لا يمكن للطفل البالغ من العمر عامًا أو عامين أن يتعلم القراءة والكتابة، فمن المعتاد أن يدخل المدرسة في سن الخامسة تقريبًا لكي يبدأ في التعرف على الحروف والكلمات المطبوعة، إلا أن هذا لا يبدو صحيحًا بشكل كامل، بعد أن أثبتت الدراسات التي خصصت للبحث بشأن الفهم الإدراكي للأطفال، أنه يمكن تعليمهم القراءة والكتابة في بداية سنواتهم الأولى في الحياة ولا داعي للانتظار لعمر دخول المدرسة لكي يتعلم الطفل ذلك، في برنامج يُعرف بمحو الأمية للأطفال الناشئين.
الأمي الناشئ مصطلح يُطلق على صقل المهارات المعرفية للطفل الناشئ في أول بضع سنوات من عمره، مثل مهارات القراءة والكتابة، من خلال بداية التعرف على الكلمات والتعرف على معاني مفردات معظم الأشياء حوله من أجل أن يُظهر تطور مبدئي في مهاراته المعرفية من خلال العناصر الأساسية للقراءة والكتابة، مع وجود الحافز وهو الرغبة في التعلم، وأخيرًا من خلال مهارات التعرف على الكلمات المطبوعة بالإضافة إلى مهارات السرد وهي القدرة على وصف الأحداث وسرد القصص.
اتبع كثير من الآباء الطريقة التقليدية في صقل المهارات المعرفية لدى الأطفال، من خلال التعرف على الصور وإعادة تهجئة الكلمات مرارًا وتكرارًا على مسامع الأطفال مع الانتظار حتى يصل الطفل إلى المرحلة العمرية التي تسمح له بدخول المدرسة ليبدأ حينها صقل مهاراته المعرفية بشكل حقيقي من المعلمين، إلا أن الباحثين أثبتوا لهؤلاء الآباء أن تطور المهارات المعرفية يبدأ قبل أن يبدأ العمر المدرسي في مرحلة توصف بالتعليم المُبكر للأطفال.
ما الذي يحدث داخل دماغ الطفل حينما يشاهد فيلمًا للرسوم المتحركة؟
من أكثر الوسائل الشائعة لدى الأهل من أجل تطوير مهارات الطفل الإدراكية سواء كانت البصرية أم اللغوية أم المعرفية مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة أو المعروفة بأفلام الآنمي، وساعدهم في ذلك تنوع القنوات التليفزيونية التي تتنافس فيما بينها على عرض مختلف العروض والأفلام التي تجذب انتباه الأطفال من كل الأعمار، ودون الخوض في مدى فعالية تلك الأفلام بالنسبة لمهارات الطفل المعرفية والقدرات الإدراكية قرر الباحثون في علم طب الأطفال إجراء أشعة رنين مغناطيسي على الدماغ بينما يكون الطفل منشغلًا بالانتباه للصوت الذي يقرأ له القصة أو لفيلم الرسوم المتحركة المعروض.
كان الهدف الأساسي من تلك التجربة كشف نشاط دماغ الطفل والمناطق التي تكون نشطة من الدماغ والمناطق التي تتواصل مع بعضها في أثناء فعل نشاط عقلي معين، وهو في هذه الحالة مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة أو الاستماع لأحدهم يقرأ عليه قصة أو الاستماع لكتاب مسموع.
كان السؤال الذي يحاول الباحثون الإجابة عنه من خلال تلك التجربة هو ما المناطق في الدماغ التي تتأثر حينما نحاول تطوير المهارات المعرفية لدى الطفل من خلال أفلام الكرتون أو قراءة الكتب؟ هل هي المناطق المسؤولة عن المهارات البصرية أو “الإدراك البصري” أم المسؤولة عن الإدراك اللغوي أو الصور المرئية التي وصفها باحثو الدراسة بأنها الوضع الافتراضي لشبكة الدماغ؟
الوضع الافتراضي للدماغ هو الوضع الذي يُظهر حالة الدماغ في وضع عدم الانخراط في نشاط عقلي فعال، ويعني في سياق آخر مناطق الدماغ التي تبدو أكثر نشاطًا من غيرها حينما لا يكون الشخص – أو في هذه الحالة الطفل – في حالة تركيز في نشاط عقلي يتضمن العالم الخارجي المحيط به.
لا يبدو أن الرسوم المتحركة أو قراءة الكتب بصوت مسموع تُجدي نفعًا في تطوير قدرات الطفل المعرفية في سن مبكرة
أوضح الباحثون النتائج التي أظهرتها الأشعة في حالة اندماج الطفل للاستماع إلى صوت قراءة كتاب أو قصة ما أن الطفل يُجاهد في محاولة فهم الكلمات، أي يكون الجزء الوحيد النشط هو الجزء الخاص باللغة دون الاتصال مع بقية أجزاء الدماغ ووجود عجز في تكوين اتصالات بين عدة مناطق من الدماغ في الوقت ذاته الذي يحاول الطفل فيه فهم الكلمات التي تُقرأ له، وهو النشاط الذي وصفه الباحثون بأنه “شديدة البرودة” بالنسبة للطفل، ويعني غير مجد بشكل كاف.
