ترجمة وتحرير: نون بوست
على غرار العديد من العائلات في غزة خلال هذه السنة، تواجه أمل للمرة الأولى رمضان من دون ابنها. فقد قُتل إبراهيم الزرقة، الذي كان يبلغ من العمر 18 سنة، على أيدي القوات الإسرائيلية خلال مسيرة العودة الكبرى في 14 مايو/أيار. وفي اليوم الأول من الشهر الإسلامي الفضيل، أصرت أخوات إبراهيم على إعداد طبق شاورما اللحم، المفضل لدى إبراهيم. وفي هذا الصدد، صرحت أمل خلال المقابلة التي أجرتها مع “ميدل إيست آي” في منزلها قائلة: “للأسف، لن يكون إبراهيم حول مائدة الإفطار للاستمتاع بهذه الوجبة”.
عائلة الطوباسي تفتقد ابنها يزن على مائدة الإفطار خلال شهر رمضان
في الواقع، تتذكر أمل كيف كان إبراهيم يجلس حول مائدة الطعام، ويطلق النكات مع شقيقاته الثلاث وأشقائه الأربعة قبل أن يفطر بسرعة عند غروب الشمس. واليوم، أضحى مقعد إبراهيم فارغا حيث أفادت أمل أنه من الصعب عليها تقبل فكرة أن ابنها لن ينضم إليهم بعد الآن. وفي هذا السياق، قالت أمل: “لقد كان لطيفا جدا مع إخوته وخاصة مع أخاه الصغير البالغ من العمر سبع سنوات”.
مع احتفال الملايين من المسلمين بصلوات التراويح والولائم المسائية المشتركة بين العائلة والأصدقاء بعد صيامهم من الفجر إلى غروب الشمس، يثبت الشهر الإسلامي الفضيل أنه يمر بصعوبة خاصة بالنسبة للعديد من العائلات في غزة. في 30 مارس/آذار، أقام الفلسطينيون مظاهرة حاشدة للمطالبة بحق العودة إلى ديارهم في فلسطين التاريخية، خلال الذكرى السبعين للنكبة، أو ما يسمى “بالكارثة”. ووفقاً لأحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة في غزة، قُتل ما لا يقل عن 115 متظاهراً أثناء الاحتجاجات، في حين لا يزال مئات آخرون قابعون في المستشفى ومصابون بجروح خطيرة.
لريم الزرقة ذكريات جميلة حول شقيقها إبراهيم حيث قالت إنهما بمثابة رفقاء الروح
عموما، كان إبراهيم واحدًا من جملة 62 شخصًا قُتلوا برصاص القوات الإسرائيلية في 14 أيار/مايو، وهو اليوم الذي افتُتحت فيه السفارة الأمريكية في القدس، والذي شهد أكبر عدد من الوفيات خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى. وتجدر الإشارة إلى أن غزة لم تشهد يوما دمويا كهذا منذ حرب 2014. ومن جهتها، صرحت المجموعات التي تُعنى بحقوق الإنسان أن إسرائيل بصدد تنفيذ سياسة استهداف المتظاهرين عمدا عن طريق استخدام الرصاص الحي و”القوة المفرطة والمميتة”.
أما الجيش الإسرائيلي، فيصرّ على أن تصرفاته ضرورية لمنع التسلل الجماعي للمتظاهرين والدفاع عن الحدود بين إسرائيل وغزة. في المقابل، قالت المجموعات التي تُعنى بحقوق الإنسان إن العديد من الأشخاص الذين قُتلوا لم يكونوا بأي شكل من الأشكال على مقربة من السياج الذي أقامته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في غزة.
غرفة مُقفلة مليئة بالذكريات
شارك إبراهيم الزرقة، الطالب في إحدى المدارس الثانوية والذي يبلغ من العمر 18 سنة، في احتجاجات مسيرة العودة الكبرى من أجل توثيق الفظائع الإسرائيلية التي يتعرض لها الفلسطينيون فضلا عن مقاومتهم السلمية، على كاميرا الهاتف الخاص به. في هذا السياق، صرح والد إبراهيم، أحمد قائلا: “لطالما حلم إبراهيم بأن يُصبح إما مصوّرا أو محاميا”. ووفقا لأحمد، أصيب إبراهيم برصاصة على مستوى الرأس أثناء محاولته حث المتظاهرين على التراجع حينما كان الرصاص ينهال عليهم.
