في خطوة روسية الهوى، اعترف النظام السوري الموالي لبشار الأسد بكل من جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وحقهما في تقرير المصير بمعزل عن جورجيا، الدولة المتمردة على الدب الروسي، وفي المقابل تحّصل الأسد على اعتراف إضافي بشرعيته وأسس الأطراف الثلاثة لإقامة علاقات دبلوماسية على مستوى سفارة، زعما منهم أن هذه الخطوة تتوج ما أسموه مواقفهم الداعمة لصد العدوان الإرهابي الذي تتعرض له سوريا، وكأن الدولتين تذكرا فجأة المأساة الشامية بعد اندلاعها بـ «8 سنوات» !
وقبل الحديث عن سر الخطورة السورية المريبة من نظام الأسد في توقيت حرج، يلاقي فيه الشعب السوري كل صنوف العذاب داخل سوريا وخارجها بأغلب دول العالم، وبما يجعل هذه الخطوة التي لاقت استهجانا من الاتحاد الأوروبي وأدانها في بيان رسمي أمس، ممرًا جديدًا للتضييق على الشعب السوري المحاصر بكل روث النفايات الإنسانية التي تجهز على حاضره ومستقبله، يجب البحث في التاريخ الانفصالي لأبخازيا وأوستيا، وما الذي جمع بينهما على كره النظام الجورجي، وسر تعاونهما المفاجئ مع نظام الأسد.
أبخازيا
يبدو لافتا للنظر، وجود ندرة في المصادر الموثقة لاستكشاف الكثير من الحقائق عن أبخازيا بالعملاق جوجل، ربما يعود ذلك لابتعاد المنطقة المتنازع عليها بالساحل الشرقي للبحر الأسود، عن منصة الأحداث العالمية منذ ظهور الأنترنت وحشا كاسرا منذ منتصف العقد الأول للألفية الثانية، في حين أن جل الأحداث الساخنة لأبخازيا كانت في بداية تسعينات القرن الماضي، عندما أعلنت استقلالها عن جورجيا عام 1991، وأدى عدم الاعتراف بها أوروبيا وأمريكا إلى عزلها عن اهتمامات العالم.
أبخازيا تبحث عن هوية
كانت خطوة الانفصال تتويح لصراع طويل جورجي أبخازي، في ظل خوف الأولى من تحكم العرق الأبخازي المنضوي تحت علم جورجيا، وهو العاصي والمهجن بواسطة الروس كما كان زعماء جورجيا يصفون الأبخاز دائما في روافدهم الاقصادية، وهو ما حدث بالفعل بعدما سيطرت الدولة الناشئة على نصف سواحل جورجيا القديمة.
تبلغ مساحة أبخازيا 8432 كم²، وتتخذ من مدينة سوخومي عاصمة لها، ورغم إعلان استقلالها رسميا في عام 2008 إلا أنها حتى الآن لا تحظى باعتراف دولي سوى من روسيا ونيكاراغوا وفنزويلا وناورو وحاليا بشار الأسد، ويسود علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي توتر دائم بما أثر سلباً على القطاع السياحي الأبخازي، ومن ثم الاقتصاد بأكمله.
كان بداية صدام الأبخاز مع جورجيا استقلال الأخيرة عن الاتحاد السوفيتي بعكس الأولى التي أيدت الاستمرار تحت علم السوفييت، لتبدأ أولى جولات الصدام والعنف بين الجانبين في عام 1989، وأثر الاشتباكات التي خلفت 16 قتيلا جورجيا شككك الجورجيون في انتماء الأبخاز لبلادهم، واتهموههم بالعمل لصالح روسيا للضغط عليهم، خصوصا في ظل تنامي النزعة الانفصالية لدى الأبخاز بعد تفتت الاتحاد السوفيتي الذي ضمهم إليه عام 1931 .
