في زيارة هي الأولى له منذ تعيينه وزيرًا للخارجية السودانية بديلاً لإبراهيم الغندور في الـ15 من مايو/آيار الحاليّ، بدأ الدرديري محمد أحمد، جولة عربية، أمس الثلاثاء، تشمل كل من مصر والسعودية.
تأتي الزيارة في وقت تعاني فيه العلاقات بين الخرطوم من جانب والقاهرة والرياض من جانب آخر من توترات ومشاحنات إعلامية جراء تباين وجهات النظر حيال عدد من القضايا الإقليمية والحدودية، كان لها أبلغ الأثر في تعكير الأجواء بين الأطراف الثلاث.
الخرطوم تسعى من خلال هذه الجولة – وفق مصادر دبلوماسية – إلى إعادة ترتيب الأوراق الإقليمية وفقًا للأوضاع السودانية الراهنة، في محاولة لتقريب المسافات وتهدئة الأوضاع الملتهبة في الفترة الأخيرة التي انعكست سلبًا على واقع السودان السياسي والاقتصادي.
لماذا القاهرة والرياض؟
اختيار الدرديري لكل من القاهرة والرياض ليكونا محطته الأولى في جولته العربية بعد أقل من 15 يومًا على تعيينه لم يكن اختيارًا عشوائيًا، حيث التقى الرئيس السوداني عمر البشير، قبل يوم واحد فقط من بدء زيارته، ناقشا أبرز الملفات المقرر إدراجها على جدول الأعمال المرتقب مع نظيريه المصري والسعودي.
حزمة من الملفات الشائكة أدخلت العلاقات المصرية السودانية إلى آفاق من الجمود والتوتر، على رأسها الخلاف البين بشأن ملكية مثلث حلايب وشلاتين، إذ تدعي الخرطوم ملكيتها له، في مقابل تمسك القاهرة بحقها التاريخي في هذه المنطقة التي تعد خاصرة مصر الجنوبية، وهو ما دفع الجانب السوداني إلى تدويل القضية عبر تقديم عدد من الشكاوى في مجلس الأمن؛ ما أثار حفيظة المصريين بصورة كبيرة.
ثم يأتي ملف سد النهضة الذي يمثل رمانة الميزان في الخلاف بين الجارتين، حيث تتهم القاهرة الخرطوم بالتواطؤ مع أديس أبابا ضدها في هذا الملف، خاصة في ظل العلاقات الوثيقة التي تربط بينهما في الآونة الأخيرة، في مقابل اتهامات السودان للنظام المصري بدعم المعارضة وتسليحها وفتح الأبواب أمام قيادتها، بما يهدد أمنها واستقرارها.
وزير الخارجية السوداني خلال لقائه والرئيس المصري ووزير خارجيته أمس الثلاثاء، حرص على تنحية الملفات الجدلية جانبًا، على رأسها حلايب وشلاتين وسد النهضة
ولعل مسلسل “أبو عمر المصري” الذي يقدم على الفضائيات المصرية يعد آخر حلقات سلسلة الخلافات بين البلدين التي تجاوزت الخطوط الحمراء في بعض الأحيان جراء ترك الباب مفتوحًا أمام التراشق الإعلامي هنا وهناك، إذ تتهم الخرطوم منتج العمل بتعمد الإساءة للسودان بتصويرها وكأنها ملاذ للإرهابيين ومعقل لتخريج المتطرفين والجماعات المسلحة، وهو ما دفع خارجية الخرطوم لاستدعاء السفير المصري لديها وتبليغه احتجاجًا رسميًا أجبر الشركة المنتجة للعمل الدرامي على حذف المشاهد التي وصفت بـ”المسيئة” للشعبين الشقيقين.
الأمر لم يختلف كثيرًا مع السعودية، فالعلاقات بين البلدين شهدت خلال الأشهر الأخيرة موجة من المد والجذر، كللت بتسريب بعض الأنباء التي تلمح إلى احتمالية انسحاب القوات السودانية المشاركة ضمن قوات التحالف في اليمن، وهو ما يعني ضربة موجعة للتحالف الذي تقوده السعودية ويكبدها شهريًا مليارات الدولارات في ظل صراع النفوذ مع إيران إقليميًا.
كذلك فإن فتح السودان جبهات تقارب جديدة مع بعض الدول التي تتحفظ عليها الرياض وحليفتها أبو ظبي، ساهم بدوره في تعميق التوتر والخلاف بين البلدين، خاصة مع تركيا وقطر، اللتان نجحتا في تعزيز التعاون المشترك مع الخرطوم خلال الفترة الأخيرة، سواء على المستوى الاقتصادي الاستثماري أم السياسي، وهو ما أثار حفيظة الحلف الخليجي العربي بقيادة السعودية.