تم إطلاق النار على إبراهيم الزرقة، البالغ من العمر 18 سنة، برصاص القوات الإسرائيلية، حينما كان يوثق احتجاجات مسيرة العودة الكبرى
في الحقيقة، يتذكر أحمد، وهو مدرس في إحدى المدارس في البلاد، توجيه النصائح لابنه وحثه على الدراسة بدلا من المشاركة في الاحتجاجات. وفي تصريح له على موقع “ميدل إيست آي”، أعلمني أحمد قائلا: “سألت والدته عما إذا كانت تعلم مكان ابنها، لكنه لم يُخبر أحدا أنه سيتوجّه إلى السياج رفقة شقيقه الأكبر، حسام، وأصدقائه الذي يقطنون في نفس الحي”. وأضاف أحمد أنه “على الساعة الواحدة ظهرا، اتصل بي حسام وهو يحاول أن يقول لي شيئاً ما، لكنني لم أتمكن من سماعه جيداً. بعد ذلك، اتصل بي مجدداً وقال لي: يابا، لقد قُتل إبراهيم”.
من جانبها، تتذكر ريم، شقيقة إبراهيم البالغة من العمر 20 سنة والطالبة في طب الأسنان، أنها استيقظت من قيلولتها بسبب نحيب والدها. وفي هذا الصدد، قالت ريم: “أيقظني والدي وهو يردّد عبارة: لقد قُتل إبراهيم. حينها، لم أستطع فهم ما يقول وظللت أردّد أن إبراهيم حيّ وسيعود”. في الواقع، كانت ريم تتحدث باعتزاز عن أخيها وتتذكر بوضوح كيف اعتاد إبراهيم على انتظارها خارج أسوار الجامعة حينما كانت تُجري امتحاناتها وكيف كان يشتري لها الوجبات الخفيفة أثناء عودتهما إلى المنزل، وهم يمزحون ويضحكون سويّة.
يمرّ شهر رمضان كذلك بصعوبة بالغة بالنسبة لآلاء، البالغة من العمر 28 سنة، التي قُتل زوجها شاهر المدهون، البالغ من العمر 32 سنة، أثناء الاحتجاجات التي جدّت في 14 مايو/أيار. حيث قالت أنه”خلال اليوم الأول من رمضان الذي أمضيتُه من دونه، شعرتُ بالكاد بطعم الطعام أثناء الإفطار”.
أوردت ريم قائلة إن “حياتي مع إبراهيم تتمحور حول الذكريات. لقد كُنّا أشبه برفقاء الروح، نفعل كل شيء سويّة. فكلما طلبت منه شيئا، كان دائما ما يلبي الطلب”. وأضافت ريم قائلة: “لا أعلم إن كان ما حدث حقيقة أم خيال، لدرجة أنني طلبت من أمي البارحة أن تطلب من إبراهيم شراء بعض المواد الغذائية لنا، قبل أن أردك بسرعة الحقيقة المرة”. في الوقت الراهن، أُغلقت غرفة إبراهيم وتمت إزالة صوره من المنزل احتراما لمشاعر شقيقته البالغة من العمر 12 سنة. وفي هذا السياق، قالت والدتها: “لم تتقبّل شقيقته بعد حقيقة موته”.
“ما زلت أشعر بالوحدة”
يمرّ شهر رمضان كذلك بصعوبة بالغة بالنسبة لآلاء، البالغة من العمر 28 سنة، التي قُتل زوجها شاهر المدهون، البالغ من العمر 32 سنة، أثناء الاحتجاجات التي جدّت في 14 مايو/أيار. وقد أفادت آلاء أنه: “خلال اليوم الأول من رمضان الذي أمضيتُه من دونه، شعرتُ بالكاد بطعم الطعام أثناء الإفطار”. وتابعت آلاء قائلة: “على الرغم من أن عائلتيْنا كانتا إلى جانبي، إلا أنني ما زلت أشعر بالوحدة”.
قبل أن تغتاله القوات الإسرائيلية، عاش شاهر المدهون مع والدته وزوجته وابنه الوحيد (تم نشر الصورة بإذن من زوجته آلاء)
في منزل متواضع يقع في الشيخ رضوان، وهو حي يقع شمال غرب مركز مدينة غزة، عاش المدهون مع والدته وزوجته وابنه الوحيد. وقد أوردت آلاء قائلة: “إنني أفتقد حقا عودة شاهر إلى المنزل وقوله: أشتم رائحة طعام لذيذ، ماذا طبخت لنا؟”. لقد كان شهر رمضان ذو أهمية خاصة بالنسبة لها ولزوجها، حيث تتذكر كل سنة شراءها لزينة احتفالية رفقة شاهر للاحتفال بالشهر الفضيل. علاوة على ذلك، شملت عاداتهم اليومية تناول السحور (وجبة يتم تناولها قبل الفجر) سويّة كل ليلة، قبل أن يذهب إلى المسجد لصلاة الفجر.
