منذ السابع من أكتوبر الماضي يقف الأردن على الحافة، حافة التهجير أو حافة الغضب الداخلي، وتغلي حدود نهره اشتعالًا بين الفينة والأخرى بما يتم تناقله من رصد لعمليات تهريب أو اقتناص لمقاومين، ثم لا تلبث الأحداث أن تطوى وتعتَّم، لكن مع اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، والتهديد الإيراني بضربة “قاسية لعمق الكيان”، عاد إلى وضعية المنتصف، تمامًا كما في أبريل/ نيسان المنصرم إبّان الضربة الإيرانية الأولى، لكن هذه المرة وقع في حرج “المكشوف” تمامًا أمام عمقه العربي والفلسطيني، والمقيَّد باتفاقياته الأمنية والسياسية.
وأمام إدراك النظام الأردني لوطأة عقدة المنتصف ما بين المكشوف والمقيَّد، قرر أن يغيّر تكتيكاته الدبلوماسية قليلًا استباقًا لضربة قد يناله من شظاياها ما ينال، أو لطوفان آخر قد يكون فيه أول الغارقين، لينطلق وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في جولة مكوكية كان المفاجئ فيها زيارته لإيران.
وما بين الرابع والخامس من أغسطس الحالي، تركزت عدسات الإعلام على إيران ترصد لقاءات الصفدي بمسؤولين ووزراء إيرانيين، وتنقل تصريحات هنا وهناك، ونظرات عيون الصفدي التي تراوحت ما بين الدهشة والصدمة في لقائه بنظيره الإيراني علي باقري، وفيما تناقلت مصادر إيرانية “مسؤولة” 3 رسائل نقلها الصفدي من ملك الأردن عبد الله الثاني وقادة أمريكا و”إسرائيل”، نفي الصفدي ذلك مؤكدًا أن الرسالة الوحيدة لـ”إسرائيل” تم إعلانها من عمّان بوضوح وصراحة: “أوقفوا العدوان على غزة”.
تضارب الروايات لم يقف عند حدود الرسائل فقط، بل تعداه إلى شكل الزيارة، ففيما أكد الصفدي أنه “يلبي دعوة طهران لزيارتها”، ذكر بيان لوزارة الخارجية الإيرانية أن زيارة الصفدي إنما هي “نقل رسالة من الملك عبدالله الثاني إلى الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان حول الأوضاع في المنطقة والعلاقات الثنائية”.
هذه الضبابية في ملامح الزيارة النادرة، والتي لم تكن لتتم لولا التهديد الإيراني الأخير، سلطت الضوء على موقف الأردن الذي يزداد تأزمًا منذ السابع من أكتوبر، بفعل استمرار حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، مقابل المزيد من المؤشرات الصريحة على حمايته أمن الاحتلال لوجستيًا وأمنيًا واستخباراتيًا وعسكريًا.
وذلك بدءًا من قمعه المسيرات الشعبية ومنع التحامها بسفارة الاحتلال أو وصولها إلى الحدود مع الكيان، مرورًا بكثافة مراقبته لأي جهد مقاوم من تهريب أو تدريب يمرّ أو ينطلق من أرضه مستهدفًا الاحتلال، وأخيرًا بتصديه في أبريل/ نيسان المنصرم للصواريخ الإيرانية الموجهة صوب عمق الاحتلال، في أداء عسكري جوبه بغضب شعبي عارم وبارتياح وثناء إسرائيلي فاضح، شابته الشائعات المهددة لمكانة الأسرة الملكية الحاكمة.
وفي ضوء العزم الإيراني المعلن بتوجيه ضربة جوية جديدة لدولة الاحتلال، تتبع السطور التالية تاريخ معضلة الأردن الجغرافية والسياسية، من حدوده المشتركة مع دولة الاحتلال التي تضعه في الواجهة والمواجهة مع كل ما يمسّ أمن الاحتلال، إلى معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية وما يرتبط بها من التزامات أمنية وعسكرية، تخلّ ولا شكّ بدوره كظهير شعبي واجتماعي وتاريخي للفلسطينيين ووصي على الحرم المقدسي، وتلقي بتأثيرها على الوضع الداخلي والشعبي لديه وعلى استقرار نظام الحكم الملكي فيه.
في البدء كان وادي عربة
بانتهاء عام 1967 كانت الحدود بين فلسطين المحتلة والمملكة الأردنية الهاشمية قد تحددت، لكن المناوشات ظلت قائمة على الجانبين لتشتدَّ نيرانها مع معركة الكرامة ووجود قوات الثورة الفلسطينية على الضفة الشرقية من النهر، حتى أيلول الأسود 1970 حين أصبح وجود الثوار الفلسطينيين مهددًا للاستقرار السياسي وسلطة الملك حسين بن طلال، لا سيما أن وجودهم أضحى “دولةً داخل دولة”.
خلال بداية السبعينيات ومنتصف العام 1988، كانت التغيرات السياسية العربية والدولية مثل حصول المنظمة عام 1974 على اعتراف بها كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، ومعاهدة كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل” عام 1968، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، قد دفعت الأردن بعيدًا عن الفلسطينيين، حتى اتخذ النظام الأردني قراره بفكّ الانفصال عن الضفة الغربية منتصف عام 1988.