في مايو الحالي، عُقد اجتماع ثلاثي سري لسفراء أبخازيا وسوريا وأوسيتيا الجنوبية في روسيا، واتفق السفراء الثلاثة على نص البيان وتاريخ إصدراه؛ حسم النظام السوري أمره وقرر تلبية رغبة روسيا وتدعيم علاقته بها إلى جانب التربح من الصراع الجورجي الأبخازي الأوسيتي
في 28 أكتوبر 1989، أعلن الأبخاز الزعيم زفياد غامساخوريا رئيساً، وعمل الرجل منذ بداية ولايته على إنهاء استقلال أبخازيا، وبالفعل أعُلن استقلالها في 9 مارس 1990، وإزاء ذلك تبنت جورجيا سلسلة من العقوبات ولاسيما بعد التصعيد الأبخازي، والتصويت لصالح بقائهم ضمن الاتحاد السوفيتي، وأرسلت جورجيا قواتها العسكرية إلى المنطقة.
اندلعت الحرب بين الطرفين لمدة عام كامل تكبد الجانبان فيها خسائر كبيرة، واستطاع الجورجيون السيطرة على المنطقة لفترة محدودة، ولكن الدعم الروسي للأبخاز سياسيا وعسكريا بجانب القوميات الأخرى مثل الشراكسة وقبردينو وبلقاريا رجح كفتهم، واستطاعوا فرض استقلالهم، ليتهم الرئيس الجورجي آنذاك إدوارد شفرنادزه روسيا بدعم الثوار الأبخاز، بعدما انتهت المواجهات العسكرية بسيطرة الثوار على العاصمة سوخومي عام 1993، مخلفة ورائها حوالي ثلاثين ألف قتيل من الجورجيين، مقابل ثلاثة آلاف قتيل من الأبخاز.
الدرس الجورجي الذي كان سبب إثارة النعرات القومية، تفهمته أبخازيا جيدا ورغم هيمنة الفكر الشيوعي على الفكر السياسي للأبخاز، إلا انهم كانوا أشد حرصا على صناعة برلمان يمثل كامل طوائف الشعب الذي يضم جورجيون وروس وأرمن وأذريون ويونانيون وتتار وغيرهم، وفق نظام ديمقراطي لإدارة البلاد ويقر التعددية الحزبية، والتنافس النزيه في الانتخابات والتداول السلمي للسلطة.
قصة استقلال جمهورية أبخازيا
أوسيتيا الجنوبية
الدولة الثانية في الحلف المفاجئ مع الأسد وتتخذ من مدينة تسخينفالي عاصمة لها، تتحدث بلغة محلية تسمى الأوسيتية وينطق بها حوالي ستمائة ألف شخص، وكالكثير من دول الاتحاد السوفيتي التي انفصلت عنه جيوسياسيا فقط، ولكنها لازالت تدين بالولاء لروسيا، لذا تعتمد الروبل الروسي عملة رسمية لها.
تبلغ مساحتها 3900 كيلومتر مربع، وتقع وسط جورجيا من ناحية الشمال على الجانب الجنوبي من القوقاز، وتفصلها الجبال عن أوسيتيا الشمالية، وتمتد جنوباً إلى قرب نهر متكفاري في جورجيا، ولايزيد عدد سكانها عن 53,532 نسمة، وفق تعددا عام 2015، وينتمي معظم سكانها إلى العرقية الأوسيتية ويدين أغلبهم بالمسيحية، بجانب مسلمون وأقليات دينية أخرى.
الاعتراف السوري بهما في هذا التوقيت بمعزل عن سائر الدول العربية، لم يأت إلا في سياق تسديد بعض من فواتير روسيا الكثيرة
تاريخيا، كانت أوسيتيا تلتحف بالإمبراطورية الروسية، وكانت تخضع لها طوال القرنين الثامن والتاسع عشر، وظلت على وفائها للروس، لذا كانت تشهر معارضتها في وجه جورجيا حتى اندلعت النزعات الانفصالية، وظلت تتزايد عام بعد الأخر، وحصلت بالفعل على استقلالها عام 2008 بعد معارك طويلة الأمد، وبالطبع كان الداعم الأكبر لها في الاستقلال «روسيا».
