ترجمة حفصة جودة
تصل الشاحنات فارغة إلى مدينة الموصل وتغادرها ممتلئة دائمًا، بعضها محمل بحطام آلاف المنازل المدمرة، وبعضها يحتوي على حمولة أكثر رعبًا حيث تتكدس بقايا أجساد الناس التي عثروا عليها تحت الحطام.
ما زالت الموصل تُخرح موتاها حتى اليوم بعد 10 أشهر من سقوط داعش، فقد أصبحت المدينة القديمة وما حولها متساوية بالأرض بعد القصف الشديد لقوات التحالف الأمريكية والقوات العراقية، ويعمل الحفارون في مناوبات لنقل نحو 10 مليون طن من الأنقاض وينشرون الغبار والشظايا في كل مكان.
غالبًا ما زال حول أجساد مقاتلي داعش الأحزمة الناسفة لكن هناك الكثير من الأبرياء بينهم، فهناك أيدي وأرجل صغيرة تظهر بين الأنقاض، وهناك ما زالت أحد مشابك الشعر الصغيرة ملتصقة بإحدى الجماجم، هذا الدمار في الموصل يعني أن العمل في الأنقاض سيستمر لعدة أشهر قادمة.
الشاحنات تنقل الحطام من على ضفاف نهر دجلة في الموصل
ووفقًا لتقارير إعلامية فقد استعادت قوات الدفاع المدني جثث المئات من أجساد المقاتلين وعائلاتهم، لكن التقرير لم يذكر كيف يقرر أن هذا الشخص أحد أفراد عائلات داعش وليس مجرد مدني أوقعه الحظ في مرمى النيران، إنهم يعتبرون الجميع أعداءً.
يقول العمال إن الكثير من الجثث لا تخضع للفحص وتُوضع ببساطة في مقابر جماعية خارج المدينة، وحتى الحكومة العراقية لا تملك أرقامًا دقيقة عن عدد القتلى في المدينة، في شهر ديسمبر الماضي قدرت وكالة أسوشيتد برس عدد القتلى بنحو 10 آلاف شخص في معركة الموصل، لكن الأرقام الحكومية توقفت عند 1260 قتيلًا.
يقول محمد – 28 عامًا – الذي يعمل في رفع الأنقاض إنه من المتوقع وجود 9000 جثة تحت الأنقاض لكن لا أحد يعلم الرقم الحقيقي تمامًا، ويضيف: “لا يمكننا أن نقول رقمًا رسميًا لعدد الجثث، فقد طلبت منا الحكومة التوقف عن العدّ منذ عدة أشهر، وأخبرونا أن نرسل الجثث فقط إلى المقابر الجماعية خارج المدينة”.
عمليات نهب ممنهجة
وسط كل ذلك ينتشر الحديث عن عمليات نهب يقوم بها الجيش العراقي والشرطة وأجهزة الاستخبارات، هذا النشاط ليس بشيء جديد، ففي عام 2017 قالت هيومن رايتش ووتش إن المنازل جُردت من ممتلكاتها ثم أحُرقت مع دخول القوات العراقية المدينة.
حفار على ضفاف نهر دجلة
يقول أحد ضباط الشرطة إن عمليات النهب تلك ممنهجة، ويضيف: “عندما يدخلون المنازل في المدينة القديمة فهم يعلمون أن هناك أموالًا وذهبًا وأسلحة ولهذا السبب لا يرغبون في وجود الصحفيين معهم، وبعضهم يتشاركون ما نهبوه مع أجهزة الاستخبارات، حتى الأسلحة بعضها تُسلم والأخرى تُباع في السوق السوداء”.
يتم التعامل مع الممتلكات بنفس طريقة التعامل مع الجثث، حيث يقول الضابط: “كانت مهمتي تسجيل قائمة بالممتلكات التي أجدها مثل كمية الأموال ونوع الأسلحة والذهب وأي ممتلكات قيمة، وينبغي أن أسلم القائمة للجيش والمؤسسات الحكومية، وقد حاولت أكثر من مرة تسليمها لكنهم لم يسمحوا لي بالاقتراب، فكتبت تقريرًا عما رأيته والعقبات التي أواجهها فطلبوا من الشرطة المحلية نقلي وتغيير مهمتي، والآن أعمل من المكتب حتى يتمكنوا من النهب دون إزعاج”.