وبينما كانت منظمة التحرير تجري مباحثات أوسلو مع الإسرائيليين عام 1993، كان النظام الأردني يستشعر خطر مطالبة قيادات المنظمة بتمثيل كامل الشتات على طاولة المفاوضات، وهو ما يمسّ بالأردن بشكل أساسي نظرًا إلى وجود 40% من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه.
هذا الاستشعار وفقدان الحلفاء في ظل حصار نظام صدام حسين في العراق، ونأي الدول الخليجية عن الأردن في أزمته الاقتصادية إبّان الحرب الخليج الثاني، وانضواء مصر تحت الحلف الأمريكي والسلام الإسرائيلي، دفع الأردن للسير في ذات طريق منظمة التحرير.
إثر عدة محادثات، دخل الملك حسين بن طلال نادي “سلام الشجعان” بتوقيعه اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية التي سُمّيت “اتفاقية وادي عربة” في الربع الأخير من عام 1994، حيث اشتملت الاتفاقية بنودًا أساسية مثل الاعتراف المتبادل بالسيادة، واحترام الدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن المقدسة الإسلامية في القدس، وعدم السماح بأي تحركات قسرية للسكان ضمن مناطق نفوذهما بما قد يؤثر سلبًا على الطرف الآخر.
أما أبرز البنود الأمنية فهي المادة الرابعة التي تتضمن اتخاذ الإجراءات الضرورية لمنع أي أعمال عدائية أو تخريب أو عنف ينطلق من أراضي وأجواء إحدى الدولتَين تجاه الأخرى، والامتناع عن الدخول في أي ائتلاف أو تنظيم أو حلف ذي صفة عسكرية أو أمنية مع طرف ثالث أو مساعداته أو الترويج له، إذا كان يهدف إلى شنّ عدوان أو أية أعمال عدائية عسكرية ضد الطرف الآخر.
ورغم الرفض الشعبي ومظاهر التصادم مع المعارضة، انطلق العمل في الاتفاقية في مجالات السياحة والتجارة والتنسيق السياسي والأمني والثقافي، ولم يضعف الاتفاقية سوى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق رابين في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995، ليخلفه بنيامين نتنياهو الذي صعد إلى الواجهة السياسية بعد انتخابه رئيسًا لحزب الليكود عام 1993 ليصبح زعيمًا للمعارضة، ومن ثم رئيسًا للوزراء في انتخابات عام 1996، ليكون أول رئيس وزراء إسرائيلي ينتخَب مباشرة عن طريق التصويت الشعبي، وأصغر رئيس وزراء إسرائيلي على الإطلاق، والأكثر تطرّفًا كما سيظهر لاحقًا.
في خضمّ حقبة الملك حسين، وإبّان فترة الحكم الأولى لبنيامين نتنياهو عام 1997، أقدم الموساد على محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي في حركة حماس آنذاك خالد مشعل، وبينما فشلت المحاولة استطاع الملك استخدام اتفاقية وادي عربة لصالحه، والإفلات من سعي “إسرائيل” لتهميش سيادته بتحقيقه لمكاسب شعبية وسياسية كبيرة على حسابها، رسّخت له مكانته الرسمية والسياسية في قلب القضية الفلسطينية، من خلال إجبار “إسرائيل” على الإفراج عن الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ أحمد ياسين، والحصول على اعتذار إسرائيلي علني.
بعد وفاة الملك حسين، وتقلُّد نجله البكر عبد الله مقاليد الحكم عام 1999، اتجه الملك عبد الله نحو تدعيم أُسُس حكمه بتقييد كل ما من شأنه توتير علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية أو التأثير على سير اتفاقياته مع “إسرائيل”.
وكان أبرز ما قام به إغلاق المكتب السياسي لحركة حماس وإبعاد قياداتها عن الأردن، لتغدو العلاقة الرسمية بين الأردن والفلسطينيين مستدخلة فقط من باب السلطة الفلسطينية، ولتثبت جدوى إنهاء وجود حماس بالنسبة إلى النظام الأردني إبّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين بقيَ الزخم الشعبي على “نوعيته وتميزه أردنيًا” محصورًا ومحدودًا ومسيطر السقف، في ظل غياب أذرع حماس الاجتماعية والسياسية وأدوارها كمحرك دوري للشارع الأردني في علاقته مع ميدان المقاومة الفلسطيني.
خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005) برزت سياسة الملك عبد الله في التعامل مع تحديات القضية الفلسطينية بشكل واضح، لا سيما مع محاولات حزب الليكود الإسرائيلي الحاكم حينها تجاوز بنود الاتفاقية وترويج الأردن كوطن بديل للفلسطينيين.
ومع الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاه من موجة كراهية غربية للآخر العربي المسلم الشرق أوسطي، وبدء الحرب على أفغانستان والعراق، عمد النظام الأردني إلى النأي ببلده عن الانخراط بما يوتر علاقته بحلفائه أو يثير القلاقل شعبيًا وداخليًا، حذرًا من خطوات قد تحيله إلى أثمان باهظة دفعها سابقًا إثر انخراطه إلى جانب العراق في حرب الخليج الثانية، ومستبصرًا واقع الأردن ومحدودية موارده وقدراته التي تجعل الاقتصاد فيه عاملًا مؤثرًا في السياسة.
