طالعتنا وسائل الإعلام التركية قبيل الانتخابات البلدية الأخيرة بتصريحات لمسئولين كبار في الحكومة التركية عن اتفاق قريب بين تركيا و”إسرائيل” ينهي حالة القطيعة التي بدأت بين البلدين إثر حادثة سفينة مرمرة الزرقاء عام 2010.
فهل نحن أمام لحظة تاريخية تنتهي فيها حالة الجفاء بين الحليفين السابقين تماماً؟
لا شك أن أسباباً قوية أدت إلى تفكك الحلف القديم بين تركيا و”إسرائيل”، ولا ريب أن عوامل عدة ساهمت في إعادة التقارب بينهما بعدما تلطخت تلك العلاقة بالدماء ، ذلك أن العلاقة الإستراتيجية بين الطرفين، والتي استمر حزب العدالة والتنمية سنوات على إثرها دون أدنى تغيير، كانت تتضمن تعاوناً إستخباراتياً وعسكرياً خاصاً، إضافة للمجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
لكن الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، وخاصة العدوان على غزة عام 2008-2009 أدت إلى ردات فعل قوية من الحكومة التركية برئاسة أردوغان ذي الأصول الإسلامية، تفاعلت في منتدى “دافوس” الدولي بالموقف الشهير مع بيريس، ثم وصلت إلى الذروة بعد اعتداء البحرية العسكرية الصهيونية على سفينة مرمرة وقتل تسعة نشطاء أتراك ، قطعت العلاقات، وتدنى التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى الكاتب الثاني في السفارتين، وألغيت اتفاقات عسكرية ومناورات مشتركة، وسادت حالة من الجفاء العميق بين البلدين، وصلت لتصريحات علنية من قيادات في حكومة نتنياهو باعتبارهم أردوغان عدواً ومناداتهم بضرورة إزاحته عن كرسي الحكم.
كانت تركيا في حينها في موقع القوة، قانونياً وسياسياً، داخلياً ودولياً، ففرضت شروطها الثلاثة (الاعتذار، والتعويضات، وكسر الحصار)، ولم تستعجل ولم تتنازل لسنوات رغم تكرر الوساطات، بل واستطاعت فرض مطالبها باستبعاد الدولة العبرية عن كثير من مناورات واجتماعات حلف الناتو.
في حين كانت الدولة العبرية تعاني من محيط يغلي بتأثيرات الربيع العربي، وتدرك حجم الخطر الناجم عن انتخاب مرسي في مصر وما يعنيه كتغير إستراتيجي في العلاقة مع مصر، وتشعر بانعدام الأمن على حدودها خاصة مع سوريا، مما أشعرها بالحاجة الملحة لترميم العلاقة مع تركيا ولو بدفع ثمن باهظ.
لكن تطورات الأحداث في المنطقة (مصر وسوريا تحديداً) وفي الداخل التركي، إضافة لضغط الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تريد لحليفيها الرئيسَيْن في المنطقة هذا الجفاء، جعلت تركيا أقرب لتوقيع الاتفاق وإن بتعديل بعض التفاصيل في الشروط الثلاثة، وهكذا تلاقى الطرفان على ضرورة جسر الهوة بينهما، بسبب العوامل الإقليمية وضغوط إدارة أوباما.
هنا، بدا لافتاً اكتفاء تركيا باعتذار نتنياهو اللفظي على الهاتف بعد أن كانت تشترط اعتذارا خطياً وعلنياً، كما يبدو أن نتنياهو أعطى فريقه المفاوض على تعويضات عائلات شهداء وجرحى السفينة صلاحيات الوصول لاتفاق بغض النظر عن الرقم، بعد تعنت طال لشهور.
