“رمضان شهر الخيرات.. إفطار 10 مليون صائم.. رمضان عندنا طول العام.. طفل فقير أكفل قرية فقيرة.. بنحبك يا بهية.. مصر خالية من السرطان.. معًا للقضاء على فيروس سي”، عبارات حتمًا ستصيب مسامعك ما بين الثانية والأخرى على شاشات الفضائيات المصرية والعربية في شهر رمضان، صباحًا ومساءً، تهدف إلى زيادة أرقام ومعدلات التبرعات في الموسم السنوي لأعمال الخير والعطاء.
48300 جمعية أهلية في مصر منها 22102 غير مسجلة، تنفق 12 ألف جمعية منها 10 مليارات جنيه سنويًا على العمل المجتمعي، محتلة بذلك المرتبة الأولى شرق أوسطيًا، بحسب تصريحات وزيرة التضامن الاجتماعي المصرية غادة والي.
“بيزنس الجمعيات الخيرية”.. مصطلح وإن كان حديث العهد نسبيًا غير أنه بات وجبة دائمة على موائد النقاش والبحث خلال الأعوام الأخيرة على وجه التحديد، بعدما تجاوزت أرقام التبرعات مئات المليارات، غير أنه في الوقت ذاته ورغم أن الفقراء هم الفئة المستهدفة لهذه الجمعيات – منطقيًا -، فالواقع يشير عكس ذلك، فكيف تحول العمل الخيري في مصر إلى سوق رائجة للتربح عازفًا على أوتار البذل والعطاء، مستغلاً أنات المحتاجين؟
55 مليار جنيه سوق العمل الخيري
يبلغ حجم النشاط الخيري في مصر 55 مليار جنيه من إجمالي 655 مليار جنيه على مستوى العالم، ويعد رمضان الموسم الأكثر رواجًا لهذا السوق، وهو ما تكشفه أحجام الإعلانات المنتشرة، حيث تتهافت وكالات الدعاية على هذه الأنشطة في هذا الوقت من كل عام.
الأمر ليس بحاجة إلى جهد لتعرف أنك في شهر رمضان في مصر، فإعلانات التبرع والعمل الخيري الخارجية تملأ الطرقات والشوارع والميادين، هذا بخلاف ما يعرض على شاشات الفضائيات وعبر أثير الإذاعة، وهو ما دفع إلى زيادة أسعار الإعلانات في الوسائل المختلفة، وصلت في بعض القنوات الفضائية إلى 11 مليون جنيه مقابل نشر إعلان واحد مساحته لا تتجاوز 30 ثانية فقط.
وتعد الرسائل الهاتفية المخصصة لأعمال الخير واحدة من أبرز صور الحث على التبرع، إذ بلغت العام الماضي على سبيل المثال 4.9 مليون رسالة، مرسلة لـ52 مؤسسة وجمعية خيرية، بإجمالي نقدي بلغ 24 مليونًا، و625 ألف جنيه، وذلك بحسب دراسة لشركة “تي إيه تيليكوم” لخدمات الهواتف التي تدير منصة العمل الخيري الشهير “ميجا خير”.
يبلغ حجم النشاط الخيري في مصر 55 مليار جنيه من إجمالي 655 مليار جنيه على مستوى العالم
حجم التبرعات عبر الرسائل النصية بلغ رمضان الماضي 10 ملايين، و124 ألفًا، و530 جنيهًا، فيما أعلن صندوق “تحيا مصر” الذي تم تدشينه تحت رعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عن وصول حجم التبرعات له – فقط – قرابة 7.4 مليار جنيه.
أما عن حجم الأموال التي تنفق في أعمال الخير في رمضان، فتبلغ نحو 4.5 مليار جنيه، تنفق على 15.8 مليون أسرة مصرية يشكلون 86% من إجمالي عدد الأسر، من بينهم 1.8 مليار جنيه تُمثّل أموال الزكاة، نحو 200 مليون جنيه على موائد الرحمن، بينما يبلغ إجمالي حجم التبرعات والصدقات نحو 2.5 مليار جنيه سنويًّا، بمتوسط 272 جنيهًا لكل أسرة سنويًّا، وفقًا لدراسة أعدها مركز دعم المعلومات واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.
https://www.youtube.com/watch?v=7giOOAu5-dA
5 جمعيات تستحوذ على 80% من التبرعات
رغم تجاوز أعداد الجمعيات الخيرية في مصر حاجز الـ48 ألف، خمسة منها فقط – أعمار بعضها لم تتجاوز 3 سنوات – يستحوذون على 80% من أموال التبرعات، وهو ما أثار علامة استفهام لدى الكثير من المراقبين للنشاط الخيري في هذا البلد.
