ربما تكون تلعفر المدينة الوحيدة في العراق التي ما زالت محافظة على تقاليدها العائلية والعشائرية الرائعة والقديمة، وهذه أحد الأسباب التي تجعل منها مدينة للتعايش السلمي والمجتمعي، فهي مهيأة بشكل فريد لتداوي جراحات الزمن الماضي والفترة المظلمة التي مرت بها بكل شفافية وبسرعة ملفتة للنظر لأسباب عديدة أهمها حب التلعفريين لمزاولة أعمالهم التي يعتبرونها عبادةً إلهية وكذلك ميل الأهالي فيها إلى تقديم العون والمساعدة والتهيؤ لها في كل حين، فهم دائمًا جنود مجهولون يقدمون أنفسهم ودون أي طلب لعمل الخير وتقديم المساعدة.
إضافة إلى أن الأهالي والعوائل والعشائر متناسبة مع بعضها، فتجد خال الابن الساكن في جنوب تلعفر يسكن في شمالها والعم ساكنُ في غربها والجد ساكن في شرقها، ومن هنا يتضح مدى استعداد الأهالي إلى المضي قدمًا في سبيل الاستقرار والمحبة والسلام والتألف.
لرمضان تلعفر حالةُ خاصة ربما يقل نظيرها في باقي المدن، فتلعفر دخلت بها المَدَنية المتطورة منذ عقود كثيرة وأصبح التعليم السمة الأساسية فيها، حيث فتحت أولى المدارس الحديثة في نهاية العهد العثماني وأصبح الإقبال على التعليم جزءًا من حياة الأهالي منذ تلك الفترة، وكان هناك معلمون من نفس أهالي تلعفر وأولهم الأستاذ المرحوم عبد القادر أفندي (قدو أفندي) وهو جدٌ لكاتب هذه الأسطر.
ومنذ ذلك الحين وتلعفر ترفد المؤسسات العراقية التعليمية والمهنية بالشهادات الجامعية العليا حيث الطبيب والمهندس والأستاذ الجامعي والمدرس ورجل القانون.
قبل الفطور في كل أيام رمضان كانت المائدة التلعفرية متنوعة، فمعظمهم كانوا يوزعون ما هيأوه من طعام إلى الجيران والأقرباء
ورغم كل هذه المدنية الحديثة إلا أن الأهالي ما زالوا يعشقون القيم النبيلة العشائرية الأصيلة، ومن هنا يظهر لنا جليًا أن العلم والتعلم والتمدن إكمال للأخلاق الفاضلة وليست هادمة لها، وكما قلنا فإن الأهالي ما زالوا يعيشون تلك المظاهر الرائعة الأصيلة، فبيوتهم مضافات للغربة، فليس هناك فنادق في تلعفر لاحتواء المسافرين، فبيوت الأهالي ومضايفهم هي محل إقاماتهم في حلهم وترحالهم وهذا ما يميزهم عن غيرهم.
أولى الساعات التي تسبق يوم رمضان حتمًا ستكون في مراقبة الهلال في يوم الـ29 من شهر شعبان، ففي حينها سيقرر أول أيام الصوم، فيعقب إعلان الشهر الفضيل بالتكبيرات في الجوامع والمساجد وتكون الأمهات قد هيأن كل مستلزمات الشهر الفضيل قبل الموعد بأيام، ففي السحور الأول وما يليه من أسحار الشهر الفضيل يكون الطعام العام للجميع هو البرغل، فهو الأكل الوحيد الذي باستطاعته مد الصائم بالطاقة طيلة نهار الصوم صيفًا وشتاءً والمتمكنين من الميسورين كانوا يطبخونها باللحم والدهن الحيواني (دهن الحر).
قبل الفطور في كل أيام رمضان كانت المائدة التلعفرية متنوعة، فمعظمهم كانوا يوزعون ما قد هيأوه من طعام إلى الجيران والأقرباء، وبعد صوت المؤذن يكون الصائمون قد ذاقوا مختلف الأصناف مما تكرم به الجيران والأقارب لتبدأ بها أول يوم من أيام الشهر الفضيل.