ومع اتفاق جنيف بين إيران والغرب (5+1)، وتطورات المشهد السوري، وازدياد التوتر في الشارع التركي منذ أحداث حديقة “جزي” وما بعدها، وتغير لهجة الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي إزاء تركيا على خلفيتها، ثم ادعاءات الفساد التي لاحقت الحكومة التركية، والحرب الدائرة بينها وبين “التنظيم الموازي” داخل مؤسسات الدولة، يبدو أن تركيا بقيادة اردوغان شعرت بأهمية تخفيف الضغط الخارجي عليها وتحييد بعض الملفات، لتتفرغ للجبهة الداخلية، وهي على مشارف انتخابات بلدية اعتبرتها الأوساط السياسية والإعلامية بمثابة استفتاء على الحكومة ورئيسها من قبل الشعب.
ولذلك، لم يكن مستغرباً حديث أردوغان نفسه قبل الانتخابات بأيام عن وصول ملف التعويضات لنقطة “متقدمة” وقرب التوصل لاتفاق، رغم أنه سبق وأن صرح في أحد المهرجانات الانتخابية قبلها بأسبوعين أن تركيا لن تقبل من “إسرائيل” وعداً لفظياً بكسر الحصار عن غزة، بل يجب أن يكون ذلك ببروتوكول مكتوب وموقع من الطرفين.
ولكن هذا الاتفاق الموعود لم يخرج للنور قبل الانتخابات كما يبدو لسببين: الأول تركي، حتى لا تتأثر شعبية العدالة والتنمية بخبر كهذا إن استثمرته المعارضة، والثاني “إسرائيلي” حيث على ما يبدو فضلت حكومة نتنياهو انتظار نتيجة الانتخابات علها تحمل لها خبراً مفرحاً (تراجع العدالة والتنمية) يجعلها أقوى على طاولة المفاوضات أو ربما يحررها من شروط تركيا (مصادر تركية قالت أن الطرف التركي وقع الاتفاق وأنه على طاولة نتنياهو الذي فضل تأجيله لما بعد الانتخابات).
لكن نتائج الانتخابات التي أعطت تقدماً واضحاً للعدالة والتنمية تعني أننا سنكون على موعد مع توقيع هذه الاتفاق قريباً، وربما قريباً جداً، بما يتضمنه من بنود تتعلق بقطاع غزة، رشح منها تعهدات بالسماح لمنظمات المجتمع المدني التركية بإدخال وإرسال مساعدات للقطاع المحاصر، هكذا، يبدو أن الضغوط التي تعرضت لها الحكومة التركية قد أبعدتها عن التمسك بشرط “كسر الحصار” بعنوانه الواضح باتجاه “إجراءات عملية” لها علاقة بهذا البعد.
أخيراً، تجدر بنا الإشارة إلى نقطتين من الأهمية بمكان فيما خص الاتفاق المذكور:
الأولى، أن إعادة العلاقات بين الطرفين ليست بالضرورة شراَ محضاً للقضية الفلسطينية، ولا تعني أن تركيا ستدير ظهرها للفلسطينيين وتكف عن دعمها لهم. ففي عالم السياسة، قد تفيد العلاقات مع العدو أحياناً أكثر من مقاطعته، بافتراض استثمار هذه العلاقات السياسية والاقتصادية للضغط عليه، ولنا في ذلك عدة أمثلة.
الثانية، أن عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لا تعني عودة الحلف القديم إلى سابق عهده.، فالدم التركي الذي سال، والمحاكمات المستمرة ضد أربعة من كبار جنرالات الجيش “الإسرائيلي” في تركيا، وتغير عقلية الحكم وجهاز الاستخبارات التركية خصوصاً، والعامل الشخصي المتمثل في أردوغان، وتطوير تركيا لصناعاتها العسكرية مؤخراً، كلها عوامل تؤكد أن العلاقات التركية-الإسرائيلية لن تعود يوماً (على الأقل في المدى المنظور وتحت حكم العدالة والتنمية) لسابق عهدها، وتجعل من هذا الاتفاق اتفاق ضرورة أكثر منه اتفاق حلفاء.
طبيب وكاتب فلسطيني وباحث في الشأن التركي