حيث يواجه الأردن معدل بطالة يبلغ 21.9% ودينًا عامًّا يبلغ 56 مليار دولار، وصل إلى 115% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول مايو/ أيار 2023، ومدركًا في الوقت ذاته أن الاعتماد على دعم وإسناد عربي لمواجهة ما يتهدد الأردن عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا سيكون بلا طائل، أو مدفوع الثمن في أرصدة أخرى.
هذه المحددات دفعت المستوى الرسمي في الأردن إبّان الانتفاضة الثانية إلى التزام خطّ التهدئة وخفض التوتر وإدانة التصعيد والعنف، من خلال جولات دبلوماسية مكوكية عربيًا ودوليًا، بما يضمن للأردن التحرك على مختلف المستويات دون دفع استحقاقات أو الوقوع في عواقب أكبر من قدرة تحمله.
وعلى المستوى الشعبي أيضًا تمّ حصر الأنشطة الشعبية بما لا يتجاوز الدعم الاجتماعي المادي، والمظاهرات محددة المسار والخاتمة، وحملات التبرع بالدم وزيارة الجرحى في المشافي، وبهذا خرج الأردن من موجة الانتفاضة الفلسطينية الثانية بأقل قدر من الخسائر والاستحقاقات سياسيًا على الأقل.
الأردن – فلسطين، الأردن – “إسرائيل”
من خلال تتبُّع العلاقة الأردنية الفلسطينية ما بين الانتفاضة الأولى والثانية، وبالنظر إلى تغيُّر رأس النظام الأردني ما بين الملك حسين وابنه الملك عبد الله، يظهر أن العلاقة الأردنية الفلسطينية قد اتسمت برتم معزز من التوافق بُعيد توقيع الفلسطينيين اتفاقية أوسلو والأردنيين اتفاقية وادي عربة مع دولة الاحتلال، حيث وجد الأردن في اتفاقية أوسلو تأكيدًا لوجود واقعي لنظام فلسطيني يحمل عنه عبء سكان الضفة الغربية وأزماتهم، وإمكانية إحالتهم إلى سلطته وحدوده.
وإن كانت اتفاقية أوسلو باستحضارها لمنظمة التحرير في مواجهة عمّان على الضفة الأخرى قد سبّبت إرباكًا وخوفًا أردنيًا، من أن الدعم الدولي والأمريكي والإسرائيلي المتعاظم سيؤدي إلى تآكُل نفوذ الأردن على حساب إرضاء الفلسطينيين، فإن مراوحة الاتفاقية مكانها وغياب تطور حقيقي في سيادة وسيطرة السلطة الفلسطينية، وازدياد الاستيطان مقابل ظهور طبقة كومبرادور فلسطينية سياسية واقتصادية، أعطى إشارة للنظام الأردني أن السلطة أضعف من أن تتمرد على الظهير الأردني، بل إنها بحاجة إلى إسناده مقابل التطرف الإسرائيلي المتعاظم.
كما لعبت شخصية الملك عبد الله دورًا كبيرًا في انتقال العلاقة السياسية من التحدي والتنافس إلى التبني والتضامن، لا سيما أنه استلم الحكم متحللًا من أعباء الماضي الذي جمع والده وعمه (الأمير الحسن الذي كان وليًا للعهد) بالمنظمات الفلسطينية.
وإن كان قد لزم حيزًا من نهج والده فإنه طوّر مقاربة جديدة فيما يتعلق بالفلسطينيين تنطلق من 3 محددات. الأول تأكيد الثوابت الأردنية بما لا يهدد الأردن ولا يهدد الفلسطينيين؛ والثاني السعي نحو حل الدولتَين على أمل أن يكون الفلسطينيون بكيانهم مصدًّا يحفظ كيانية الأردن؛ أما الثالث فهو الإبقاء على قناة سياسية واحدة تجمع الأردن بالفلسطينيين هي السلطة الفلسطينية فقط.
تعزز المحدد الأخير بسلوك كل من أعضاء المكتب السياسي لحماس في الأردن، ومن ثم الإخوان المسلمين، الذين لم يدركوا أن “المونة” العشائرية والاجتماعية التي كانت تحكم عهد الملك حسين قد انتهت، ما أدّى إلى إنهاء وجود حماس في الأردن، وسلسلة من التغيرات في نظام الإخوان وقياداته تسبّبت لاحقًا في خفوت نجمه مقارنةً بفترة الثمانينيات.
وهو ما رفع علاقات الأردن بالسلطة الفلسطينية إلى مستوى جديد، واضعًا كل مدخرات الأردن السياسية والإقليمية في سلة السلطة الفلسطينية، باعتبارها شريكًا في عملية السلام، وجزءًا من حل الدولتَين على النقيض من حماس، ونظامًا سياسيًا لا تجرّ العلاقة معه أي تبعات اقتصادية أو أمنية.