أما في حالة مشاهدة أفلام الكرتون أو أفلام الرسوم المتحركة، كان هناك نشاط ملحوظ في مناطق الإدراك البصري في الدماغ دون ملاحظة تواصل نشط بين مناطق الإدراك البصري ومناطق الدماغ الأخرى التي وصفها الباحثون بأنها “شديدة التعقيد” بالنسبة للهدف الأصلي من تطوير مهارات الطفل الإدراكية وسلوكه المعرفي، وذلك لأن الرسومات المتحركة تُقدم كل شيء للطفل دُفعة واحدة دون الحاجة للطفل أن يُشغل أجزاء دماغه المختلفة لمحاولة فهم ما يراه أمام عينيه، وبالتالي تكون فشلت في تحقيق هدف تطوير السلوك المعرفي لدى الطفل بل وأحيانًا تجعله أكثر كسلًا قبل أن يبدأ في مشاهدتها.
يحاول الأهل وخصوصًا المنشغلين منهم بأعمالهم الاعتماد على الرسومات المتحركة كوسيلة لإلهاء الطفل وإبقائه هادئًا وساكنًا في مكانه، معتقدين أن الرسومات المتحركة قد تطور قدراته اللغوية وتُعلمه مفردات جديدة وتقوي من إدراكه البصري وتربط بين الصور والكلمات المنطوقة ليتكون لديه حصيلة كافية من المعلومات التي لن يحتاج الآباء أو الأمهات وقتًا كثيرًا لتلقينه إياها.
اكتشف العلماء أن ما يحدث هو العكس تمامًا، تقدم أفلام الرسوم المتحركة كل شيء دفعة واحدة للطفل بحيث لا يضطر للتفكير في أي شيء يضطره لحل لغز ما أو يضطره لفهم شيء مُعقد بالنسبة إليه، حيث يكون الأمر كما وصفه باحثو التجربة في عبارة واحدة “تُنجز الأفلام العمل كله بدلًا من الأطفال” بحيث لا تترك لهم مجالًا للمشاركة.
ما الذي يحدث في دماغ الأطفال حينما يرون صورة؟
أوضح الباحثون أن الطريقة التي جعلت عدة أجزاء من دماغ الطفل تتواصل مع بعضها البعض بما فيها الأجزاء الخاصة بالإدراك البصري واللغة وكذلك الوضع الافتراضي للدماغ هو تقديم الصور للأطفال ومحاولة جعلهم أنفسهم فك لغزها مع قليل من المساعدة الخارجية، نتحدث هنا عن تلك الصور الموجودة في الكتب التي تسرد القصص أو المفردات من خلال الصور التفسيرية التي توضح ذلك دون الحاجة للكلمات، أو الاستماع إلى صوت مسموع، أو مشاهدة مجموعة من الرسومات المتحركة.
مشاهدة الرسوم المتحركة لفترات طويلة قد تضعف من قدرة الطفل على تطوير قدرات دماغه واتصال أجزاء مختلفة منها في الوقت نفسه
وجد العلماء والباحثون في تلك التجربة أيضًا أن المهارات البصرية والوضع الافتراضي للدماغ تتطور في عمر ما بين الثالثة والخامسة في الأطفال، ويحتاج الأمر إلى التدريب والتمرين لجعلها تتوافق مع أجزاء الدماغ الأخرى لتُحقق اتصالًا فعالًا معها في النشاطات العقلية المختلفة، ووجود الرسوم المتحركة بشكل يومي ومستمر أمام الأطفال يجعل من الآباء والأمهات يهملون فرصة تنمية مهارات الدماغ المختلفة في عمر حرج بالنسبة للطفل، مما يرفع من نسب احتمالية أن هؤلاء الأطفال لن يستطيعوا تطوير مهارات تواصل قدرات الدماغ المختلفة في الوقت ذاته.
هناك توصية أخرى من باحثي التجربة، وهي اعتماد الأهل على ما يُعرف بالقراءة الحوارية، وهي نوع من أنواع القراءة يتطلب قربًا جسديًا بين الأهل والطفل، مثل القراءة للطفل بينما يجلس في أحضان القارئ، ومحاولة حث الطفل على المشاركة في القراءة بدلًا من تلقينه إياها تلقينًا، واستخدام أسئلة تحفيزية مثل “أرني القطة في الصورة”، وبهذا يكون الآباء وصلوا إلى الحالة المثالية لتطوير القدرات المعرفية لدى الطفل في سن مبكر بدلًا من الاعتماد الكامل على الرسوم المتحركة فقط أو تلقينه القصص فقط.