في سبتمبر/أيلول الماضي 2016، عاشت مصر أزمة طاحنة بحليب الأطفال، كان الآباء والأمهات يجوبون الشوارع بحثًا عن علبة لبن مدعمة واحدة بعد زيادة الأسعار بنسبة 40%، ووسط حالة غضب عارمة وبطون أطفال يعتصرها الجوع، تخرج المؤسسة العسكرية في ثوب “المنقذ”.
تقع الأزمة المفتعلة – بحسب مراقبين – ثم يدخل على إثرها الجيش للاستحواذ على صفقة استيراد ألبان الأطفال من الخارج مبررًا ذلك بمحاربة احتكار المستوردين، ويعلن المتحدث العسكري السابق باسم الجيش المصري العميد محمد سمير، أن الجيش تعاقد بالتنسيق مع وزارة الصحة على استيراد عبوات حليب للأطفال الرضع.
وبقدر ما كانت أزمة اختفاء ألبان الأطفال المدعمة من أهم مداخل تنبيه المؤسسة العسكرية المصرية إلى الدخول علنًا إلى حيز يحتاج مراجعة جادة، إلا أنها كشفت دورًا واسعًا لوزارة الإنتاج الحربي، انتهى بتنفيذها مصنعها لإنتاج الألبان، سعيًا لتخفيف العبء عن المواطنين، خاصة أن هذه القضية هي أمن قومي، بحسب تعبير الوزارة.
السيسي يجتمع بوزير لإنتاج الحربي اللواء محمد العصار
الإنتاج الحربي.. وزارة ذات طبيعة خاصة
لم يكن نموذج ألبان الأطفال وحده المثار خلال الفترة الماضية، فثمة عدد من النماذج التي شاركت فيها الوزارة، لتُكلل في النهاية بقرار جمهوري (رقم 244 للعام 2018) باعتبار وزارة الإنتاج الحربي من الجهات ذات الطبيعة الخاصة، ولا تسري على الوظائف القيادية والإدارة الإشرافية، أحكام المادتين 17 و20 من قانون الخدمة المدنية، وهو ما يعني اختيار شاغلي هذه الوظائف بتلك الجهات دون التقيد بشرط المسابقة.
بهذا القرار، تصطف الوزارة إلى جانب رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء اللذين شملهما قرار جمهوري مشابه، في 7 من مايو 2015، اعتبر من الجهات ذات الطبيعة الخاصة التي لا تسري عليها القوانين الخاصة بوظائف الإدارة العليا والتنفيذية، والمنظمة وفق أحكام المادتين 17 و20 من قانون الخدمة المدنية.
وبحسب القرار الجديد الذي نُشر بالجريدة الرسمية، الأربعاء الماضي، يُفوَّض رئيس مجلس الوزراء ووزير الإنتاج الحربي ببعض صلاحيات رئيس الجمهورية الجمهورية المنصوص عليها في المادة 21 من قانون الخدمة المدنية، فيما يتعلق بالتعيين في وظائف المستويين الممتازة والعالية بالنسبة لرئيس مجلس الوزراء، ووظائف مدير عام والإدارة الإشرافية بالنسبة لوزير الإنتاج الحربي.
لم يُعرض القرار على البرلمان ـ الذي انحصر دوره في تمرير قرارات السيسي – وإن كانت المناقشة مهمة لفهم عبارة “ذات طبيعة خاصة“ التي لا تنفصل عن عبارة “وزارة سيادية”، وتلك مسميات عرفية، فلا يوجد نص في الدستور أو القانون يفيد هذا المعنى، ما يثير تساؤلات عن طبيعة القرار الذي صدر في السر، ومهمة الوزارة في رؤية الفترة الرئاسية الجديدة التي بدأت اليوم بتنصيب السيسي لدورة ثانية.
الظاهر من القرار أن الهدف منه، أن تكون وزارة الإنتاج الحربي فوق الدولة، وقد جاء القرار مفسرًا معنى “الطبيعة الخاصة”، وهو ألا تخضع الوزارة لأهم مواد قانون الخدمة المدنية الصادر في 7 من مايو/أيار 2015، الذي أثار اعتراضات واسعة في مصر، إذ قال رئيس مجلس إدارة نادي مستشاري النيابة اﻹدارية المستشار عبد الله قنديل في تصريحات صحافية: “هذا القانون سيؤدي إلى انتشار الفساد داخل مؤسسات الدولة”.
وفي هذا الصدد، يسأل الكاتب الصحفي سليم عزوز في مقال له بموقع “عربي 21”: “هل يهدف السيسي إلى خلق إقطاعيات ذات طبيعة خاصة، لها قوانينها، حتى إذا انتهت فترته الرئاسية، ولم يوفق في تعديل الدستور، لضغوط خارجية، يكون قد صنع لنفسه كيانًا يديره، وليصبح هو رئيسه الأعلى، وهذا الكيان ممثلاً في وزارتين، إحداها (وزارة الدفاع) ذات طبيعة خاصة بحكم الأمر الواقع، والثانية ذات طبيعة خاصة بمقتضى القرار الرئاسي؟”.
