الملخص المفيد.. فيلم سيبقى في ذهنك لأيام بعد مشاهدتك إياه.
القصة (دون حرق الأحداث)
خريف 2012، يقرر بوريس وزينيا بيع شقتهما بعد اتخاذهما قرار الانفصال، قرار جاء بعد اثني عشر عامًا من الشقاق والتناحر والعداء، ورغم الشقاق والاختلاف، فإن بوريس وزينيا اتفقا على شيء واحد، حضانة ابنهما أليكسي البالغ من العمر اثني عشر عامًا.
لا يريد الزوجان حضانة أليكسي ولا يريدان تحمل مسؤوليته، بوريس يرغب أن تتحمل زينيا مسؤولية الطفل، بينما تصر زينيا أن تمضي قدمًا في خططها المستقبلية الجديدة وإرسال أليكسي لمدرسة داخلية بعيدًا عنها. في وسط هذا النقاش، تتحرك الكاميرا لتكشف لنا أليكسي من خلف الجدران يستمع لكل كلمة قالها أبواه. في صباح اليوم التالي، يخرج أليكسي ولا يعود، ومن بعدها يبدأ الأبوان رحلة بحث طويلة للعثور عليه، فهل سيعثران على أليكسي في النهاية؟
السيناريو
بدأ الفيلم كنية لإعادة صنع فيلم إنجمار برجمان (مشاهد من حياة زوجية)، إلا أن المخرج الروسي أندريه زفاجينزيف لم يستطع الحصول على الحقوق، مما جعله يعيد التفكير في النص.
قرأ أندريه عن جمعية خيرية روسية تعني بالبحث عن المفقودين، عرفت بتعاونها الوثيق مع الشرطة وبتحقيقها نجاحات مشهودة في حل قضايا الاختفاء والتغيب. من خلال دمج قصص الجمعية وقصة أبوين يعاني ولدهما من تبعات الانفصال، ولد السيناريو. أليكسي محور الفيلم العاطفي يظهر في أربعة مشاهد فقط، إلا أنهم كانوا كافيين لتعريفنا بالشخصية ومعرفة المعاناة التي يشعر بها بسبب عزلته وشعوره بالنبذ سواء من أبويه أم مجتمعه بالمدرسة. تأمل مشهده في السبع دقائق الأولى، تحديدًا مشهده مع زينيا في أثناء معاينة أحد السكان للشقة، الخشونة التي تعامله أمه به ورد فعل أليكسي تجاهها.
بناء السيناريو مقسم لقسمين: القسم الأول يتناول باستفاضة علاقات بوريس وزينيا مع شركائهم الجدد، النصف الثاني يعتمد على رحلة البحث عن أليكسي.
بوريس وماشا شريكته الجديدة
من الصعب على المشاهد أن يتعاطف مع بوريس أو زينيا، ففي النصف الأول، يفصل أندريه زفيجانزيف في تفاصيل حياتهم وخططهم المستقبلية مع شركائهم الجدد التي لا مكان لأليكسي فيها. “في أثناء الولادة، ظننت أنني أحتضر، كانت كابوسًا بلا نهاية، وضعوني بالعناية المركزة، حينما أحضروه إليّ، لم أطق النظر إلى وجهه، لم يكن في صدري شيئًا أرضعه إياه”، زينيا متحدثةً إلى عشيقها أنطون عن ولادة طفلها أليكسي.
هذه التفاصيل تبرز للمشاهد قدر “الحب” الذي يكنه بوريس وزينيا لشركائهم الجدد، فأليكسس ليس في بال أي منهم لأنه ببساطة ذكرى وثمرة ماضٍ يريد بوريس وزينيا الهروب منه للعبور لحياتهم الجديدة.
النصف الثاني يتناول رحلة البحث، ويبرز أندريه زفيجانزيف شخصية إيفان منسق وقائد الحملة التطوعية للبحث عن أليكسي، وتأثير الاختفاء على علاقة بوريس وزينيا بشركائهم الجدد.
إيفان وفرقة المتطوعين هم الشخصيات الإيجابية الوحيدة التي يستطيع المشاهد التعاطف معها، فإخلاصهم وتفانيهم في البحث عن أليكسي يؤثر في المشاهد على عكس سلبية الشرطة وقلة حيلة بوريس وزينيا. هم يمثلون أيضًا وجهة نظر أندريه زفيجانزيف في الوضع السياسي لروسيا تحت إدارة بوتين، حيث يضع الأمل في التغيير على يد المجتمع المدني.