ويضيف الضابط: “قبل 10 أيام أخبرني رجالي أنهم وجدوا في أحد المنازل بالمدينة القديمة صناديق من المال، وأن هذه الأموال تقاسمها أفراد من الدفاع المدني مع أفراد من المخابرات، ولم يتم الإبلاغ عن كمية المال على الإطلاق”.
لا تستطيع أي مؤسسة صحفية إثبات عمليات النهب تلك وأي محاولة لإثباتها تؤدي إلى طرد المتعاونين في ذلك، فبعد عمليات الحفر لمنزل أحد قادة داعش وبمجرد أن يبدأ العمال في دخول المبني يُمنع الصحفيون من الدخول.
طفل عراقي يقف على أنقاض مبنى في مدينة الموصل القديمة
يقول الضابط: “إنهم يعلمون أين يبحثون تمامًا فلديهم خريطة لمنازل قادة داعش وهم يفترضون أنها تحتوي على كنوز بداخلها، أما عملية استعادة الجثث فهي مجرد ذريعة للنهب، فلا أحد يهتم حقًا بعدد القتلى في الموصل وما يهمهم هو العثور على كنوز داعش”.
الشعب يحمي المدينة
في أحد البيوت التي كان يملكها صدام حسين شرق الموصل، يجلس نجم الجبوري رئيس قوات الأمن في محافظة نينوى، ويقول الجبوري: “المشكلة الرئيسية التي نواجهها اليوم هي إعادة الإعمار، فقد انتهينا من خطوتين رئيسيتين وهما تطهير المدينة من داعش واستعادة الأمن، وبقى لدينا مهمة ثالثة وهي إعادة بناء البيوت والمدارس والمحال والبنية التحتية، وعندما نحقق ذلك ستبدأ المدينة بالعودة إلى حالتها الطبيعية”.
ويضيف: “أما أمن المدينة فهو ليس مهمة الجيش فقط لكنه مهمة المواطنين، فإذا كسبنا الناس فإننا نكون قد كسبنا الحرب، والآن معظم المواطنين في صفنا والعلاقات بينهم وبين قوات الأمن جيدة لكنهم بحاجة فقط لبعض التشجيع”.
مقاتل عراقي يقوم بدورية جنوب الموصل
لكن في شوارع المدينة القديمة ما زال هناك الكثير من الخوف وانعدام الثقة لأسباب وجيهة، فالمواطنون ينتظرون انتهاء أعمال الحفر للوصول إلى منازلهم واستعادة ما يمكن استعادته، وفي القانون العراقي يجب على المواطنين استعادة جثث أقاربهم الموتى حتى يتمكنوا من الحصول على شهادة وفاة من الحكومة وأوراق أخرى تثبت أنهم ليسوا من داعش.
أما هؤلاء الذين لم يستطيعوا الحصول على تلك الأوراق فلن يستطيعوا الحصول على الطعام والمساعدات الغذائية حتى يتمكنوا من إثبات أنهم ليسوا على علاقة بداعش، يقول أحد كبار السن: “هناك من يأتي ليسرق الموتى فدون الجثة لن تتمكن من الحصول على شهادة وفاة وتظل عالقًا، ودون الوثائق لن تحصل على ختم المخابرات وبالتالي لن تحصل على الطعام، لذا يسرق الناس جثث الموتى للحصول على الختم ومن ثم الطعام”.
كان هناك مواطن آخر يبحث بين أنقاض منزله السابق للعثور على أي شيء لم يتعرض للنهب ويقول: “إنهم يرغبون في سرقة ممتلكاتنا ودائمًا ما يفعلون ذلك”.
المصدر: ميدل إيست آي