تتصدر هذه الجمعيات الخمسة، جمعية “الأورمان” – أنشئت عام 1993، ويرأسها اللواء ممدوح شعبان، صاحب التصريحات المثيرة للجدل الخاصة بعدم وجود فقير واحد في مصر -، ثم جمعية “رسالة” – أنشئت عام 1999 – وتتبرع بين الحين والآخر لصندوق “تحيا مصر” آخرها الـ5 ملايين جنيه لحملة علاج فيروس سي، تليها مستشفى (75357) – أنشئت عام 2007 – ثم “بنك الطعام” الذي أُنشئ عام 2006، وآخرها جمعية “مصر الخير” الذي يرأس مجلس أمنائها الدكتور علي جمعة مفتي مصر الأسبق، وأحد أبرز المقربين من النظام الحاليّ.
في الوقت الذي تستحوذ فيه تلك الجمعيات الخمسة – التي يجمع بينها خيط مشترك يتمثل في مغازلة النظام والفوز برضا القائمين عليه، على النسبة الكبرى من “كعكة” التبرعات، هناك مئات الجمعيات الأخرى التي لا تجد ما يسد رمقها، بينما تتحمل أضعاف ما تتحمله نظيراتها من أعباء العلاج والعمل الخيري.
5 جمعيات فقط تستحوذ على النصيب الأكبر من التبرعات
حجم التبرعات.. أسرار عسكرية
في دراسة أجرتها مؤسسة “شركاء من أجل الشفافية” للكشف عن أوجه إنفاق التبرعات التي تحصل عليها الجمعيات الخيرية، من باب حق المتبرعين في معرفة أين تذهب أموالهم، كشفت أنه لا توجد جمعية تقوم بنشر حساباتها وموازناتها على موقعها الإلكتروني سوى “بنك الطعام المصري”.
أما بقية الجمعيات الأخرى فرفضت الإفصاح عن حجم التبرعات التي تحصل عليها بزعم أنه لا توجد إحصائية بذلك كونها أمورًا سرية لا يجوز لأحد الاضطلاع عليها، فيما أوضح مسؤول داخل إحدى المؤسسات الخيرية الأخرى أن حجم التبرعات لا يعلمها سوى أمين صندوق المؤسسة لأن الإدارة ترى أنها أرقام خاصة وسرية للغاية، موضحًا أن الجمعية لا تعلن سوى عن الخدمات التى تقدمها للمحتاجين.
أعلن صندوق “تحيا مصر” الذي تم تدشينه تحت رعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وصول حجم التبرعات له – فقط – قرابة 7.4 مليار جنيه.
وعن أسباب امتناع تلك الجمعيات عن كشف حساباتها، أشار محمود وحيد رئيس مجلس إدارة مؤسسة “معانا لإنقاذ إنسان” – خاصة – إلى أن الجمعيات الكبرى لو قدمت كشف حساب حقيقي “لن يتبرع لها أحد لأن المتبرع سيصدم من الرواتب الكبيرة التي تصرفها هذه الجمعيات للعاملين بها”، مضيفًا: سيكتشف المتبرع أن 50% من تبرعه يصرف كرواتب للعاملين بالجمعيات.
علاوة على ذلك فهناك فجوة كبيرة بين رواتب المديرين في بعض الجمعيات، حسب مستوى كل جمعية، وحجم التبرعات التي تحصل عليها، فهناك مديرة لدار أيتام لا يتعدى راتبها 1500 جنيه شهريًا، فيما نظيرتها في دار أخرى يصل راتبها إلى 35 ألف جنيه، بينما في بعض الجمعيات الكبرى يتجاوز الراتب حاجز الـ70 ألف جنيه، بحسب كلام المصدر ذاته.
فوضى الإعلانات
تشهد الجمعيات الخيرية في مصر خلال شهر رمضان فوضى إعلانات غير مسبوقة في أي موسم آخر، مستغلة في معظمها غرائز ومشاعر المواطنين لإجبارهم على التبرع، إما بالتخويف أو استغلال الأطفال أو المغازلة بدخول الجنة، هذا ما أشار إليه الدكتور صفوت العالم أستاذ العلاقات العامة والإعلان بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
العالم في حديثه لـ”نون بوست” استنكر قيام الجمعيات الخيرية التي من المفترض أن تحافظ على كل جنيه من أموالها بإنفاق مئات الملايين على الإعلانات التي تستعين فيها بممثلين وشخصيات عامة تتقاضى عشرات الملايين مقابل تلك الإعلانات، متسائلاً: أليس من الأجدى توفير هذه الأموال لصالح الفقراء؟
في ميزانية مستشفى 75357 لعام 2016 بلغ الإنفاق على الأجور 280 مليون جنيه، بزيادة 33% عن العام السابق، فيما بلغ الإنفاق على العلاج 201 مليون جنيه بزيادة 25% عن 2015
وأضاف: المثير للدهشة أن بعض الجمعيات الكبرى التي تهدف جمع التبرعات تسعى “للشو الإعلامي” عبر الاستعانة بكبار الفنانين في حملاتها الإعلانية، مع أن الظرف لا يتحمل مثل هذه “الفشخرة” (المبالغة)، لافتًا إلى أن ميزانية الحملة الإعلانية لمستشفى 57357، بلغت 200 مليون جنيه في عام 2014، وهو الرقم الذي تضاعف بلا شك بعد ذلك بسبب تكثيف الحملات الإعلانية من جانب وارتفاع أسعار الدولار من جانب آخر، خاصة أن نسبة كبيرة من المتبرعين من خارج مصر.
