يُعتبر العلاج السلوكيّ المعرفيّ واحدًا من أكثر العلاجات النفسية حداثةً ودعمًا من قبل الدراسات والأبحاث التي أثبتت نجاعته وقدرته على علاج العديد من المشكلات والاضطرابات النفسية أو منع تطوّرها والحدّ من أعراضها. وقد تمّ اختبار العديد من من تمارين وأساليب هذا العلاج للعثور على بعض الحلول الأكثر فعاليةً في مواجهة بعض المشكلات الشائكة في حياة الأفراد، كالقلق والاكتئاب والخوف والفوبيا ومشاكل التواصل الاجتماعيّ ومشاكل الشريكيْن والعائلة وما إلى ذلك.
ببساطة، تقوم فكرة العلاج السلوكيّ المعرفيّ على ثلاثة مفاهيم رئيسية: الأفكار والعواطف والسلوكيات. وكما ذُكر في مقالٍ سابق، يرى هذا النوع من العلاج أنّ أفكارك ومشاعرك الداخلية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتصرفاتك وسلوكيّاتك، لذلك يعمل على مبدأ تغيير أنماط التفكير للتمكّن من تغيير السلوكيات والتصرفات التي يأتي بها الفرد، من خلال تغيير الطريقة التي يشعرون بها تجاه ما يمرّون به من تجارب ومواقف في حياتهم اليومية بتفاصيلها المتعددة.
ويستند هذا النوع من العلاج إلى النظرية أو النموذج الذي يرى أنّ الأحداث ليست هي ما يزعجنا، بل المعاني التي نعطيها لها ونحمّلها إياها. فإذا كانت أفكارنا سلبية للغاية، فإنها قد تمنعنا من رؤية الأشياء على حقيقتها أو تدفعنا للقيام بسلوكيات وتصرفات لا تتناسب مع تلك الأحداث، وهنا يحدث انزعاجنا وتتولّد مشكلاتنا النفسية. ويتفاقم الأمر حين نواصل التمسك بنفس الأفكار القديمة ونفشل في تعلم أي شيء جديد.
تعمل آلية إعادة البناء الإدراكيّ على تطوير قدرة الفرد على تعلّم كيفية التعرف على الأفكار غير المنطقية أو سيئة التكيف ومن ثمّ تحليلها
فعلى سبيل المثال، عندما يكون قلقك غير قابل للسيطرة وغير المبرّر هو المشكلة، يمكن أن تساعدكَ تمارين العلاج المعرفي السلوكي على تطوير أو تمييز أفكار أكثر فاعلية تعمل بدورها على الحدّ من مشاعرك المرتبطة بالقلق، وفي النهاية تسهّل انخراطك في السلوكيات اللازمة للتعامل مع الوضع الإشكاليّ الذي تمرّ به.
يهدف العلاج السلوكيّ المعرفيّ من خلال آلية يُطلق عليها اسم “إعادة البناء الإدراكيّ” إلى تطوير قدرة الفرد على تعلّم كيفية التعرف على الأفكار غير المنطقية أو سيئة التكيف ومن ثمّ تحليلها ومناقشتها، مثل التفكير السحري والتفكير العاطفي، وهي أفكار ترتبط عمومًا بالعديد من الاضطرابات العقلية والنفسيّة. وتبدأ هذه الآلية بتحديد الأفكار التلقائية التي تمثّل وجهات نظر سلبية أو هدّامة عن الذات والحياة والمجتمع والمستقبل والعالم وما إلى ذلك.
خذ على سبيل المثال أنّك تعاني قلقًا فيما يخصّ مستقبلك، الأمر الذي قد يطوّر لديك مشاعر خوف من أيّ خطوةٍ قادمة أو تردّد أو قد تجد نفسك أسيرًا للأفكار السلبية من كونك لن تنجح أو أنّ ما هو قادم سيكون سيئًا. تحاول آلية العلاج السلوكيّ المعرفيّ هنا حثّك على تحديد هذه الأفكار أولًا، كأنْ تكتبها أو تسجلها. أو قد يمكنك اللجوء للاستجواب السقراطيّ؛ أي متابعة تفكيرك في عدة اتجاهات لأغراض كثيرة منها: استكشاف الأفكار المعقدة للوصول إلى حقيقةٍ ما أو فتح القضايا والمشاكل أو كشف الافتراضات أو تحليل المفاهيم للتمييز بين ما تعرفه وما لا تعرفه أو متابعة الانطباعات المنطقية لها أو لتنظيم مناقشتها وتحليلها.
يلعب العلاج السلوكي المعرفيّ على وتر عدم اليقين بكونه أحد العوامل التي تغذّي القلق بأنواعه المختلفة
ثم تأتي المرحلة التالية محاولةً استنباط طرق جديدة للتعامل مع المواقف الإشكالية التي تمرّ بها، أي قلقك حيال مستقبلك. فقد تسعى هنا لاكتساب قدرةٍ على التعامل مع ما تمرّ به بحكمةٍ وبفلسفة ما تخبرك أنّ لا شيء يستدعي الخوف، وأنّ تجارب الحياة جميعها تنطوي على مغزىً ما حتى وإنْ لم تكتشفه أو تعرفه على سبيل المثال، أو التعامل مع قلقك على أنه وسيلة مناسبة تدفعك لحلّ مشكلاتك وإتمام مهامّك أو للتركيز على مشكلةٍ بعينها، أو تدريب نفسك على الحدّ من وقت قلقك مثلًا.