والحقيقة أن هذا التطوير مثّل مغامرةً سياسيةً للأردن أفقده الكثير من نقاط القوة “التي ظنَّ أنه لن يحتاجها” على المستوى الإقليمي والعربي، لا سيما أنه راهن على الطرف الأكثر استسلامًا، والأقل شعبية بالنسبة إلى الفلسطينيين وبعض الدول العربية، مقابل الحفاظ على استقراره وتحالفاته.
أما على صعيد علاقة الأردن بدولة الاحتلال، فبتزامن عهد الملك الجديد مع صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب الأمريكية على العراق، فضّل الملك عبد الله أن يحافظ على علاقة باردة مع الجميع، تقيه الصراع ونار الخصومة وتبعاتها السياسية والاقتصادية على بلده، وتحافظ على تحالفه مع الولايات المتحدة الذي يمرّ من بوابة دولة الاحتلال، ويدرأ عنه الكثير من المطبات الاقتصادية والإقليمية.
لكن موجات الربيع العربي لم تلبث أن أعادت للعلاقة بعضًا من الدفء مع استشعار دولة الاحتلال لخطر عدم الاستقرار على حدودها الشرقية، وإمكانية أن تتسبّب المظاهرات الأسبوعية والضغط الاقتصادي وموجات التهريب على حدود الأردن البرية في تغيير شكل النظام القائم، ما دفع الجانبَين إلى تجاوز المواقف المتصلبة والتعاون الاستراتيجي والأمني لتجاوز الأزمة القائمة.
التطبيع الإبراهيمي: إنزال خلف خطوط الأردن
ظل الأردن متمترسًا خلف استراتيجيته، مستفيدًا من موقعه وحدوده التي ترغم دولة الاحتلال على احترام سيادته ووصايته في ظل حاجتها لحدود هادئة وحليف عربي، لكن هذه الميزات لم تكن كافية لليمين المتطرف الذي دعم قانون القومية الإسرائيلي عام 2018 وفقًا لحدود “إسرائيل الكبرى” التي تشمل شرق الأردن، وشرعن المساعي الاستيطانية لضمّ غور الأردن عام 2019 منهيًا بذلك الحلم الأردني والفلسطيني بدولة فلسطينية حاجزة.
إزاء هذه الخطوة وفي ردّ فعل مفاجئ، أعلن النظام الأردني انتهاء تأجير مناطق الباقورة والغمر في غور الأردن لدولة الاحتلال ومزارعيه، حيث كان قد وافق خلال مفاوضات السلام على إبقاء هذه الأراضي الحدودية بتصرف دولة الاحتلال عليها لـ 25 عامًا، مقابل اعتراف الاحتلال بسيادة الأردن عليها وحقه باسترجاعها.
هذا التغير بالموازين كان قد سبقته جملة من التفاعلات قلبت معادلة العلاقة الدافئة بين الأردن ودولة الاحتلال، فمع السيطرة على موجات الربيع العربي وتوسع الثورات المضادة التي أفرزت عدوًا مشتركًا لبعض الدول العربية ودولة الاحتلال، كان من السهل حينها -في ظل إدارة ترامب فترة 2017-2021- على دولة الاحتلال أن تتجاوز الأردن والحاجة للحفاظ على العلاقات معه إلى دول عربية أخرى تحظى بمؤهّلات سياحية واقتصادية وإقليمية هائلة.
فظهرت سلسلة اتفاقيات التطبيع الإبراهيمي التي اُعتبرت نموذجًا محدثًا للتطبيع القديم، يقدم الأهداف الضيقة اقتصاديًا وسياسيًا للدول العربية في علاقتها مع “إسرائيل” على حساب الخصوصية الفلسطينية وقضيتها العالقة، ويمنح الإسرائيليين سلامًا “دافئًا”، وهو ما يلائم طموحات الليكود الإسرائيلي المتطرف ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو صاحب الثأر القديم مع الأردن، والذي لم يفتأ منذ عودته إلى رئاسة الحكومة استحداث ما ينغص على الأردن داخليًا وخارجيًا.
وذلك بدءًا من مساعيه لضمّ غور الأردن عام 2019، مرورًا بمشاركته في قضية الفتنة عام 2021 التي كشفت عن محاولات الأمير حمزة الأخ غير الشقيق للملك عبد الله للتحريض عليه تمهيدًا لتغيير المشهد الحاكم، وانتهاءً بمساعي التطبيع مع السعودية التي أخذت منحى تحويل الوصاية على القدس من هاشمية إلى سعودية، وهو ما اُعتبر فقدًا أردنيًا لجميع أوراقه التي يملكها في أي مناورة مع حلفائه أو أعدائه، فلسطينيًا وخليجيًا وأمريكيًا وإسرائيليًا، ويحيله كما يحيل السلطة الفلسطينية إلى “الهامش”.
وخلال فترة 2017-2023 كان الأردن يحتضر إقليميًا وسياسيًا واقتصاديًا، ولم تكن السلطة الفلسطينية بأفضل حال منه، فالضمّ يأكل أراضيها، والحكومة الإسرائيلية تتحكم في أموال المقاصة وتخصم منها منذ منتصف عام 2018، وتستغل أي حراك سياسي دولي لصالح الفلسطينيين لخصم المزيد.