تأثير الاختفاء على علاقات بوريس وزينيا مع شركائهم الجدد يجعلنا نتساءل عن حقيقة الحب الذي يدعيه كل من بوريس وزينيا تجاه شريكه الجديد، خاصة أن أندريه زفيجانزيف ركز على الجانب الجنسي من العلاقة بين بوريس وشريكته الجديدة، وزينيا وشريكها الجديد. فهل كلمات الحب التي يلقيها كل من بوريس وزينيا تجاه شركائهم الجدد حقيقية؟ اسم الفيلم “بلا حب” يؤكد هذا السؤال.
التمثيل والشخصيات
قامت بدور زينيا الممثلة ماريانا سبيفاك، وهو أول دور رئيسي لها في فيلم روسي، سبيفاك تأتي من خلفية مسرحية وقامت ببروفات وتدريبات لمدة ستة أشهر مع زفيجانزيف على الشخصية.
زينيا نشأت في بيئة قاسية لم تعطها أي اهتمام أو تعاطف، فنشأت بلا أب وتحت رعاية أم جافة المشاعر وسليطة اللسان، مما يصبح واضحًا لدى المشاهد لما تعامل زينيا ابنها بهذا الجفاف، ففاقد الشيء لا يعطيه، تتحول زينيا لشخص آخر برفقة أنطون، عشيقها رجل الأعمال صاحب السبعة وأربعين خريفًا. المدى والجرأة الذي أدت بها ماريانا مشاهدها مع أنطون مذهلة، فرغم ركاكة السيناريو في تلك المشاهد (هناك مشهد تحكي فيه قصة حياتها وزواجها)، فإن صدقها في أداء الحوار كفيل بتجاهل المشاهد لنقاط الضعف تلك.
زينيا وأنطون شريكها الجديد
هناك لقطتان لزينيا يعبران عن ماهية تلك الشخصية، تأتي اللقطتان بعد مشهد زينيا مع شريكها الجديد أنطون، موضحان بالأسفل في الصورة. في كل لقطة نجد زينيا تسند برأسها على الزجاج، وتغلق عيناها، تستمر الكاميرا على زينيا لفترة 30 ثانية، كأنها تتخيل حياة بديلة هانئة وخالية من الشقاء الذي عاشته.
بوريس لا يفصح عما بداخله على عكس زينيا، مستمع أكثر منه متكلم، بارد، أناني، مصلحته وعمله أهم شيء عنده، تستشف من بعض الأفعال التي يقوم بها أنه ما زال يغير على زينيا ويود الاستمرار في امتلاكها.
تأمل بوريس في مشهده مع زينيا، بعد عودتهم من منزل أمها في أثناء رحلة البحث عن أليكسي، حينما تشكي زينيا خيبة أملها فيه بعدما وعدها بالأمان والسعادة، تجد بوريس يتكلف الابتسام، كأنه يستهين بما تقول، ينفعل فقط حينما تبدأ زينيا ذكر الرجل الآخر، وعلى إثر ذلك يطردها من السيارة ويتركها وسط البرية وحدها. بوريس يتغير مع استمرار البحث عن أليكسي، حيث يصبح العثور على ابنه شغله الشاغل حتى يؤثر ذلك على عمله وعلاقته بامرأته الجديدة.
أليكسي روزي بدور بوريس
أليكسي روزي قد يبدو للوهلة الأولى أدى دور بوريس بسهولة، فانفعالاته محدودة على عكس شخصية زينيا، لكن إتقانه لغة الجسد وطريقة إخفاء شخصية بوريس انفعالتها مذهلة. تأمل أداءه في مشاهد البحث، مشهد تلو آخر، البرود الذي كانت الشخصية فيه، يتحول لقلق ثم رعب في مشهد ذروى. جودة الأداء التمثيلي أحد أكبر نقاط قوة أندريه زفاجينزيف الإخراجية مما يجعلنا ننتقل إلى الإخراج والتصوير.