كما يلعب العلاج السلوكي المعرفيّ على وتر عدم اليقين بكونه أحد العوامل التي تغذّي القلق بأنواعه المختلفة. فبالنسبة لمعظم الناس فيشكّل عدم اليقين بخصوص العديد من جوانب الحياة مشكلةً حقيقية قد تتطوّر لاضطرابٍ نفسيّ مع الوقت. يرى العلاج هنا أنّ حلّ “عدم اليقين” هو تقبّله وقبوله، والتصالح مع فكرة وجوده لإنفاق طاقةٍ أقل في خوض المعارك غير الضرورية التي نخوضها في حياتنا، دون أن يعني هذا الاستسلام أو الخضوع للواقع.
قد يطلب منك المعالِج مثلًا، بتحديد بعض المناطق في حياتك التي تقبل فيها بالفعل بحالة من “عدم اليقين”: فأنت تفعل ذلك في بعض المواقف، كأنْ تسلك طريقًا جديدًا نتيجة الأزمة المرورية، أو أن تزور مطعمًا جديدًا، أو تقابل أشخاصًا جددًا. خذ لحظةً للنظر في كيفية قبول بعض درجات عدم اليقين في هذه المواقف، وحاول تخيل كيف سيكون وضعك في حال قبلت بهذه الدرجات مع مواقف أكثر صعوبة في حياتك. أو قد يطلب منك المعالِج تخيّل حياتك فيما لو كانت مبنية على اليقين التام، فمن المحتمل أنْ تراها مملةً تمامًا كفيلمٍ تعرف كيفية تطوّر أحداثه ونهايته أليس كذلك؟ وبالتالي يحاول العلاج السلوكيّ المعرفيّ تغيير تصوّرك عن الحياة وخوفك من القادم لعدم تيقّنك منه، من خلال تغيير العديد من الأفكار التي تبنيها بخصوصها.
وتعدّ “جدولة النشاط” إحدى الآليات التي يكثر استخدامها في هذا العلاج، وهي تمرين يساعد الأشخاص على الانخراط في سلوكيات لا ينخرطون فيها بالعادة، من خلال تحديد وقت خلال الأسبوع على سبيل المثال لجدولة سلوكٍ ما وزيادة وتيرته مع الوقت. وكثيرًا ما يستخدم هذا التمرين في علاج الاكتئاب، كطريقة لإدخال السلوكيات النافعة إلى نمط حياة الفرد الروتينيّ.
فالاكتئاب بالنهاية قد يرجع في كثيرٍ من الحالات لغياب السلوكيات والتجارب المجزية والفعّالة، كالهوايات والانخراط في عملٍ ذي مغزى والرياضة ومكافأة الذات، أو حتى سلوكيات حلّ المشكلات والتفكير المنطقيّ لما تمرّ به وتفضيلك لتجنبها وتجاوز تطوراتها. كما يؤدي غياب العديد من النشاطات والسلوكيات إلى شعورك بالعجز والسلبية.
جدولة النشاط هو تمرين يساعد الأشخاص على الانخراط في سلوكيات لا ينخرطون فيها بالعادة يُستخدم في علاج الاكتئاب كطريقة لإدخال السلوكيات النافعة إلى نمط حياة الفرد الروتينيّ.
الطريقة الأساسية للشروع في التنشيط السلوكي النافع هي من خلال مراقبة نشاطاتك وجدولتها. قم بالاحتفاظ بسجلٍ مفصّل لسلوكياتك ونشاطاتك خلال الأسبوع وتتبّع مشاعر المتعة والإتقان المرتبط بكلّ سلوك. يتتبع العلاج السلوكي المعرفيّ هذا النشاط لعدة أسابيع، يحاول فيها المعالِج إمداد المريض بالحماس والتحفيز اللازمين لذلك، إذ قد يكون عاجزًا عن الاستمرار بالتمرين دون مساعدةٍ خارجية.
آليات وتمارين العلاج السلوكيّ المعرفيّ كثيرة آخذة بالتطوّر والزيادة مع الوقت، فإضافةً لما ذكرنا هناك التأمّل الذهنيّ واليقظة التامّة وتمارين الاسترخاء والتنفّس، وآليات التدريب على المهارات الاجتماعيّة بطرقٍ مختلفة مثل تمثيل الأدوار والتخيّل والتدريب على التواصل وغيرها، وهناك آلية حل المشكلات مثل تمارين التخلص من الحالات المزاجية ومحاولة السيطرة على المواقف الصعبة والمفاجئة. وقد أثبتت جميعها قدرتها على علاج حالات القلق والاكتئاب بنسبةٍ تفوق قدرة العلاجات التقليدية أو العلاجات المقتصرة على الأدوية فقط.