دخلت أوسيتيا تحت لواء الدولة الجورجية، بعد احتلال الاتحاد السوفيتي للأخيرة عام 1920، إثر نجاح الثورة البلشيفية، لتصبح ضمن نطاق السلطة الجورجية، بينما ظلت أوسيتيا الشمالية تابعة لروسيا، ومنذ ذلك التاريخ لم تكن على وفاق قومي مع جورجيا، فاندلعت المعارك بين الجانبين خصوصا بعد انهيار السوفييت عام 1991.
حاولت جورجيا استمالةالانفصاليين بأوسيتيا، عبر إعرائهم بإعطائهم حكم ذاتي تحت راية جورجيا إلا أنهم رفضوا، فكانت الحرب التي شاركت فيها القوات الروسية إلى جانب قوات أوسيتيا الجنوبية، وانتهت بتقدم روسي إلى الأراضي الجورجية نفسها واحتلال أجزاء منها، قبل أن تتراجع روسيا بعد احتجاجات غربية، وانتهى الأمر باعلان استقلال أوسيتيا عام 2008، واعترفت بها على الفور روسيا وفنزويلا ونيكاراغوا وبعض دول المحيط الهادي غير المؤثرة دولياً.
https://www.youtube.com/watch?v=fGUhSvFDGLs
وثائقي روسي عن أوسيتيا
اعتراف سوريا .. لماذا الآن ؟
معطيات التاريخ الانفصالي للدولتين وتأثيرهما العالمي المحدود، يؤكد أن الاعتراف السوري بهما في هذا التوقيت بمعزل عن سائر الدول العربية، لم يأت إلا في سياق تسديد بعض من فواتير روسيا الكثيرة، والتي تثقل عنق الأسد منذ اندلاع الثورة السورية في 2011 هذا من ناحية، ومن جانب آخر، هي خطوة تعظم ثقة النظام السوري في نفسه أمام أتباعه ومناصريه، بجانب إحياء ثقافة المناورات مع الغرب، التي كان يتميز بها «آل الأسد» طوال العقود الماضية.
وبحسب التسريبات التي خرجت فور إعلان الاعتراف المتبادل، كانت هناك الكثير من العمل الدبلوماسي والسياسي للوصول إلى هذه الخطوة منذ سنوات مضت، وتمت هذه الجهود برعاية الشؤون الخارجية لجمهورية أبخازيا وسفارتها في موسكو، إلى جانب الكثير من الوكالات والممثليات التابعة لها في العالم، والتي تمكنت من تنظيم زيارات متبادلة بين مسؤولين أبخاز وسوريين لإقامة اتصالات وثيقة بين البلدين.
في مايو الحالي، عُقد اجتماع ثلاثي سري لسفراء أبخازيا وسوريا وأوسيتيا الجنوبية في روسيا، واتفق السفراء الثلاثة على نص البيان وتاريخ إصدراه؛ حسم النظام السوري أمره وقرر تلبية رغبة روسيا وتدعيم علاقته بها إلى جانب التربح من الصراع الجورجي الأبخازي الأوسيتي، فالدولة الجورجية بالنسبة له مجرد تابع للغرب والولايات المتحدة الأميركية، وتنصاع لهم بشكل كامل، ولم يستفاد منها إلا عندما قطعت علاقاتها معه، الأمر الذي اعتبره عودة للساحة العالمية، على اعتبار أنه لازال ممثلا شرعيًا لسوريا، وصاحب ثقل وتأثير تستدعي خطواته الدبلوماسية الرد عليها بما يليق بدول وأنظمة، صاحبة سيادة واعتراف واستقلال.