كانت الأسهم تنخفض بمعدلات مقلقة على مدار أيام، لكن يوم الاثنين تحولت الأمور من القلق إلى الذعر، حيث خيّم اللون الأحمر على بورصات الأسهم في أمريكا وفي مرحلة ما، انخفض مؤشر داو جونز الصناعي بأكثر من 1200 نقطة، كما تراجعت أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم.
لم تسلم أسهم شركات التكنولوجيا هي الأخرى، فقد انخفض مؤشر ناسداك المركب للحظة واحدة يوم الاثنين بأكثر من 10% منذ منتصف الأسبوع الماضي، ودخل في ما يسميه الاقتصاديون منطقة “تصحيح السوق“. هذا التراجع المفاجئ هزَّ المستثمرين وأثار تساؤلات تتجاوز الأسواق المالية إلى تساؤلات تتعلق بالصحة الأساسية للاقتصاد.
وحتى عندما استقرت الأمور بعض الشيء، هدّد الانكماش الاقتصادي بقتل النشوة السياسية التي اجتاحت الديمقراطيين منذ انسحاب جو بايدن وظهور نائبة الرئيس كامالا هاريس خليفة بايدن وحاملة لواء الحزب. إليك القصة الكاملة وراء اللون الأحمر الذي تزيّنت به بورصات العالم.
ما سبب انهيار البورصات الأمريكية؟
بمجرد النظر إلى المؤشرات الإجمالية في بورصات أمريكا وحتى البورصات الأخرى حول العالم، يمكنك أن تدرك على الفور أنه كان مجرد يوم زفاف أحمر آخر في الأسواق (يطلق هذا المصطلح عندما تنخفض قيمة الأسهم وتصبح باللون الأحمر).
ورغم التحذيرات السابقة لبعض الخبراء بأن قيمة السوق مبالغ فيها، وأن الاقتصاد العالمي مريض والأسهم ستنخفض، إلا أن هذا الأمر لم يؤثر ولو قليلًا على قرارات المستثمرين الذين كانوا مدفوعين بفقاعة الذكاء الاصطناعي، ما دفعهم إلى الاستثمار بقوة في أسهم شركات التكنولوجيا، لكن كانت النتائج كارثية على الجميع.
يشير الاقتصاديون إلى عدة عوامل وراء عمليات البيع القوية التي اجتاحت البورصة الأمريكية. بادئ بدء، كانت أسهم التكنولوجيا مبالغًا فيها، وتم دفعها إلى ما هو أبعد من قيمتها الأساسية بسبب الذكاء الاصطناعي. ومن هنا بدأت عملية التصحيح في بورصة ناسداك، وكانت شركات مثل إنفيديا وآبل وإنتل من بين أكبر الخاسرين يوم الاثنين.
أحد الأسباب القوية التي ساهمت في أحداث يوم الاثنين، كان تقرير الوظائف الصادر يوم الجمعة، والذي أظهر تباطؤًا حادًّا في عملية التوظيف وزيادة في نسبة البطالة خلال شهر يوليو/ تموز، الأمر الذي أصاب أي شخص من قريب أو بعيد بحالة من التوتر والخوف.
وما زاد الطين بلة، عندما أشارت العديد من الأخبار إلى أن مطالبات البطالة (يقصد بها طلب الحصول على إعانة نقدية بعد التسريح من الوظيفة) قد زادت هي الأخرى بشكل ملحوظ في الأيام الأخيرة من شهر يوليو/ تموز الماضي.
لكن كما قال وليم شكسبير المصائب لا تأتي فرادى، حيث ساعد تردد مجلس الاحتياطي الفيدرالي في البدء حول خفض أسعار الفائدة، في خنق التضخم على النحو المنشود، لكنه من جهة أخرى أثقل كاهل الشركات وكبّل المستهلكين.
خسائر قاسية
رغم الإشارات التحذيرية الواضحة التي تشير إلى أن الاقتصاد العالمي أصبح يتهاوى كما كان يتجه نحو دورة انحدار أخرى، فقد اختار المستثمرون في سوق الأوراق المالية الاستمرار في عبادة الأصنام الزائفة التي لا حول لها ولا قوة، وأقصد بهم محافظي البنوك المركزية في العالم.
هؤلاء هم الأشخاص الذين يجلسون حول طاولات اجتماعات فاخرة يناقشون ما إذا كان التضخم منخفضًا للغاية، وإذا نظروا من النافذة سيرون أن أسعار كل شيء تقريبًا ظلت في ارتفاع مستمر لسنوات.