واللافت في القرار أيضًا هو إعفاء الوزارة من شرط “توافر صفات النزاهة” و”اجتياز التدريب اللازم” في القيادات المختارة، التي تنص عليها المادة الخاصة بالتعيين في الوظائف القيادية والإشرافية، وقد نص القانون على أن يكون التعيين عبر “مسابقة” مُعلن عنها.
عمال ينقلون ثلاجة في مصنع تابع لشركة حلوان التابعة لوزارة الإنتاج الحربي بضواحي القاهرة
“بيزنس” الإنتاج الحربي
مع تغول الجيش المصري وتحوله من لاعب رئيسي إلى لاعب مهيمن على الأنشطة الاقتصادية في مصر، اختلفت التقديرات بشأن نصيبه من النشاط الاقتصادي في مصر بين 40% بحسب تصريح لرجل الأعمال نجيب ساويرس، و60% بحسب منظمة الشفافية الدولية، في حين قال السيسي في ديسمبر/كانون الأول 2016 إنها لا تتعدى 2%.
يمكن التعرف على ماهية القرار الرئاسي من خلال الوقوف على نوعية “البيزنس” الذي تلعبه وزارة الإنتاج الحربي، بعدما اتسع تدخلها في الشأن الاقتصادي المصري، رغم تعارض هذه الأنشطة مع الرؤية والأهداف المنوطة بهذه الوزارة، فبحسب الموقع الإلكتروني للوزارة، رسمت الدولة ممثلة في وزارة الإنتاج الحربي، رؤية لمستقبل الصناعات الحربية في مصر من خلال إستراتيجية تمتد حتى عام 2050.
وبعد أن أصبحت وزارة الإنتاج الحربي تهيمن على عشرات الشركات، بالإضافة إلى المشروعات المسندة إليه من الوزارات والهيئات في مصر كافة، باتت الوزارة كابوسًا يهدد المواطنين والمستثمرين وأصحاب القطاع الخاص، بعد أن كان الإنتاج الحربي حلمًا راود تنظيم الضباط الأحرار منذ 1952، ليس فقط بمفهوم تحقيق الكفاية العسكرية، بل حتى بمنطق تمويل العملية الإنتاجية نفسها، وكانت أولى تجارب الانخراط في بيزنس الدولة “شركة النصر للتصدير والاستيراد”.
ويمكن حصر بيزنس وزارة الإنتاج الحربي والتعرف على نوعية هذا البيزنس، والخروج بملامح عامة لعلاقة الوزارة بسائر مكونات الاقتصاد العسكري المصري، من خلال تجريد تدفقات بيزنس وزارة الإنتاج الحربي خلال الأعوام (2014:2016)، كما أوردها المعهد المصري للدراسات.
بمراجعة نشاط وزارة الإنتاج الحربي نجد أنها غطت قطاعًا واسعًا من الأنشطة الاقتصادية، منها قطاع إنتاج المعدات الإلكترونية كعدادات المياه وكاميرات المراقبة
وبدأت تحركات الوزارة في الاقتصاد المصري بعد الانقلاب العسكري، في عدة اتجاهات بين تأهيل الموارد البشرية وحفر الآبار وصيانة السكة الحديد وإنشاء ملاعب كرة القدم وإنشاء محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بقدرة 1000 ميغاوات ومصنع إنتاج ألواح الطاقة الشمسية.
وبمراجعة نشاط وزارة الإنتاج الحربي نجد أنها غطت قطاعًا واسعًا من الأنشطة الاقتصادية، منها قطاع إنتاج المعدات الإلكترونية كعدادات المياه وكاميرات المراقبة، ومنها ما تعلق بإنتاج أدوات كهربائية مثل تكييف جالانز ومعدات الطاقة الشمسية، ومنها ما تعلق بأعمال المقاولات كحفر الآبار وإنشاء مصنع أدوية السرطان.
وأعلنت وزارة التموين منتصف سبتمبر/أيلول 2016 توصلها لاتفاق مع وزارتي التخطيط واﻹنتاج الحربي يقضي بانتقال مسؤولية منظومة بطاقات التموين الذكية وبطاقات الخبز من وزارة التخطيط إلى وزارة الإنتاج الحربي، كما تشارك أربع وزارات (التخطيط والاتصالات والزراعة والمالية) في مشروع ميكنة بطاقات الحيازة الزراعية للفلاح.