بالإضافة إلى ذلك، كان الزوجان يتحدّيان بعضهما البعض لإنهاء قراءة القرآن قبل نهاية الشهر. وفي هذا الصدد، قالت آلاء: “أتذكر أنه قدّم لي نسخة من القرآن الكريم مع إهداء كتبه خصيصا لي جاء فيه: دعينا نرى من سينتهي أولا من قراءته ويذهب إلى الجنة”.
مفاجأة عيد ميلاد لم تتحقق مطلقا
صرّحت آلاء أنها حاولت هي وزوجها لمدة تسع سنوات الإنجاب، “ولكن ولد طفلنا عبد الله، في نهاية المطاف، في 14 أيار/ مايو سنة 2017 على الساعة الواحدة بعد الزوال وجعل عالمنا أكثر فرحا. وبعد مرور سنة، وفي نفس اليوم والتوقيت الذين وُلد فيهما عبد الله، غادر شاهر العالم”.
تُربي آلاء المدهون طفلها عبد الله، البالغ من العمر سنة، بمفردها بعد أن فقدت زوجها شاهر
على الرغم من أنها لا تزال طالبة تسعى للحصول على الإجازة في الإعلام، إلا أن قوة آلاء وصبرها والإرادة التي تتحلى بها ساعداها على تربية طفلها الصغير بمفردها. لقد كان المدهون المعيل الوحيد لهذه العائلة، وكان قد اشترى آلة طباعة يعمل بها من داخل منزله لكسب لقمة عيشه. وقبل يوم واحد من مقتله، أخبر زوجته أنه أعدّ لها مفاجأة، وطلب منها أن تستعد لعيد ميلاد طفلهما الأول.
في الواقع، لم تعلم بعد زوجته بعد ما الذي كان شاهر قد خطط له، بعد أن اخترقت رصاصة خاصرته اليسرى وثقبت اليمنى. من جهة أخرى، تتذكر آلاء أن “عبد الله اعتاد أن يهرع إلى ذراعي والده عندما يعود إلى المنزل. لقد كانوا يلعبون سويّة حتى يشعرا بالتعب ويناما”.
خلال منشور على موقع فيسبوك، كتبت آلاء: “خلال الفجر الأول بعد موتك، آه يا أبا عبد الله، لقد جعلني طفلنا متعبة للغاية حيث لكم مرارًا وتكرارًا مكانك على السرير بيده الصغيرة، وهو يصرخ “بابا، بابا”. لقد ظلّ يبكي حتى الساعة الثامنة صباحا… وعموما، يبكي عبد الله كل يوم خلال الوقت الذي اعتدت فيه على اللعب معه”.
والدة شاهر المدهون، حليمة، ربّته بمفرده بعدما تُوفّي والده حينما كان يبلغ من العمر 11 سنة
والجدير بالذكر أن والدة المدهون، حليمة كانت قد ربّته بمفردها بعد وفاة والده على إثر نوبة قلبية حينما كان يبلغ من العمر 11 سنة. وتتذكر حليمة لطف ابنها وعطفه عليها. في شأن ذي صلة، أفادت حليمة قائلة: “لقد كان شاهر يزورني كل ليلة ليتأكد ما إذا نمتُ جيداً وما إذا تناولت دوائي”. وأضافت حليمة أن حفيدها، أسوة بوالده، سيكبُر من دون أب.
“شهر رمضان خسر يزن”
كان والد يزن الطوباسي، إبراهيم، يسعى إلى تناول الإفطار مع ابنه كل ليلة خلال هذه السنة. وبالنسبة لإبراهيم، كان جزء من السبب الذي يجعل شهر رمضان مميزا جداً ومختلفا عن بقية أيام السنة، هو اجتماع عائلته المكونة من شقيقين وثلاث شقيقات لتناول وجبة الإفطار قبل أن يؤدوا سوية صلاة التراويح (الصلاة المسائية التي يؤديها المسلمون فقط خلال شهر رمضان). وقد صرّح إبراهيم قائلا: “هذه السنة، خسر شهر رمضان، يزن”.