السيسي قد يزور الخرطوم خلال الفترة المقبلة
زيارة ترتيب الأوراق
تكبد السودان خسائر عدة جراء توتر علاقاتها مع بعض جيرانه خاصة مصر والسعودية، لا سيما أن الأخيرة تلعب دورًا محوريًا في استقرار الوضع الاقتصادي السوداني عبر الدعم والتمويل المتواصل، فضلاً عن جهودها الحثيثة دوليًا لرفع العقوبات الموقعة على الخرطوم منذ سنوات التي كان لها أسوأ الأثر على الحياة المعيشية للسودانيين.
الدرديري يعلم يقينًا حجم التوتر الواضح في علاقات بلاده مع القاهرة والرياض، وفي الوقت ذاته لا يساوره شك في أوراق الضغط التي تملكها دولة مثل المملكة على سبيل المثال التي ربما تزيد الأوضاع السودانية الداخلية سوءًا، وهو ما تم وضعه عين الاعتبار خلال هذه الجولة.
التوصل إلى تطابق تام في الرؤى بين الجبهتين مسألة غاية في الصعوبة، هذا ما استقر في أذهان القيادات السودانية بلا أدنى شك، ومن ثم فمن الدبلوماسية أن يكون التقارب على أساس أرضية مشتركة تجمع ولا تفرق، هو الحل الوحيد أمام نظام البشير متجنبًا في ذلك أي ملفات من الممكن أن تثير التوتر بين الفريقين.
الزيارة تأتي في المقام الأول حاملة رسالة طمأنة للرياض، بعدم سحب السودان قواته المشاركة في العمليات العسكرية في اليمن
وزير الخارجية السوداني خلال لقائه والرئيس المصري ووزير خارجيته أمس الثلاثاء، حرص على تنحية الملفات الجدلية جانبًا، على رأسها حلايب وشلاتين وسد النهضة، وإن كان في الوقت ذاته بحث مسألة تحديد موعد لاجتماع اللجنة الرباعية على مستوى وزيري الخارجية ومديري جهازي الاستخبارات، المزمع عقده في الخرطوم خلال الفترة المقبلة، بعدما كان مقررًا له أن يُعقد في أبريل/نيسان الماضي، لولا قرار إقالة وزير الخارجية إبراهيم غندور.
الزيارة تضمنت كذلك انعقاد لجنة التشاور السياسي، وهي واحدة من آليات التفاهم المتفق عليها بين البلدين لحل أي نزاع سياسي يطرأ على العلاقات، تمخض عنها الحديث عن زيارة مرتقبة للسيسي للسودان خلال الفترة المقبلة، كذلك مناقشة الملف الليبي بتوسع، خصوصًا في ضوء اجتماع باريس الذي لم تشارك فيه الخرطوم، وبحسب بعض المصادر، تلعب مصر دورًا وجهودًا حثيثة لتحسين العلاقات بين معسكر الشرق الليبي، بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والسودان، لافتة إلى أن هذا الملف لم يشهد تقدمًا يذكر في الفترة الماضية.
تطمينات سودانية بعدم سحب قواته من اليمن
البعض كان يعول على هذه الزيارة في إحياء المسار التفاوضي لسد النهضة وهو الموضوع الأكثر أهمية الآن لدى المصريين، غير أن خبراء برروا تجنب الحديث في هذا الملف على وجه الخصوص، بجانب أنه ربما يثير التوتر في العلاقات بين البلدين وهو ما يتجنبه السودان في الوقت الحاليّ، فإن التطرق إليه يتطلب حضور الأطراف الثلاث، القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، وفي ظل غياب الأخير ما كان للوزير السوداني فتح هذا الملف والتطرق إليه.
وفي الجهة المقابلة، فإن الرياض ستكون المحطة الثانية للدرديري، إذ من المتوقع أن يجتمع اليوم مع نظيره السعودي وبعض قيادات الديوان الملكي، لبحث سبل تعزيز التعاون المشترك بين الجانبين الذي تعتمد عليه الخرطوم بصورة كبيرة في تيسير أمورها الاقتصادية في الفترة الأخيرة.
اختيار الدرديري لكل من القاهرة والرياض ليكونا محطته الأولى في جولته العربية بعد أقل من 15 يومًا على تعيينه لم يكن اختيارًا عشوائيًا
الزيارة تأتي في المقام الأول حاملة رسالة طمأنة للرياض، بعدم سحب السودان قواته المشاركة في العمليات العسكرية في اليمن، على الرغم من الضغوط الداخلية الممارسة على نظام البشير بسحب تلك القوات بعد تعرضها لخسائر كبيرة في الأرواح، وكذلك الهجوم الدولي المتواصل على تلك العمليات.
الخرطوم تهدف من طمأنتها للجانب السعودي حصولها على دعمه لاستكمال مشاورات رفع الحصار الأمريكي عنها وتحسين العلاقات مع واشنطن الذي تلعب فيه الرياض دورًا محوريًا، هذا بخلاف بحث المزيد من المساعدات الاقتصادية السعودية المقدمة للسودان في محاولة للخروج من عنق الزجاجة والتغلب على الأزمة الاقتصادية التي يحياها السودانيون خلال السنوات الأخيرة.