في غياب دولة القانون وتحولها إلى نظام عصابات، يصبح من الحتمي ظهور فصائل تحمل توجهات مختلفة..
مع اندلاع ثورة 2011، سارع العديد من المعارضين الدروز إلى تبني خطاب الثورة وخاصة فئة المثقفين منهم، فانطلق أول اعتصام نقابي في السويداء بعد أيام من انطلاق الثورة، إضافة إلى انشقاق عدد من الضباط الدروز وتشكيلهم كتائب مقاتلة وانضمامهم للجيش السوري الحر، وفي ذات الوقت حرك النظام مؤيديه لقمع أي صوت معارض في المحافظة، فاستخدم بعض فئات البعثيين والأمنيين إضافة إلى “الزعران” والشبيحة من أبناء السويداء.
ولعبت وسائل الإعلام المؤيدة والمعارضة دورًا بارزًا في التقليل من شأن الحراك بجبل العرب آنذاك، وتأطير الدروز بصفة (الأقليات المؤيدة) للنظام في سوريا، وفي الوقت ذاته كانت السويداء تؤسس لتوجه جديد يتمثل في رفض الخدمة العسكرية في صفوف جيش النظام، وتشكيل حركات أهلية تحمي أبنائها من الملاحقة المتعلقة بالرأي السياسي أو ملاحقة المطلوبين للخدمة العسكرية والدفاع عن المحافظة من أي هجوم.
في التقرير من ملف “بني معروف” نتناول الحراك الثوري في السويداء منذ اندلاع الثورة في 2011 إلى جانب الفصائل العسكرية المحلية التي تشكلت على مدى السنوات الماضية.
الحراك الثوري
انضمت السويداء إلى الحراك الثوري مبكرًا، ولو بشكل محدود، إذ أصدر المحامون الأحرار أول بيان لهم بعد أسبوع واحد من انطلاق الثورة، طالبوا فيه بفك الحصار والطوق الأمني عن محافظة درعا، وفتح التحقيق في جريمة إطلاق النار على المدنيين العزل، وإلغاء الأحكام العرفية في سوريا ورفع حالة الطوارئ، وإطلاق سراح كل معتقلي الرأي في سوريا، والحد من دور الأجهزة الأمنية وصلاحياتها.
تصاعد الحراك الشعبي
مع ارتفاع صوت المطالبات في السويداء، بدأ نظام الأسد في محاولة قمع الحراك من خلال تفجيرات وإطلاق الرصاص، حيث وقع في سبتمبر/أيلول 2015 تفجيران أحدهما أمام مبنى المشفى الوطني في السويداء، ما أدى إلى مقتل 58 شخصًا على رأسهم زعيم حركة “رجال الكرامة” الشيخ وحيد البلعوس.
وأشارت كل الدلائل آنذاك إلى وقوف فرع الأمن العسكري التابع للنظام برئاسة وفيق ناصر وراء هذه التفجيرات، وأعقب هذه التفجيرات مظاهرات حاشدة غاضبة أسفرت عن إسقاط تمثال حافظ الأسد الرئيسي في ساحة السير التي أصبح اسمها فيما بعد ساحة الكرامة، ما أدى إلى وقوع اشتباكات مع عناصر النظام الأمنية.
في مارس/آذار 2016 وتحت اسم حملة “حطمتونا”، انطلقت عدة اعتصامات ومظاهرات جابت شوارع المدينة، وطالب المتظاهرون بإسقاط نظام الأسد، لكن تم تفريقها عبر إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، ما أدى إلى تراجع الحراك في المحافظة ليتوقف عقب ذلك.
في 2020 شهدت المحافظة احتجاجات شعبية تحت شعار “بدنا نعيش”، وهاجم المتظاهرون رموزًا أمنية واقتصادية كبيرة في النظام، مطلقين شعارات مطلبية، ومع سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية تحول الحراك إلى حراك منظم وعادت روح البدايات وثورة 2011 وشعاراتها إلى الشارع.
لاقى هذا الحراك الكثير من المؤيدين داخل مجتمع السويداء وتحول إلى حراك مستمر في ساحة الكرامة، ما اضطر النظام إلى توجيه البعثيين والشبيحة للخروج بمسيرة مؤيدة في الجهة المقابلة من ساحة الكرامة، وهو ما أدى إلى الاعتداء على المعتصمين واعتقال تسعة أشخاص، وتم توثيق ذلك عبر بث مباشر على منصة فيس بوك.
في فبراير/شباط 2022، ومع تدهور الأوضاع الأمنية والخدمية وصدور قرارات رفع الدعم الحكومي عن شرائح واسعة من الناس، ظهرت أشكالًا جديدةً للحراك في السويداء، حيث تم قطع بعض الطرق الرئيسية، وفتحها فقط أمام الطلاب والحالات الإسعافية، كما سلمت بعض القرى البطاقات الذكية للبلديات تعبيرًا عن رفض الناس لقرارات حكومة الأسد.
مع نهاية 2022 قامت بعض المجموعات بإحراق مبنى المحافظة واقتحامه وتمزيق وإتلاف بعض الصور والملفات، في حركة تبرأ منها معظم المشرفين على الحراكات والمظاهرات السابقة.
واستمرت الاعتصامات الأسبوعية تحت شعار “هنا السويداء هنا سوريا”، وظهرت الكتابات على جدران المدارس متضمنة إشارة صريحة بأن بشار الأسد هو خلف ملف المخدرات الذي استفحل في السويداء خلال عدة سنوات.