وحتى عودة الحزب الديمقراطي للبيت الأبيض لم تخفّف من تهميش دولة الاحتلال للأردن، واستفزازها بالتخلي عن مشاريع اقتصادية وسياسية موعودة، وبدا أن كلًّا من الأردن والسلطة فائض عن حاجة دولة الاحتلال في ظل وجود فواعل جديدة في المنطقة، وخفوت القضية الفلسطينية وتراجعها شعبيًا ورسميًا.
وفي خضمّ التسارع وتهيئة الرأي العام العربي للتطبيع السعودي الذي خطط لاستتباعه بموجة تطبيع إسلامي تشمل كلًّا من أندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش في المرحلة الأولى، وبإنهاء شامل للقضية الفلسطينية، جاءت عملية السابع من أكتوبر لتقلب إعدادات الشرق الأوسط وتضع المخاوف الأردنية في “وضع طيران” مؤقتًا.
الأردن في قلب الطوفان
في صباح السابع من أكتوبر الماضي استيقظ العالم على هزة إقليمية شاملة أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية “طوفان الأقصى”، جارفةً جميع مشاريع التسوية والتصفية ومعيدة القضية الفلسطينية إلى مربعها الأول في قلوب الشعوب وأولوية الحكومات، لا سيما مع حالة الانتقام الوحشي التي شنّتها قوات الاحتلال على قطاع غزة، وتسارُع وتيرة التهجير في الضفة الغربية من خلال توسيع نطاق الضم، والتهديد بحملات إبادة وتهجير على شاكلة ما يجري في قطاع غزة.
وكما أعادت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الأردن إلى موقعه في قلب الصراع مع المحتل، كذلك فعلت “طوفان الأقصى”، لا سيما مع بيان انطلاق “طوفان الأقصى” لمحمد الضيف قائد الجناح العسكري لكتائب القسام، ودعوته إلى “وحدة الساحات” والشعوب العربية والإسلامية إلى المشاركة في التحرير، وخطابات أبو عبيدة الناطق باسم المقاومة الفلسطينية الإسلامية التي توجّه في بعضها بشكل مباشر إلى الأردن وأهله، داعيًا إياهم للمزيد من الحراك، مؤكدًا وحدتهم مع المقاومة بقوله: “الأردن منا ونحن منه”.
وبدا واضحًا أن الأردن تلمّس 3 اتجاهات فيما يجري، أولهما احتمالات تدهور الوضع الداخلي شعبيًا بالنظر إلى العلاقة الجغرافية والاجتماعية مع الفلسطينيين، وثانيهما خطر الحرب وما قد تستتبعه من التهجير على كيانيته وهويته، وثالثهما الفرصة التي تمثلها الحرب في إعادة تصديره سياسيًا وإقليميًا، وإعادته إلى الواجهة كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكبوابة للخليج العربي والدول الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
نتيجةً لذلك، كان مستوى تفاعل نظامه الرسمي مختلفًا عن الانتفاضة الثانية، حيث التفَّ الملك عبد الله على استراتيجية التقوقع القديمة، مطلقًا تصريحات تضع اللوم في عملية السابع من أكتوبر على التطرف الإسرائيلي وعمليات القمع وتجاهل حل الدولتين وانتهاكات المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك، رافعًا سقف عدائه لنتنياهو ومطلقًا بالتوافق مع تصريحات وزير خارجيته ومقابلات عقيلته الملكة رانيا موجة رفض شرسة لإجراءات “إسرائيل” على الأرض وعملياتها الانتقامية، ما اُعتبر لحظة تاريخية من التوافق التام بين النظام والشعب.
وفيما نأت السعودية -التي كانت في طور ترسيخ صورتها كدولة عربية كبرى متعددة الأذرع والتأثير- عن القيام بدور فاعل مع تصدر الوضع الفلسطيني للأجندة الدولية والعربية، وبدت الإمارات غير ذات تأثير على الفلسطينيين باتجاهاتهم المختلفة، عاد الأردن إلى الواجهة دبلوماسيًا ولوجستيًا، من خلال إدراجه الجانب الفلسطيني ومطالبه في أي مقترح مستقبلي، والإصغاء الواعي باهتمام إلى مطالب السلطة الفلسطينية وتوجهاتها للحل.
وأيضًا واصل الأردن تقديم الإمدادات للمشفى الأردني في غزة، من خلال الإنزال الجوي الذي بدأه وتبعته دول عربية ودولية عديدة من بينها الولايات المتحدة، إضافةً إلى سلسلة مساعدات برية دخلت شمال قطاع غزة قادمة من الأردن، مثبتة في ذلك أن الوصول إلى مخرج مناسب على الأرض الفلسطينية لا بدَّ أن يمرَّ عبر بوابتها.