الإخراج والتصوير
تريلر الفيلم
من اللقطة الأولى التي يبدأ بها أندريه زفاجينزيف فيلمه، تدرك أن البيئة لاعب أساسي بالفيلم، أول عشرة لقطات بالفيلم تركز على حديقة جرداء بالشتاء، مدة كل لقطة تقريبًا تتراوح من عشرة لخمس عشرة ثانية، يظهر حكمة هذا الاختيار حينما نعود لنفس الحديقة بنهاية الفيلم.
أي مخرج عادي كان سيركز على زينيا وأليكسي ويبعد السكان الجدد عن بقعة الضوء، إلا أن زفاجينزيف قام بالعكس تمامًا، وجعل السكان الجدد أبطال المشهد
هذا الاختيار الجمالي من المستحيل أن يحدث في أفلام هوليوود بشكل خاص والسينما التجارية بشكل عام، إلا أن زفاجينزيف أراد بهذا الاختيار أن يخبر المشاهد أن الفيلم الذي يشاهده، البيئة والحياة التي تدور داخلها أحداث القصة بطل مشارك فيه.
وفعلًا نجد أن زفاجينزيف جازف ببعض الاختيارات التي تؤكد ذلك، تأمل مشهد تفقد السكان الجدد لشقة زينيا وبوريس الذي وبخت فيه زينيا أليكسي أمامهم.
السكان الجدد هم زوج وزوجته الحامل، شباب في بداية زواجهم، ولديهم شعلة الحب تلك في أعينهم، على عكس زينيا وبوريس تمامًا، أي مخرج عادي كان سيركز على زينيا وأليكسي ويبعد السكان الجدد عن بقعة الضوء، إلا أن زفاجينزيف قام بالعكس تمامًا، وجعل السكان الجدد أبطال المشهد، لدرجة أنني في المشاهدة الأولى ظننت أنهم شخصيات ستكمل معنا الفيلم، وهو ما لم يحدث.
مشهد تفقد السكان الجدد لشقة بوريس وزينيا، جعل المخرج من السكان رغم دورهم الثانوي أبطالًا للمشهد
كأن زفاجينزيف يريد أن يخبرنا أن الحياة لا تدور حول بوريس وزينيا وأليكسي، وأن تلك الشخصيات الثانوية لها حياتها وقصتها التي تستحق أن تروى أيضًا. مجازفات كتلك قام بها زفاجينزيف على مدار الفيلم، تأمل مشهد آخر أثار تساؤل النقاد عن مغزاه، وهو مشهد لقاء زينيا بأنطون بالمطعم. حيث يبدأ المشهد بلقطة (POV) ونرى فتاة جميلة تدخل الكادر، وتوجه الكاميرا لها سؤالًا وتجيب الفتاة عليه، ثم تتابعها الكاميرا حتى تجلس في مكانها، ثم تنتقل إلى زينيا وأنطون بعدها.
يظل المشاهد يفكر لما تلك الاختيارات؟ لماذا قام زفاجينزيف بذلك؟ ما المغزى الخفي وراء تلك اللقطات؟
كاميرا ميخائيل كريتشمان متحركة طوال الوقت، وتتابع البيئة المحيطة بشخصيات المشهد والحدث، الإضاءة في الفيلم أيضًا جريئة، فالكثير من المشاهد غارقة بالظلال، تأمل النور في مشاهد الحب بين بوريس وماشا، وبين زينيا وأنطون. لاحظ اختياره تفصيلة عدم وجود ضوء الشمس المباشر كمصدر إضاءة سوى في المشاهد التي يظهر بها أليكسي الطفل.
أندريه زفاجينزيف وميخائيل كريتشمان
فوق كل هذا الأداء الرائع الذي تميز به زفاجينزيف منذ فيلمه الأول العودة، كل الممثلين بلا استثناء ممتازين، ويرجع ذلك إلى البروفات والتدريبات التي قام بها مع الممثلين على مدار ستة أشهر. زفاجينزيف جاء من خلفية مسرحية، فقد عمل كممثل في المسرح لأكثر من عشر سنوات، ولم يستطع إنجاز طموحه هناك، فاتجه إلى الإخراج التليفزيوني والإعلانات. فيلمه الأول العودة نال الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا 2003 ووضع السينما الروسية من جديد على الخريطة السينمائية العالمية.
عرض “بلا حب” في مهرجان كان العام الماضي وكان مرشحًا بقوة من وجهة نظر النقاد لنيل السعفة الذهبية، إلا أنها ذهبت لفيلم المربع السويدي وفاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم بدلًا منها.