هالة من القداسة والإجلال أحاطت بشهر رمضان المبارك في المجتمع العربي منذ تاريخه، فلم يكن شهر رمضان شهرًا عاديًا كأي شهر يعيشه المواطن العربي، إنما هو شهر له من الخصوصية والمكانة ما ليس لغيره من شهور السنة كلها، وقد أطلق العرب على هذا الشهر من الألقاب والمناقب والأوصاف ما يصعب حصره، فمن شهر الخير والبركة والإيمان والتقوى إلى شهر المودة والتواصل والتراحم والتكافل والتسامح والتصالح، ولم تبقَ هذه المناقب حبيسة معانيها اللُغوية بل تُرجمت إلى سلوك اجتماعي يمارسه العرب طوال أيام الشهر الفضيل ولياليه.
كان الناس إذا ما هل عليهم هلال رمضان واستقر في رحالهم يتوسمون الخير ويبتغون الأجر والمغفرة والثواب من الله، في كل باب من أبواب الفضائل، فيتصالح المتخاصمون، ويتوافق المتنافرون، ويتطايب المتجافون، ويتجاوز فيه المحق طوعًا عن المحقوق، ويغفر فيه أصحاب المظالم عن المذنبيين، ويسامح الناس بعضهم بعضًا إكرامًا واحتفاءً بالشهر الفضيل، فكان رمضان فرصة للمجتمع بأطيافه وطبقاته كافة لأن ينهى خلافاته ويتجاوز مشاكله فلا مشاحنة ولا منازعة ولا خصام، فتتصافى القلوب وتتصافح الأيدي وتشرق الوجوه بالابتسامة وتعمر بيوت الخلق بالمودة والتراحم والود والانسجام.
هذه القدسية عززتها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وأكدت عليها نصوصه وشروحه، وقد كان للشهر مكانته عند العرب قبل الإسلام كونه شهر حرام يوقف فيه القتال والنزاع والإغارة ما بين القبائل ويدان بالعار والبوار من تجاوز حرمته وكسر عهد الأمان فيه.
معاني التوافق الاجتماعي في هذا الشهر المبارك لم تنقطع في قطر من أقطار الوطن العربي ولم تضع في أي زاوية من زوايا البلاد الإسلامية، وما كانت تقتصر على المسلمين منهم فقط بل كانت رحمات ذلك الشهر وفضائله تشمل المسيحيين أيضًا وقد كانوا في تقدير وإجلال شهر رمضان حالهم حال المسلمين وفي احترام تقاليده وعاداته ما يصعب به معرفة المسلم من المسيحي.
الحلقات الإذاعية والبرامج التليفزيونية والمسلسلات والمسابقات وما إلى ذلك من أعمال إعلامية تُبث خلال شهر رمضان كانت منضبطة ومتوازنة تليق إلى حد بعيد بالشهر الكريم وتتوافق مع مكانته وحرمته
صور التكافل والتراحم والتعاطف والإحسان في شهر رمضان القديم كانت جلية وواضحة وفائضة بالبر والكرم والإيثار وقد توارثت الأجيال المتلاحقة كثيرًا من الروايات التي تحدثت عن أحوال الناس في تلك الأيام وكيف كان الجيران يرسلون لبعضهم البعض من أطايب ما طهته نساؤهم، وكيف كانت الواحدة من الجارات ترسل لمن حولها من الجيران مما تصنع إذ كان صنيعها للإفطار مميزًا كفطائر أو نوع من الحلوى أو شيء من اللحم لتجتمع على سفرة البيت ألوان من الطعام ما بين مطبوخ بالبيت ومهدى من الجيران وسكان الحي.
وكانت في حينها تصل لبيوت الفقراء والمحتاجين الذين لم يكن فيها ما يُطبخ من أطايب موائد المحسنين ما يسد رمقهم ويحفظ كرامتهم ويغنيهم عن الطبخ والنفخ، ذلك على الرغم مما كانت تعانيه المجتمعات العربية وخصوصًا منها القرى والأحياء الشعبية من فقر وقلة وحاجة وعوز، لكن الكرم والجود عندما يكون أصيلًا في النفس لا تمنعه الظروف ولا تحبسه العازة، يومها كان للصدقة معنى وأثر تلمحه في تحابب الناس وانسجامهم ولم تكن كصدقات زماننا التي جُيرت لخدمة أهداف الساسة واستغلت لترويج أيدولوجيات أرباب الأموال؛ فزادت بها الفرقة وتشعبت بها الخلافات.
الحلقات الإذاعية والبرامج التليفزيونية والمسلسلات والمسابقات وما إلى ذلك من أعمال إعلامية تُبث خلال شهر رمضان كانت منضبطة ومتوازنة تليق إلى حد بعيد بالشهر الكريم وتتوافق مع مكانته وحرمته وكان يجلس إليها كل أفراد العائلة دون أن يُخشى من لفظ بذيء أو قول جارح أو لقطة خارجة، وقد كانت البرامج الرمضانية تعبر عن الذات العربية وعن سمو مستواهم الثقافي والأخلاقي وكانت تقدم ما يتوقعه وما يريده المواطن العربي ولم تكن فيها من خلاعة اليوم وتضليل الرأي وعرض ما لا يجوز والتسويق لما لا ينبغي ولا يصح مما يخدش حرمة هذا الشهر وبركته.