قبل وداع الشهر الفضيل والمبارك تتهيأ العوائل للتحضير لاستقبال ثلاثة أيام عيد الفطر المبارك وكل حسب إمكاناته في تلك التحضيرات
وببركة الشهر وبعد الإفطار تتنوع النشاطات، فبين من يتهيأ لصلاة التراويح من الرجال والزيارات العائلية وزيارات الجيران للنساء، يتهيأ الأطفال لمزاولة ألعابهم الشعبية التي ما زال بعضها مستمرًا وإن استبدلت الفترة الأخيرة بألعاب الفيديو الإلكترونية التي يتجمع حولها الأطفال والصبيان، لكن رغم هذه التغييرات فإن الكثير من الأطفال الذين لا يميلون لتلك الألعاب الإلكترونية يزاولون الألعاب الشعبية ومنها لعبة الاختباء المشهورة تقريبًا في كل المدن العراقية، وبعد صلاة التراويح الكثير من الشباب يستمتعون بلعبة المحيبس والسائدة ايضًا في مدن العراق كافة.
كان المؤذن في السابق عند إعلان الغروب وبدء الإفطار يشهر علمًا كبيرًا في أعلى قلعة تلعفر قبل وجود مكبرات الجوامع، ومن الطبيعي أن نذكر أن في تلك الفترة – أي فترة ما قبل ظهور مكبرات الصوت – كان معظم أهالي تلعفر ساكنين في القلعة أو في منطقة قريبة منها حيث بإمكان الجميع مشاهدة علم الإفطار.
وبالنسبة لإيقاظ الناس لتناول السحور فقد جرت العادة منذ القديم وكما هو الحال في كل المدن الإسلامية بقرع الطبل لإسماعها للأهالي وعادة كان هناك شخص يتولى هذه الوظيفة وربما كان لأولاده من بعده شرف هذه الوظيفة يتولونها تباعًا.
وتمر الأيام والناس صيام وتُعَد الأيام بترقب ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر فيها يكون الناس في بركة الرحمن يداومون على الدعاء والاستغفار والتسبيح فهو شهر البركة والغفران والعتق من النار.
من العادات والتقاليد الجميلة التي حافظ عليها أهل تلعفر إعداد أكلة البرغل في صباح أول يوم العيد السعيد
وقبل وداع الشهر الفضيل والمبارك تتهيأ العوائل للتحضير لاستقبال ثلاثة أيام عيد الفطر المبارك وكل حسب إمكاناته في تلك التحضيرات سواء كانت بشراء الملابس الجديدة للعائلة أم بصنع بعض أنواع المعجنات والحلويات وأشهر تلك المعجنات والحلويات هي الكليجة التي تصنع من الطحين والسكر والسمن الحيواني أو النباتي ومحشوة بالجوز أو جوز الهند (جوزنركيلة) المطحون والتمر أيضًا، إضافة إلى التزود ببعض الحلويات التي تقدم للمهنئين كالجقليت.
ومن العادات والتقاليد الجميلة التي حافظ عليها أهل تلعفر إعداد أكلة البرغل في صباح أول يوم العيد السعيد وكل زائر ومهنئ للعائلة عليه أن يتناول منها باعتبار أنه قد أكل من زادهم وطَيَب خاطرهم ولبى دعوتهم وكرمهم.
ومن العادات والتقاليد الجميلة المستمرة في تلعفر التي تفرح الأطفال إعطائهم العيدانيات من الأهل والأقرباء، وهذه السمة أجمل ما ينتظره الطفل في أيام الأعياد التي تضفي طابعًا عائليًا جميلاً وتلبي الغريزة الاجتماعية عند الطفل في تلقي العيدانية من أهله وأقربائه.
وكما لكل مدينة تراثها الإنساني ونشاطها الاجتماعي الذي يتجدد ويتغير تبعًا للحاجة والضرورة، إلا أن بعض هذه المظاهر قد تحولت إلى ما يشبه السمة المضافة والمتميزة لأهلها، فتلعفر إحدى هذه المدن التي تسكن فينا وليست بلدة نسكن فيها، فنسيمة العطر والعيش فيها كالعيش في الأسرة السعيدة.
هي كقطعة ذهبية لم تفقد قيمتها رغم تراكمات الغربة عليها، فلم تزدها إلا قيمة تاريخية وأصالة، هي جنة من جنان الدنيا بطبيعتها وطيبة أهلها وتفتح ذراعيها كالأم الحنون تجذب أبناءها إلى حضنها لكل مشتاق وكل غريب عن دياره، فلا تعرف محبة وطنك إلا إذا ذقت مرارة الغربة.