هل تتذكرون مشهد الشيخ حسني الكفيف عندما أخذ بيد الشيخ عبيد الكفيف هو الآخر، وحينها قال الشيخ حسني: “اذا مكنش سليم النظر اللي زي حالاتي يساعد عاجز النظر اللي زيك. لا مؤاخذه يعني.. يبقى قول على الدنيا السلام”. حسنًا هذا ما تفعله البنوك المركزية، فهي الشيخ حسني والمستثمرون هم الشيخ عبيد، بمعنى أدق، كان المكفوفون يقودون المكفوفين، وأصبح جدار الطوب أمامهم الآن مباشرةً.
ثم كان هناك صدى الأحداث الناجمة من البورصات الأمريكية على البورصات العالمية، ففي يوم الاثنين، تعرضت الأسهم اليابانية، التي كانت منتشية، لأسوأ خسارة لها منذ الاثنين الأسود عام 1987. وكان يُنظر إلى الخسائر الضخمة، جزئيًا، على أنها ردّ فعل على انخفاضات السوق والمخاوف المتزايدة في الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، شهد مؤشر كوسبي (كوريا الجنوبية) انخفاضًا قويًا بحوالي 9%، وتأثرت أسهم شركات التكنولوجيا وعلى رأسها العملاق سامسونج. كما هبطت أسهم شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية TSMC بعدما تضرر مؤشر تايكس بنسبة بلغت 8.4%. أيضًا تراجعت البورصات والأسواق الأوروبية هي الأخرى، لينخفض مؤشر داكس الألماني إلى 2.3%، بينما سجّل مؤشر CAC 40 في باريس انخفاضًا وصل إلى 1.9%.
كما شهدت بورصات البلاد العربية هي الأخرى انخفاضًا حادًّا وتراجعًا لأسعار الأسهم، فكان مؤشر دبي المتضرر الأكبر حيث انخفض بنسبة 4.5%، وفي المملكة العربية السعودية انخفض مؤشر السوق بحوالي 2.1%، وهي أقل نسبة منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
أيضًا مصر لم تسلم من تلك الأحداث المأساوية، حيث تراجعت البورصة بنسبة وصلت إلى 2.3%، وتكبّدت العديد من الشركات خسائر فادحة وعلى رأسها الحديد والصلب، حيث انخفضت أسهمها بنسبة 10.95%، كذلك روبكس للبلاستيك حيث انخفض سعر أسهم الشركة بنسبة 10.4%.
السبب الحقيقي وراء أحداث الاثنين الأحمر
كان العديد من كبار المستثمرين، خاصة في صناديق التحوط، مثقلين بالديون بسبب تكتيك معروف يسمّى “التداول بالاقتراض“. المبدأ الأساسي للاستثمار هو الشراء بسعر منخفض والبيع بسعر مرتفع، وفي كثير من الأحيان يرغب المستثمر في زيادة الفجوة بين السعرَين، وبالتالي زيادة العائد، وأحد الطرق التي يتم بها ذلك عن طريق الاقتراض بعملة مختلفة عن العملة التي يُباع بها الأصل الذي تشتريه.
إذا كان سعر الفائدة في بلد ما أقل بكثير من سعر الفائدة نظرًا إلى سعر الفائدة في البلد الذي تحاول الشراء فيه، فإن الاقتراض في البلد الأول يمكن أن يؤدي إلى عائد أعلى في البلد الثاني، حتى بعد سداد الفائدة على القرض. يُطلق على هذه الاستراتيجية اسم “تداول المُناقلة (Carry Trade)”.
وكما يعلم بعضكم، ظلت أسعار الفائدة في اليابان منخفضة لفترة طويلة، وكان سعر الفائدة في بنك اليابان في الآونة الأخيرة لا يزال أقل من الصفر (هل تتخيل ذلك؟)، في حين ارتفع سعر الفائدة على الأموال لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أكثر من 5%.
وأتاحت هذه الفجوة للمستثمرين فرصة من أجل إجراء صفقات والتداول بالاقتراض عن طريق الاقتراض بالين الياباني، ثم شراء الأسهم الأمريكية ذات النمو المرتفع بالدولار. وقد استطاع المستثمرون الاستفادة من تلك الفرص، وبلغت قيمة أرباحهم 4 تريليونات دولار في جميع أنحاء العالم.
