيفًا: “لقد عبرت العديد من المساجد عن ضعفها وخوفها لنا”.