يبدأ الأطفال منذ لحظة ولادتهم باستقبال المعلومات من عالمهم الخارجيّ المحيط وممّن حولهم، وشيئًا فشيئًا تتطوّر لديهم مهاراتٍ عديدة تمكّنهم من التفاعل مع تلك المعلومات بما يتناسب مع المرحلة العمرية التي هم فيها، فمن لمس الوجه واليدين، أو الإمساك بالأشياء وما يجدونه أمامهم، إلى عضّها ووضعها في أفواههم، كلّ تلك السلوكيات ما هيَ إلى محاولات استكشافية يقومون بها للتعرّف على عوالمهم والتأثير عليها.
تعدّ مرحلة “المرآة” التي وضعها المحلل النفسي الفرنسي “جاك لاكان” واحدة من المؤشرات الأولية على تطوير الطفل لمفهوم الذات أو الوعي الذاتي، إذ يبدأ الطفل بحلول عامه الثاني بالتعرّف على نفسه في المرآة أو في الصور الفوتوغرافية، ومع الوقت يصبح الأطفال مهتمين أكثر ويكرّسون المزيد من الوقت والجهد لاستكشاف الروابط بين أجسادهم وصورهم أو انعكاساتهم على المرآة.
أما ما بين 18 و30 شهرًا من عمرهم، فيكتسب الأطفال قدرةً على تصنيف أنفسهم وذواتهم ضمن مجموعتين متناقضتين، إذ يصنّفون أنفسهم من حيث العمر “صغير أو كبير”، وقد يرون أنفسهم صغارًا فيما من حولهم هم من الكبار، أو قد يرون أنفسهم كبارًا في اللحظة التي يرون فيها من هم أصغر منهم بشكلٍ واضح. كما يبدؤون في تلك المرحلة بمعرفة تصنيف ذواتهم ومن حولهم بناءً على الجنس، فهذا صبيّ وتلك بنت، أو بناءً على الخصائص البدنية، كطويل وقصير على سبيل المثال، أو وفقًا لخاصيةٍ ما، جيّد وسيء مثلًا.
الوعي الذاتي بالعواطف والمشاعر والأفكار الداخلية والخاصة يتطوّر أيضًا جنبًا إلى جنب مع تطوّر اللغة
ومن الجدير ذكره هنا، أنّ الأطفال قبل عمر الخمس سنوات تقريبًا يفتقدون القدرة على تمييز أنّ الأشخاص من حولهم أو حتى أنفسهم قد يمتلكون خواصًّا متناقضة ومتعارضة، فيعجزون عن إدراك أنّ الأشخاص من حولهم قد يكونون جيّدين أحيانًا وسيّئين أحيانًا، وإنما ترتسم في عقولهم صورةً واحدة للذات، فذلك الشخص هو إما جيد أو سيء، ولا وجود لخيارٍ ثالثٍ في عالم الأطفال.
ومع بدء اكتسابهم للغة، ينتقل الأطفال إلى مرحلةٍ جديدة من مراحل الوعي الذاتي، إذ يبدؤون باستخدام لغتهم للتعبير عن ذواتهم خاصة فيما يتعلّق بالمرجعية أو الملكية منها، فيتعلمون “أنا” أو “أنتَ” أو “لي” التي تشي بقدرتهم على تمييز ما هو لهم أو ما يعتقدون ما هو لهم، كإشارةٍ على فهمهم لاستقلال ذواتهم عن الذين من حولهم، أخوتهم على سبيل المثال.
الوعي الذاتي بالعواطف والمشاعر والأفكار الداخلية والخاصة يتطوّر أيضًا جنبًا إلى جنب مع تطوّر اللغة، إذ تساعدهم المهارات اللغوية للتعبير عن حالاتهم العاطفية والمزاجية عن طريق الحدّ الذي يمتلكونه من المفردات المكتسبة وتتطوّر القدرة هذه من خلال اللعب والمشاركة الاجتماعية وأنشطة الخيال والقصص والقراءة.
ومع تطوّر الذاكرة على المدى الطويل، أي في عمر الأربع أو الخمس سنوات تقريبًا، يبدأ الطفل باكتساب نظرةٍ جديدة إلى ذاته، إذ تصبح الأحداث والمواقف والأمور التي يتذكّرها جزءًا من ذاته ووعيه ونفسه، وهي ما يُشار إليها بمصطلح “الذاكرة الذاتية” أو “autobiographical memory“.