بعض منتجات شركة حلوان للصناعات الهندسية بالقاهرة
وأوضح وزير الإنتاج الحربي اللواء محمد العصار خلال اجتماع للجنة الاتصالات بالبرلمان أن وزارة اﻹنتاج الحربي تشارك أيضًا في مشروع منظومة مراجعة وتدقيق وتسجيل بيانات بطاقة الأسرة لعدد 20 مليون بطاقة لحوالى 80 مليون نسمة، بالإضافة إلى مشروع منظومة الرعاية الصحية لغير القادرين في 27 محافظة لنحو ثلاثة مليون مستفيد، ومشروع منظومة الدعم الفني الميداني للتعداد السكاني بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
وفيما يتعلق بالإنتاج الاقتصادي الصناعي التنافسي، نشرت صحف مصرية عن وزارة الإنتاج الحربي اتجاهها لإنتاج تكييف بتوكيل من شركة “جالانز” الصينية، ولصالحها، عبر تدشين خط إنتاج في مصر، وألمح الخبر أن خط الإنتاج سيبنى داخل مصنع 360 الحربي، كما لفت الخبر إلى أن التكييف المشار إليه سيكون “أرخص جهاز تكييف في مصر”.
جيش البزنس من الصناعات الحربية إلى السلع الغذائية
لطالما دافع الرئيس المصري عن الدور المتعاظم للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد، ويبرر ذلك بأن الجيش يمكنه إنجاز مشروعات كبرى معقدة أسرع بكثير من القطاع الخاص، بينما حذر صندوق النقد الدولي من أن مشاركة كيانات تخضع لوزارة الدفاع قد تعوق تطوير القطاع الخاص واستحداث الوظائف.
وترد الحكومة على شكوى القطاع الخاص من المنافسة المتزايدة من الشركات التابعة للقوات المسلحة بأن كل الشركات تتم معاملتها معاملة متساوية، وتقول إن الجيش يسد ثغرات في السوق مثلما فعل خلال أزمة نقص حليب الأطفال في العام 2016.
ويتزايد تغلغل المؤسسة العسكرية المصرية في الاقتصاد مستفيدة من مزايا وإعفاءات ضريبة، في حين يبدي بعض رجال الأعمال المصريين والمستثمرين الأجانب انزعاجهم لدخول الجيش في أنشطة مدنية، وهم يشكون من امتيازات ضريبية وغيرها ممنوحة لشركات القوات المسلحة.
ويمكن تفسير تنامي دور وزارة الإنتاج الحربي في السنوات الأخيرة من خلال الامتيازات التي حصلت عليها، ففي 2015 أصدر وزير الدفاع مرسومًا أعفى بمقتضاه نحو 600 فندق ومنتجع وغيرها مملوكة للقوات المسلحة من الضرائب العقارية، وفي 2016 منح قانون جديد لضريبة القيمة المضافة إعفاءات للقوات المسلحة وغيرها من المؤسسات الأمني.
تثير الروح الربحية التي تتحرك بها الوزارة تساؤلات عدة عن سبب اقتحام الوزارة أغلب قطاعات الإنتاج على حساب مشاركة القطاع الخاص
كما تحصل شركات القوات المسلحة على إعفاء من رسوم الاستيراد بمقتضى قانون صدر عام 1986 ومن ضريبة الدخل بمقتضى قانون صادر عام 2005، ويُمنع معاينة الشحنات المرسلة إلى شركات القوات المسلحة.
وينص القانون على ألا تدفع القوات المسلحة ضريبة القيمة المضافة على السلع والمعدات والآلات والخدمات والمواد الخام اللازمة لأغراض التسلح والدفاع والأمن القومي، كما توجد قوانين أخرى أيضًا لصالح الجيش.
وتثير الروح الربحية التي تتحرك بها الوزارة تساؤلات عدة عن سبب اقتحام الوزارة أغلب قطاعات الإنتاج على حساب مشاركة القطاع الخاص، وذلك بالنظر إلى أن المواجهة غير كفء، وذلك بسبب تراجع الأعباء التي تتحملها الوزارة من بنود الجمارك والضرائب، ومقابل ريع الأصول العقارية التي استحوذت عليها من الدولة دون مقابل، وكلها اعتبارات تقتل المنافسة.
ويميل الخبراء لتشبيه مصر في هذا الإطار بنموذج الجيش الباكستاني الذي أدى نشاطه الاقتصادي إلى جر الاقتصاد العام لمربع ركود قاس، وبشكل عام يمكن استثناء وزارة الإنتاج الحربي من تدني التكاليف بالاستناد إلى بند الرواتب، وكان العمل على تعميم هذا الإدراك أحد أبرز جهود وزارة الإنتاج الحربي خلال الفترة الماضية.
ويبقى المصطلح الأكثر إثارة – وفق الباحث بمركز كارنيغي للشرق الأوسط يزيد صايغ، – هو “المنافسة البينية” داخل النخبة العسكرية، حيث يرى في تقريره عن “عودة جماعات المصالح العسكرية في مصر” أنه سيؤدي لمزيد من تعقيد البيئة الاقتصادية قانونيًا وإداريًا وسياسيًا بسبب تكاثر الشبكات غير الرسمية من ضباط الجيش والأمن والمتقاعدين الذين يشكلون جزءًا لا يتجزأ من جهاز الدولة وأجزاء من القطاع الخاص، يليهم رجال الأعمال ذوو الحظوة.