وبالتزامن مع انحسار خطر التهجير نحو الأردن، كان تدهور الوضع الداخلي قائمًا بل يتزايد نتيجة لضعف الموقف العربي العام والأردن جزء منه، ومواصلة العمل الأمني والاستخباراتي للأردن في تفخيخ حدوده الشرقية بوجه المقاومين، ومنع محاولات التسلل إلى دولة الاحتلال، بدءًا من تعزيز تواجده العسكري على الحدود العراقية والسورية واستهدافه لمهربي السلاح، مرورًا بتواجده العسكري المكثف على حدوده الشرقية وقمع أجهزة الأمن لمحاولات المتظاهرين الأردنيين عبور النهر وإسناد إخوانهم الفلسطينيين، وقمعه للمظاهرات الشعبية العارمة الرافضة لحرب غزة بل اعتقاله للنشطاء وسحلهم، إضافةً إلى مشاركته في التأمين الاقتصادي لـ”إسرائيل” من خلال الجسر البري الواصل بين موانئ دبي مرورًا بالسعودية فالأردن.
وبينما كان ركام الحرب في غزة يعيد رسم المشهد في الشرق الأوسط، بدا أن الأردن فقد دوره الفعّال كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، نتيجة إغلاقه الباب أمام أي علاقة مع حركة المقاومة الإسلامية حماس “المؤثر الفلسطيني الأكبر حاليًا”، ورهانه على القيادة الفلسطينية المهمَلة محاولًا تصديرها للأضواء عربيًا ودوليًا دون فائدة تذكر، سوى المزيد من المطالب لها بتأمين الضفة الغربية والقضاء على جيوب المقاومة فيها.
وهو ما لم تحاول الأردن تغييره رغم الكثير من اللفتات والإشارات من حركة حماس باتجاه النظام الأردني، لمحاولة إعادة خيوط الوصل التي لم تكتمل فيما اعتبره الأردن تهديدًا لأمنه واستقراره، بدعوات قيادات حماس للشارع الأردني بالخروج والتظاهر نصرةً لغزة.
ما بين الضربة الإيرانية الأولى والثانية
بقيَ الوضع كذلك مدفوعًا بإهمال إسرائيلي متزايد لمخاوف الأردن وهواجسه، حتى ليلة 14 أبريل/ نيسان 2024، حين ردّت إيران على قصف دولة الاحتلال لسفارتها في دمشق بوابل من الصواريخ والمسيّرات مستهدفة عمق الكيان، ليكون الأردن هذه المرة هو المصدّ وساحة الصراع الأبرز بل سماءه، من خلال مشاركته الفاعلة في صدّ الصواريخ والمسيّرات الإيرانية، ليقدم بذلك تأكيدًا ساطعًا لأهمية دوره اللوجستي والجيوسياسي لكل من الولايات المتحدة وجارته باعتباره دولة حاجزة بامتياز.
أما بُعيد الحدث، فقد كشفت مصادر في الجانب الإسرائيلي أن الأردن فتح مجاله الجوي للطيران العسكري الإسرائيلي لاعتراض الصواريخ الإيرانية قبل أن تصل إلى حدوده، وأن سلاح الجو الإسرائيلي قد نصب كمائن إلكترونية في سماء الأردن بالتزامن مع مشاركة الطائرات الأردنية في اعتراض الطائرات والصواريخ الإيرانية.
تاريخ الاحتلال أثبت أن الجغرافية العربية ساحات احتياطية لتجاربه العسكرية وعمق آخر يحمي عمقه الحقيقي، ما يجعل الأردن في وضع المتأزّم بين ارتباطاته الأمنية مع دولة الاحتلال ومع القواعد الأمريكية، وبين تصديه لضربة تنقل المعركة إلى عمقه
هذه الإزاحة الأخيرة في علاقة الأردن لصالح الجانب الإسرائيلي وضعته في موقف شعبي لا يحسد عليه “عربيًا وإسلاميًا على الأقل”، وهو البلد العربي الذي يرتبط مع الفلسطينيين جغرافيًا واجتماعيًا، ويؤثر فيه ما يجري في العمق الفلسطيني من الضفة وغزة والقدس بشكل مباشر وكبير، فيما يتم الإشارة إليه إسرائيليًا بشكل متواتر وفي تجاهل لاتفاقيات السلام، باعتباره وطنًا بديلًا متوفرًا للفلسطينيين الذين يخوضون حربًا من أجل الوطن.
هذا التفاعل الأمني ترك تأثيره العميق على الداخل الأردني وعلاقته بنظامه، خاصة أن المنصات الإعلامية الإسرائيلية تفنّنت في كشف ما خفيَ عن الشارع العربي والأردني، وتبارت في إحراج النظام الأردني دون هوادة، حتى وصل الأمر بالجمهور الإسرائيلي للتعبير عن شكره ومحبته للأردن بعد صدّه للصواريخ الإيرانية.
وقد ترك ذلك القاعدة الأردنية الشعبية هشّة أمام ارتباطاتها العائلية والإسلامية والعربية بالفلسطينيين، وأثار موجة غضب عارمة استتبعت ردًّا من مسؤولين في القوات المسلحة والحكومة الأردنية، يحيل ما جرى من عمليات صدّ وإسقاط إلى “حماية أمن وسلامة الأردن ومواطنيه وحرمة أجوائه وأراضيه من أي خطر أو تجاوز من أي جهة كانت”.