ما بين الرابعة والخامسة من عمرهم، يصبح لدى الطفل شعور ثابت بهويته الجنسية، ويبدأ بإدراك الفرق بين الجنسين والأدوار التي يقوم بها كل جنس في حياته اليومية
بمجرد تطوّر إحساس الطفل بذاته، يصبح أكثر قدرةً على أنْ يتذكر المعلومات والمواقف التي تتعلق بنفسه، التأثير المعروف في علم النفس باسم “تأثير المرجعية الذاتية على الذاكرة” أو “self-reference effect“. ففي هذه المرحلة، يكون الأطفال قادرين على استرجاع المعلومات فيما يتعلّق بما حدث معهم مسبقًا، ومن ثمّ معالجتها وحفظها لاستخدامها في حياتهم اليومية بصورةٍ تروي قصة ذواتهم وتعرّف عن أنفسهم.
لذلك ينصح علم النفس المدرسيّ بالتركيز على الطلب من الأطفال بالتفكير بأنفسهم وذكرياتهم أثناء إنشاء الجمل في دروس اللغة، خاصة الجمل التي تبدأ بالضمير “أنا”، نظرًا لأنّ الأمر يزيد من وعيهم الذاتي بأنفسهم من جهة، ويرتبط بتحسين أدائهم المدرسيّ من جهةٍ أخرى وفقًا لعدد من الدراسات.
أمّا الهوية الجنسية للطفل ووعيه لها، فتتطوّر عبر مراحل مختلفة تكون في البداية مرنةً للغاية، فالأطفال على سبيل المثال لا يستطيعون تمييز السلوكيات النمطية للجنسين إلا بعد عمر الثانية أو الثالثة، وبعد عمر الثالثة يكون الطفل قادرًا على معرفة جنسه وتسميته بسهولة، هل هو ذكر أم أنثى دون أنْ يكون قادرًا على تمييز ديمومة جنسه على الإطلاق، فقد يتبادر إلى طفلك أنه سيصبح أنثى في حال لبس رداء أخته، أو قد تعتقد طفلتك أنها ستصبح ذكرًا في حال قصّت شعرها كأخيها.
ما بين الرابعة والخامسة من عمرهم، يصبح لدى الطفل شعور ثابت بهويته الجنسية، ويبدأ بإدراك الفرق بين الجنسين والأدوار التي يقوم بها كل جنس في حياته اليومية، ويستطيع معرفة الأنشطة المحددة له على مختلف الأصعدة. كما أنّ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاثة وخمسة أعوام يفضّلون اللعب مع أفراد من جنسهم ويميلون للمشاركة في الألعاب والنماذج النمطية للجنسين، فعلى سبيل المثال؛ تميل الفتاة إلى اللعب بالدمى والألعاب المنزلية، في حين يميل الصبي إلى اللعب بألعاب الجنود أو السيارات والشاحنات.
لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ السياق الاجتماعي-التاريخي يعدّان بُعدًا حاسمًا في تنشئة الأطفال وتطوّرهم على مراحل وأصعدة عدة بما في ذلك صورة الذات ووعيه بها، سواء وعيه الذاتيّ أو الاجتماعيّ ووعيه بالآخر
أما بعد سن الخامسة فيعتقد معظم الأطفال أن التغييرات الخارجية في الملابس أو تسريحة الشعر لا تشكل تغييرًا في نوع الجنس، فالولد سيبقى ولدًا حتى لو لبس رداءً ورديًّا والفتاة ستبقى فتاةً حتى لو قصت شعرها كليًّا. وما بين 7 و 10 سنوات تقريبًا يصبح الأطفال أكثر راحةً واسترخاءً تجاه السلوكيات النمطية للجنسين، فقد تعترف الفتاة، أو تصبح أكثر راحةً مع فكرة أنها تحبّ اللعب بالشاحنات لا الدمى والعكس صحيح.
ولا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار أنّ السياق الاجتماعي-التاريخي يعدّان بُعدًا حاسمًا في تنشئة الأطفال وتطوّرهم على مراحل وأصعدة عدة بما في ذلك صورة الذات ووعيه بها، سواء وعيه الذاتيّ أو الاجتماعيّ ووعيه بالآخر. كما أنّ قدرة الطفل على النجاح في المجتمع بدءًا من المدرسة ومرورًا بالعلاقات الاجتماعية المختلفة، تعتمد اعتمادًا كبيرًا على صورة ذاته وإحساسه بها، أيْ أنّ الهوية والمجتمع يسيران جنبًا بجنب ويؤثران على بعضهما البعض، فيكتسب الطفل جزءًا من هويتها الذاتية من مجتمعه ليتعامل لاحقًا مع هذا المجتمع بناءً على هويته التي اكتسبها وذاته التي طوّرها في سيرورةٍ أشبه بدائرةٍ مغلقة.