إذ إننا اليوم وللأسف الشديد وقعنا ضحية مسلسلات وأفلام وبرامج لا تصلح للعرض في غير رمضان من شدة ما فيها من انحراف ومجون وألفاظ خارجة ومشاهد غير لائقة فضلًا عن إعدادها لعرضها خصيصًا في شهر التقوى والعبادة!
نظرة متفحصة لمجتمعنا العربي كفيلة بأن تنبئنا بما آلت إليه النفوس والضمائر من خراب وتكشف مدى التراجع الأخلاقي والاجتماعي الحاصل فيها
والأشد سوءًا من ذلك انحراف وجوه من الدعاة الذين رقت لهم قلوب العامة واستحبت كلامهم أفئدة الناس فواحد يروج لدجاج روحاني وآخر لعطر رباني وأحدهم يهاجم شعب فلسطين المغلوب على أمره، ليست المشكلة فيما بدر من هؤلاء الدعاة فهو مردود عليهم وليس في الدين من شيء.
لكن حين ينزلق الدعاة والوعاظ في تلك الهفوات ويسقطون في هذه السقطات وهم المشايخ والقدوات والقامات الدينية التي ينظر إليهم الناس ويأخذون عنهم مناسكهم؛ تنخلع من صدور الناس هيبة الدين وينخدش في نظرهم حرمته ووقاره وتَظهر دموع الوعاظ والدعاة وكلامهم السجي الناعم الذي يتفوهون به بخشوع وإثارتهم عواطف المشاهدين كالسلعة المقصود من ورائها الربح والتجارة لا ابتغاء رضوان الله وإخلاصًا له، فيتجرأ السذج من العوام بسقوط أعلام الدين على تعاليم الإسلام ومنهاجه وينفر الناس في شهر الإقبال على الله من الإسلام ومن التدين وتخبو مكانة الشرع في قلوبهم ويتعكر صفو تعاليم الإسلام في نفوسهم.
نظرة متفحصة لمجتمعنا العربي كفيلة بأن تنبئنا بما آلت إليه النفوس والضمائر من خراب وتكشف مدى التراجع الأخلاقي والاجتماعي الحاصل فيها، من تفشي الكراهية والشقاق وانتشار النزاع والعراك واستمرار ذلك في شهر رمضان دون إبداء أي مراعاة لمكانته وعظمته، وقد صار الأصل في العلاقات بين العرب هو التنابذ والتناحر وصار الاستثناء هو المودة والتراحم، ذلك ليس لشيء في النفس العربية إنما هو نتيجة تأثيرها بسياسات الأنظمة الحاكمة التي ارتكزت على نشر الفتنة وسخرت طاقتها لزرع الفرقة بين أبناء الوطن الواحد من جهة وبينهم وبين دول عربية وإسلامية أخرى من جهة ثانية.
فتجد الناس قد شُطروا أقسامًا من سنة وشيعة، سلفي وإخواني، إرهابي وعلماني، مع النظام ضد النظام، عميل لتركيا وعميل إيران، وتجرأت تحت مبررات واهنة على إيذاء شعوب كاملة فمن حربها على اليمن إلى حصار قطر إلى أزمات السودان إلى مآسي العراق إلى جرائم سوريا إلى تجويع غزة وتضييع القدس وكلها تتنافى مع الأخلاق والدين وتتعارض مع رحمات رمضان وآدابه وأخلاقه.
علام يجمعنا رمضان؟ وكيف ستحلو فيه اللمة؟ وبأي وجه ستلهج الأفئدة بمناجاتها، وقد تطاولت الأفعال اللامسؤولة على الشهر وحرمته؟
أقبح صور التشويه السياسي للآخر تتجلى فيما يعقبه ذلك في نفوس الناس وينعكس في تصرفاتهم فلا تكاد تخلو ناحية عربية من سموم تلك السياسة وشرورها حتى الصفحات الإلكترونية الشخصية طفحت بالسباب والشتائم واتهام المقابل بالقبائح والخيانة حتى صار الواحد يخشى أن يُطلع على سريرة نفسه صديق مقرب أو أن يشير برأيه واعتقاده حتى أمام أهله وخاصته.
علام يجمعنا رمضان؟ وكيف ستحلو فيه اللمة؟ وبأي وجه ستلهج الأفئدة بمناجاتها، وقد تطاولت الأفعال اللامسؤولة على الشهر وحرمته، وجنت الأحقاد على الصيام حتى أفرغته من مضمونه وجوهره، وارتفع الولاء للسلطان فوق كل مقدس وضاعت دونه النخوة والشهامة العربية ونسيت المشاعر الإسلامية السامية والأخلاق الحميدة وتهاون الناس في إحقاق حقوق رمضان وفترت فيهم حرمته واحترامه؟