التشكيلات العسكرية
منذ اندلاع الثورة، وجه نظام الأسد أجهزته العسكرية والأمنية نحو المدن السورية الثائرة، ما أدى إلى ضعف قبضته الأمنية في مناطق أخرى مثل السويداء، ومع امتداد الثورة وتوسعها في معظم الأراضي السورية، والخسائر الكبيرة التي تكبدها النظام في الأرواح والمعدات، تخلخل نسيجه الأمني.
فصائل حيادية إيجابية (رجال الكرامة)
تراجع دور الحركة على الساحة المحلية بعد مقتل البلعوس، واقتصر دورها على مفاوضة السلطات الأمنية على إطلاق سراح المعتقلين على خلفية سياسية أو من المطلوبين للخدمة العسكرية، وكان لها دور بارز في المعارك الكبيرة التي خاضها أهالي السويداء ضد تنظيم داعش في يوليو/تموز 2018 والمعارك ضد العصابات المحلية ذات التبعية الأمنية في 2022.
فصائل مؤيدة:
هي الفصائل ذات الارتباطات الأمنية التي شكلت في البداية لمواجهة القوى المحلية وضرب الأصوات المعارضة في السويداء، قبل أن تتغير أدوارها وتختلف تسمياتها، ليظهر مصطلح العصابات المحلية، حيث اعتمدت في تمويلها على الأجهزة الأمنية من خلال تسهيل عملها في تهريب المحروقات إلى مناطق داعش في البادية وتصنيع وتجارة المخدرات.
وبعد تفاقم عمليات الخطف والقتل والسرقة ونشر المخدرات في المدارس تحركت بعض القوى المحلية والمجتمع الأهلي ضد العصابات، فتم القضاء على عصابة شهبا عام 2021، حيث تبين أن أفراد العصابة يحملون بطاقات وسيارات أمنية مسجلة وكميات كبيرة من المخدرات ومواد متفجرة.
وبعد القضاء على عصابة شهبا، ظهرت عصابة جديدة أكد قائدها راجي فلحوط عدة مرات تبعيته للأمن العسكري ويعمل بتفويض منه، بعد أن كان سابقًا من أكثر المعارضين للنظام.
في 2022 تحركت معظم الفصائل المحلية والمجتمع الأهلي وخاضت معارك دامية مع تنظيم قوات الفجر وانتهت بهروب زعيم القوات ومقتل وجرح واعتقال العشرات من عناصره، وفي حين قتل خمسة عناصر من الفصائل المحلية.
فصائل معارضة
تشكلت العديد من الفصائل المعارضة بعد انشقاقات عن حركة رجال الكرامة، حيث غلب طابع العشوائية والاندفاع والتورط على بعض تلك الفصائل أبرزها “قوات شيخ الكرامة” التي تركزت قيادتها في صلخد وتزعمها وسام العيد الذي قتل في 2019 من خلال مقربين له في الحركة.
كانت “قوات شيخ الكرامة” تشكل خطرًا على فرع الأمن العسكري، حيث منعت عناصره من التجوال في مدينة صلخد، ولاحقت المتورطين في تفجير الشيخ وحيد البلعوس، لكن الفرع عمل على تكوين عصابة في صلخد للإشراف على ملف تهريب المخدرات ولتكون سلاحًا في وجه قوات شيخ الكرامة، وهو ما حصل فعلًا بعد أن تم استدراج شابين من عائلة أبو منصور القياديين في الفصيل وتصفيتهما وحرق جثة أحدهما في المدينة.
ومن الفصائل المعارضة كان فصيل “الشريان الواحد” الذي تشكل في 2019 وضم العديد من المنشقين عن حركة رجال الكرامة إلى جانب متورطين في عمليات خطف وتهريب، وتبنى معارضة النظام منذ تأسيسه.
فصيل “لواء الجبل” وهو فصيل نشط خلال السنوات الماضية وكان له دور بارز في محاربة العصابات والدفاع عن السويداء ضد هجمات “داعش”، وتحرير العديد من المعتقلين من الدروز، وكان لقائده، مرهج الجرماني، الدور الأبرز في التأسيس لحراك ساحة الكرامة، قبل أن يتم اغتياله برصاصة في رأسه خلال نومه في 17 يوليو/تموز الماضي.
تجمع أحرار جبل العرب الذي نشط منذ 2022 وهو تجمع معارض يتزعمه الشيخ سليمان عبد الباقي، ويتبنى شعار “تجمع أحرار جبل العرب تجمع وطني لا طائفي ينادي بالحقوق المشروعة لكل طوائف الشعب السوري”، وله دور بارز في تحرير المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية والتأسيس لحراك ساحة الكرامة، إضافة إلى فصيل القوى المحلية في السويداء: الذي ظهر على الساحة في يوليو/تموز الماضي.
ختامًا شهد مجتمع الدروز السوري منذ انطلاق الثورة العديد من الأحداث المفصلية، ولعبت القوى الأمنية على إدارة الفوضى داخل هذا المجتمع، فسعت تلك الأجهزة منذ بدايات الحراك إلى ضرب البنية القيمية لمجتمع الدروز من خلال تشويه العادات والتقاليد وزرع الشقاق بين أبناء المحافظة، وتمكين الزعران والعصابات والتشكيلات المؤيدة على حساب بقية شرائح المجتمع الذي يعاني أوضاعًا معيشيةً خانقة منذ سنوات عديدة، وكان هذا الخيار أفضل من الاقتحام العسكري لمناطق الدروز، وهو ما يناقض دعاية النظام بأنه حامي الأقليات في سوريا، ولكن ذلك لم يمنع الأجهزة الأمنية من اللجوء أحيانًا إلى التفجيرات والاغتيالات لخلط الأوراق.