هذا التوتر الشعبي والسياسي عاد إلى الواجهة بالتزامن مع استعدادات وتهديدات إيرانية بضرب دولة الاحتلال خلال الأيام القادمة، ما وضع الأردن في المنتصف، لا سيما مع تهديدات إيرانية لدول المنطقة باستهداف كل من يتعاون مع الاحتلال أو يقف في وجه صواريخها نحوه، فيما بدا تهديدًا صريحًا للأردن استعاد وقعه مع تزايد احتمالات ضربة أخرى للكيان.
إثر ذلك، عمد الأردن إلى تنظيم حملة دبلوماسية غربية وعربية وموجة اتصالات ملكية مفتوحة مع كل من رئيس الولايات المتحدة والرئيس الفرنسي ورئيسة الوزراء الإيطالية ورئيس وزراء كندا، لتوضيح الحاجة الملحّة إلى وقف التصعيد في المنطقة، لا سيما أن الولايات المتحدة أرسلت عتادًا هائلًا للدفاع عن دولة الاحتلال، وليس دفاعًا عن الأردن.
كما أن تاريخ الاحتلال أثبت أن الجغرافية العربية ساحات احتياطية لتجاربه العسكرية وعمق آخر يحمي عمقه الحقيقي، ما يجعل الأردن في وضع المتأزّم بين ارتباطاته الأمنية مع دولة الاحتلال ومع القواعد الأمريكية على أراضيه وتحالفاته الاستراتيجية، وبين تصديه لضربة تجهز عليه شعبيًا وسياسيًا وتنقل المعركة إلى عمقه.
فإن واصل حمايته للاحتلال فهو أمام مستقبلَين، أحدهما ثورة في شكل من أشكال الربيع العربي المتجدد لن تلبث أن تطيح باستقراره، وثانيهما عودة مرتقبة وقوية للإسلام السياسي ممثلًا بتيار الإخوان، يتنبّأ بها النظام منذ الآن مدفوعًا بقدرة هذا التيار على حشد ألوف الأردنيين أمام السفارات في تحدٍّ لخطابات الملك وتصريحات الحكومة والوزراء، وفي كلا الاتجاهَين لن يكون الأردن على الأرضية ذاتها التي يقف عليها الآن.
يأتي ذلك محكومًا بتصدُّر نخب أردنية عشائرية للحراك الشعبي لنصرة فلسطين، على النقيض ممّا كان متوقعًا من تصدُّر فلسطينيي الأردن لهذا الحراك، بل إن حجم الغضب ونوعية الهتافات تشي بأن مكمن الحرج الأردني من المساهمة في صدّ الصواريخ الإيرانية هو انكشافه شعبيًا بالأساس، ومن ثم عسكريًا أمام إيران أو “إسرائيل”.
خيارات أردنية صعبة
أمام هذه المعضلة أضحى الأردن في الزاوية مخيّرًا بين ثلاث، أولها التماهي والانسجام مع الإرادة الشعبية الأردنية والفلسطينية على حد سواء، والانغماس في تبني مطالبها بدعم مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني، ويوفر هذا الخيار للأردن مرونة لا تتضمن الانضمام إلى محور المقاومة إنما البقاء على الحياد بين طرفَين متحاربَين، وهو الموقف الذي يكفله له القانون الدولي والشرعية الأممية.
يتيح هذا الخيار للأردن عنصر مناورة في مواجهة حكومة الاحتلال المتطرفة، معيدًا للأردن جزءًا من أهميته الحقيقية كبلد فاعل وليس كأداة، بل يؤسس إمكانية لعبه دور وسيط مع إيران، لا سيما مع الزيارة الدبلوماسية الأخيرة لوزير خارجيته وتأكيدات “حُسن الجوار” وترميم جسور التعاون، وهو ما تحتاجه الولايات المتحدة بشدّة لخفض حدّة الصراع في المنطقة.
بل إن نأي الأردن في هذه المرحلة عن صدّ صواريخ إيران، يعزز قدرتها في مطالبة إيران بالكفّ عن تهريب أسلحتها وقواتها واستخدام القواعد السورية لضرب حدودها وأراضيها، في مكاشفة واضحة لكل الملفات يخرج فيها الأردن باستقراره وأمنه.
والحقيقة أن هذا الخيار رغم وجاهته، إلا أنه يتجاوز نمط التحكم والسيطرة في النظام الأردني سياسيًا واقتصاديًا، وتحالفاته واتفاقياته وتعاقداته العسكرية مع الولايات المتحدة والدول الغربية وحلف الناتو، والتي لا ترى لها في الشرق باعًا ولا ذراعًا إلا ما يخدم دولة الاحتلال.
بل إن هذه الخطوة قد تدفع إلى تفسير الحياد باعتباره تواطئًا ضد الولايات المتحدة وحليفها، من وجهة نظر إسرائيلية ماهرة في تقمُّص دور الضحية، ما يحوّل الأردن إلى ساحة لتصفية “إسرائيل” حساباتها مع أعدائها، عسكريًا أو سياسيًا، بدءًا من زعزعة الوضع الاقتصادي المتدهور أصلًا، مرورًا بالسعي لإثارة التوتر وإضعاف نظام الحكم حتى تغييره.