وُلد يزن الطوباسي، البالغ من العمر 23 سنة، في الأردن وترغرغ في الضفة الغربية وأمضى بقية حياته في غزة قبل أن يُقتل خلال المظاهرات التي جدّت في 14 مايو/أيار (تم نشر الصورة بإذن من إبراهيم الطوباسي)
في 14 أيار/مايو، كانت رصاصة واحدة على مستوى العين، كافية لإنهاء حياة يزن. لقد اخترقت الرصاصة عينه اليمنى وشقت طريقها نحو رأسه. وخوفا على سلامته، أراد إبراهيم من ابنه، البالغ من العمر 23 سنة، أن يظل بمنأى عن احتجاجات مسيرة العودة الكبرى. وعلى العموم، شارك يزن سابقا مرة واحدة في الاحتجاجات في 11 أيار/مايو.
وفي اليوم الذي أُطلق فيه عليه النار، أصر يزن على الاحتجاج. لذلك، رافق إبراهيم يزن وشقيقه، ليتأكد من أنهم بعيدين عن الأذى والخطر. وأثناء وجوده هناك، طمأن وجود عدد كبير من المحتجين إبراهيم وشعر أن المظاهرة كانت سلمية بما فيه الكفاية ما دفعه إلى مغادرة المكان. في الحقيقة، انفصل الشقيقان خلال المظاهرة وأطلق النار على يزن. وقد تلقت عائلته خبر وفاته في تمام الساعة الخامسة والنصف مساء.
قال إبراهيم والد يزن الذي قتل برصاص القوات الإسرائيلية : “قضيت 23 سنة وأنا بصدد تربية ابني الأكبر، لكن رصاصة واحدة كانت كافية لإنهاء حياته، حتى أنه تم منع سيارة الإسعاف من إنقاذه”
“رصاصة واحدة كانت كافية”
ولد يزن في الأردن، وترعرع في الضفة الغربية وعاش بقية حياته في غزة. وقد نزحت عائلته، وهي في الأصل من قرية صغيرة في جنين، من منزلها خلال الحرب العربية الإسرائيلية التي تُعرف باسم حرب الأيام ستة خلال سنة 1967. بعد ذلك، انتقلوا إلى الأردن، المملكة التي وُلد فيها يزن في نهاية المطاف. لم يعش يزن مدة طويلة هناك، حيث انتقلت الأسرة لفترة وجيزة إلى غزة خلال سنة 1994، قبل أن يحصل والده على وظيفة في الضفة الغربية خلال نفس السنة، لينتقلوا مرة أخرى من المكان. خلال سنة 2002، كانت عائلة يزن من بين العائلات التي طُردت إلى غزة بعد الحصار الذي فُرض على كنيسة المهد.
في هذا السياق، صرّح إبراهيم قائلا: “قضيت 23 سنة وأنا بصدد تربية ابني الأكبر، لكن رصاصة واحدة كانت كافية لإنهاء حياته، حتى أنه تم منع سيارة الإسعاف من إنقاذه (بسبب رصاص القوات الإسرائيلية). لقد سقط يزن على الأرض وظل لمدّة 10 دقائق ينزف حتى الموت. وتابع إبراهيم حديثه قائلا: “لقد كنت خائفا من فقدانه. لكننا، للأسف، فقدناه، تاركا وراءه ابنا لم يتجاوز السنتين من عمره لم يسبق له أن التقاه نظرا لأنه كان منفصلا عن والدة ابنه”.
والدة يزان، منال، وهي تحمل ابن يزن وتتذكر جيداً نضالات ابنها
شرح والده أن يزن قضى معظم حياته في العمل كحارس بناية، في محاولة منه لكسب لقمة عيشه. في الأثناء، يتذكر إبراهيم آخر وجبة تناولوها سويّة قبل يوم من مقتله، عندما أحضر يزن بعض الحمص والفلافل لتناولها خلال فطور الصباح. ومن جهتها، تتذكر والدته، منال، نضال ابنها، حيث قالت: “لقد كان يتجول في كل شارع وفي كل زقاق في غزة بحثا عن وظيفة. وفي نهاية المطاف، تحصل منذ خمسة أشهر على وظيفة حارس بناية”.
خلال حديثه عن يزن، قال إبراهيم إن ابنه كان لطيفا للغاية تُجاه إخوته، وجيرانه وأصدقائه. وفي شأن ذي صلة، تلقى إبراهيم مكالمات هاتفية من أصدقاء يزن القاطنين في مختلف البلدان، ليقدموا تعازيهم بوفاة صديقهم. وختم إبراهيم حديثة قائلا: “آمل أن يكون أكثر سعادة في الآخرة بما أنه عاش حياة صعبة”.
المصدر: ميدل إيست آي