لكن دوام الحال من المحال، حيث بدأ بنك اليابان في مارس/ آذار 2024 رفع أسعار الفائدة وكانت المرة الأولى منذ 17 عامًا. بعد ذلك، يوم 31 يوليو/ تموز، حيث كانت الأسواق تتوقع بقاء أسعار الفائدة اليابانية على حالها، أعلن محافظ بنك اليابان، كازو أويدا، عن زيادة أخرى في أسعار الفائدة إلى جانب خفض الميزانية العمومية للبنك، وألمح إلى إمكانية رفع أسعار الفائدة أكثر في المستقبل.
هذه كانت القشة التي قصمت ظهر البعير لأحداث الاثنين الأحمر، لماذا؟ لأنه فجأة بدأت الفجوة بين الدولار والين التي كان يستغلها متداولو المناقلة تتلاشى، وارتفع الين مقابل الدولار في أسواق الصرف الأجنبي.
ومع أن قيمة الدولار كانت لا تزال أعلى بكثير من الين، إلا أن الفجوة لم تعد كبيرة بالقدر الكافي للسماح للمستثمرين بفتح صفقات ومن ثم تحقيق مكاسب طائلة، كذلك كانت توقعات بنك اليابان بشأن رفع الفائدة الفترة القادمة، تشير إلى أن الفجوة ستضحى أقل في المستقبل، لذلك بدأت حالات الهلع ونوبات البيع يوم الاثنين الموافق 5 أغسطس/ آب 2024.
وهكذا غيّر ارتفاع سعر الفائدة في اليابان قواعد اللعبة. ومع بدء تراجع صفقات الشراء بالاقتراض، اضطرت صناديق التحوط إلى بيع أصول أخرى لديها لتلبية نماذج المخاطر الخاصة بها. وهذه أحد الطرق التي انتشرت بها عمليات البيع إلى مناطق أخرى من السوق.
كما أدّى الانخفاض في تقييم أسهم أكبر شركات التكنولوجيا إلى قيام المستثمرين العاديين بالبيع لأسباب أخرى، مثل فقاعة الذكاء الاصطناعي والزيادة البسيطة في المخاطر والتقلبات الإجمالية. وفي ظل تلك الأزمات، يتحول المستثمرون إلى الملاذ الآمن من أجل الحفاظ على قيمة الأصول الخاصة بهم، ولهذا اتجه الجميع إلى شراء السندات الحكومية ذات العائد المنخفض.
كيف كان أداء أسواق الأسهم الأمريكية هذا العام؟
حتى مع حالة البيع المتزايدة يوم الاثنين، واستمرار نزيف البورصات في أمريكا، فإن سعر الأسهم كان مرتفعًا خلال العام. أيضًا لا يزال مؤشرا ستاندرد آند بورز 500 وناسداك مرتفعَين بأكثر من 9% مقارنة ببداية العام. فقط مؤشر داو جونز هو المتخلف، حيث ارتفع بنسبة 2.6% منذ يناير/ كانون الثاني 2024.
أخيرًا، هل يجب كمستثمر أو شخص عادي أن أقلق بشأن الركود الاقتصادي المحتمل؟ ليس بعد، أو ربما على الإطلاق. دعني أوضح لك متى يُطلق على الاقتصاد بأنه في حالة ركود، الإجابة باختصار عندما يحدث انخفاض خلال ربعَين متتاليَين من الناتج المحلي الإجمالي. بالنسبة إلى الاقتصاد الأمريكي، ربما هناك تضخم وبطالة، لكن الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني كان جيدًا بنسبة 2.8%.
يرى الخبراء أيضًا أن حالة الركود عندما تظهر تزيد نسبة البطالة لمستوى كبير كما تنعدم الوظائف لفترة طويلة، هذا لم يحدث، كما أن الاقتصاد الأمريكي لم يقترب بعد من تلك النقطة. وخلال يوليو/ تموز 2024، كان تقرير الوظائف أقل من التوقعات، فقط كان هناك 114 ألف وظيفة جديدة، لذا لا يمكن أن نقول إن هناك ركودًا في الاقتصاد الأمريكي الفترة الحالية.
هذا ما أكده جاك أبلين، كبير مسؤولي الاستثمار والشريك المؤسس في شركة كريسيت كابيتال، حيث أوضح أنه لا يرى أي أُسُس تتعلق بالانكماش الاقتصادي، وبالتالي تعود البورصة الأمريكية والأسواق العالمية إلى الارتفاع مرة أخرى لكن ببطء.