أما الخيار الثاني فهو التماهي المطلق مع ما تريده “إسرائيل” وتتمناه الولايات المتحدة الأمريكية، من تعزيز للتحالف الاستراتيجي العربي الإسرائيلي (MESA)، وإعادة فتح الأجواء الأردنية أمام الدفاعات الإسرائيلية، وتجنيب الجمهور الإسرائيلي فزع رؤية الصواريخ أو بقاياها الحديدية، يأتي ذلك مصحوبًا بتجاهل الحقوق الفلسطينية ومطالب تقرير المصير، والانفتاح اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا مع جارته وتبني مواقفها واصطفافاتها الدولية، في نموذج أكبر قليلًا ممّا ذهبت إليه الإمارات في تطبيعها.
وهو أيضًا يتجاوز قدرة الأردن ذي الكثافة السكانية الفلسطينية، وارتباطاته الديموغرافية والجغرافية التاريخية مع الفلسطينيين، ويذوّب أصوله العربية، ويتنافى مع ما أثبتته التجربة والبرهان منذ اتفاقية وادي عربة وما تلاها من اتفاقيات، من سياسة إسرائيلية تتجاهل حساسية الشعوب العربية بل ترفع سقف مطالباتها دون امتنان أو قبول.
هذا خاصة أن “القبول” لدى الجانب الإسرائيلي مرتبط بفتح أراضي الأردن لموجات جديدة من تهجير الفلسطينيين وبتحوله وطنًا بديلًا لهم، وتجاوز الوصاية الهاشمية على الحرم المقدسي نحو تهويده، وكلاهما جزء من سيادة الأردن التي لا مجال للتنازل عنها، بل يعمد إلى إحراج حلفائه ونزع شرعيتهم الداخلية بالكشف عن أوجُه تحالفهم معه بكثير من الشماتة بجمهوره العربي، وجميع ما سبق عوامل ولا شك ستقود نحو انهيار نظام الحكم القائم بشكل لا مجال لوقفه أمريكيًا أو إسرائيليًا، بل تحوِّل استقرار النظام إلى جبهة مفتوحة يتم تذخير المواقف الأمنية والعسكرية فيها لصالح أي تغيير قادم.
فيما يبقى الخيار الثالث الذي يتعاطى فيه الأردن بتوازن “دقيق وحرج” مع الجانبَين، وهو ما تحاول حاليًا أذرع النظام الأردني الانخراط فيه، ما بين الموائمة بين الخيار الأول والثالث، فتظهر لإيران عمق أزمتها الجغرافية وتطالبها باستخدام جغرافيات أخرى وساحات تصعيد أخرى، توخيًا للانجراف نحو حرب إقليمية مدفوعة بتشابك التحالفات العسكرية والأمنية في المنطقة، فيما تتوجّه الرسائل الأردنية إلى الولايات المتحدة مطالبة بمساعٍ أكبر من التهدئة ووقف التصعيد، متجاهلةً التواصل المباشر مع الكيان أو التعبير عنه.
على المستوى الفلسطيني يتجلى هذا الخيار، فالمحافظة على وجود دائم في المشهد من خلال علاقة الأردن مع قيادته السياسية، دون أن ينهي العمل الأمني المشترك مع الجانب الإسرائيلي في إطار تحالفه مع الولايات المتحدة، بما يجنّبه ذلك استخدام أراضيه في أي عمل عسكري ضد الاحتلال، أو تفعيل قوة الإسلام السياسي على أراضيه الذي يجد الأردن فيه تهديدًا، ويضمن له استمرار مكانته كحليف استراتيجي للولايات المتحدة بما يقلل جزءًا من ضائقته الاقتصادية إثر الدعم الأمريكي، ويحافظ على صدارته بالنسبة إلى الفلسطينيين وسلطتهم.
مع الإشارة إلى أن حقبة “ما بعد الربيع العربي” أثبتت أن المراهنة على دعم أو “وعي” الجمهور الداخلي لنظام حكم يقدم رغبات وطموحات شارعه على حلفائه خاسرة، بل نهايتها وخيمة، فيما أثبتت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والدعم الأمريكي الغربي اللامحدود للرواية والإبادة الإسرائيلية، أن من الأفضل للأنظمة أن توازن بين شعوبها وحلفائها دون أن تميل إلى أحد دون الآخر.
ختامًا، يمكن القول إن الخيارات المطروحة تأتي في إطار قياس قدرات وحدود بلد فقير في الموارد، غني باللاجئين والأزمات، يصادف أن يكون في كل نزاع “بالواجهة”. بل إن هذه الخيارات يمكن تعميمها إلى حد كبير عربيًا، باختلاف المقاربة ما بين الأكثر اعتدالًا والأكثر تطرفًا، مع تفهُّم خصوصية كل دولة وعوامل التأثير والضغط فيه، ودقة توازن كل دولة، الذي قد ينجح أحيانًا أو ينهار أحيانًا أخرى، ومن المتوقع أن يظل الحال العربي على هذا الميزان ردحًا طويلًا، ما لم يجرِ ما يغير السياسات والاستراتيجيات بشكل عميق.