جدير بالذكر أن إحصاءات السوق تؤكد أن كل مليون جنيه يتم صرفه في الدعاية والإعلانات يدخل أمامه من 3 لـ 5 ملايين جنيه، وهو ما يعني مئات الملايين من التبرعات تدخل خزينة تلك الجمعيات لا سيما الكبرى منها، ولعل هذا ما يفسر رفض تلك المؤسسات عن إعلان حجم تبرعاتها.
اتهامات متعددة لمستشفى 57357
57357 .. رحلة وهم هدفها الجباية
في تحقيق نشره الكاتب الصحفي أسامة داود رئيس لجنة العلاج بنقابة الصحفيين المصريين سابقًا، كشف بالوثائق والمستندات وشهادة الشهود مظاهر إهدار أموال مؤسسة مستشفى 57357 التي تحصل على تبرعات تصل إلى مليار جنيه سنويًا، بينما توجه تلك الأموال في غير الأغراض المخصصة لها، كنموذج لتحول مثل هذه الجمعيات إلى “سبوبة” للتربح بعيدًا تمامًا عن الهدف السامي الذي دشنت من أجله.
التحقيق اعتمد في معلوماته على الأرقام الواردة في ميزانية المستشفى والمعتمدة من مراقب الحسابات، بداية من عام 2015 وحتى موازنة 2018، حيث تشير الأرقام إلى أن بند الأجور بلغ عام 2015 نحو 210 ملايين جنيه، منها 192 مليونًا للعاملين في المستشفى، و18 مليونًا للعاملين في مؤسسة 57، فيما بلغ الإنفاق على العلاج نحو 160 مليون جنيه فقط، بنسبة أقل 20% من الأجور.
في ميزانية 2016 بلغ الإنفاق على الأجور 280 مليون جنيه، بزيادة 33% عن العام السابق، فيما بلغ الإنفاق على العلاج 201 مليون جنيه بزيادة 25% عن 2015، هذا بخلاف ضرائب كسب عمل ما زالت محل خلاف تزيد على 5 ملايين جنيه، مما يزيد من حجم بند الأجور.
في 2018 تم تخصيص 65.4 مليون جنيه من الموازنة التي تبلغ مليار و235 مليون جنيه، حوافز ومكافآت للعاملين بالمستشفى، فيما لا يخصص سوى القليل منها للإنفاق على العلاج وفقط، وهو مثار تساؤل طالب رئيس لجنة العلاج السابق بنقابة الصحفيين التحقيق فيه.
رغم تجاوز أعداد الجمعيات الخيرية في مصر حاجز الـ48 ألف، فإن خمسة منها فقط – أعمار بعضها لم تتجاوز 3 سنوات – يستحوذون على 80% من أموال التبرعات
الأمر لم يقتصر فقط على تخصيص الجزء الأكبر من التبرعات للعاملين بالمستشفى مقارنة بالعلاج، بل تجاوز ذلك إلى تفشي المحسوبية والواسطة في تحديد من يحصل على العلاج، وهو ما أقره مدير المستشفى ذاته، الدكتور شريف أبو النجا، في حوار أجري معه عام 2015 غير أنه أشار أن نسبة الدخول بالواسطة لا تتجاوز 5% على حد قوله.
بعض مقاطع الفيديو المصورة التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي لآباء وأمهات يفترشون الشارع أمام المستشفى بأطفالهم المريضة دون إمكانية الحصول على سرير لإدخال أبنائهم، لعدم وجود توصية من شخص أو آخر، تعزز هذه الفرضية بصورة كبيرة، في الوقت الذي تتشدق فيه المستشفى وإداراتها بفتح أبوابها أمام الجميع دون استثناء.
التناقض الملفت للنظر أنه في الوقت الذي يحصل فيه مستشفى مثل 57357 على مليار جنيه تبرعات سنويًا، بينما يمتلك 240 سريرًا فقط، 160 في القاهرة و80 آخرين في فرع طنطا، تستقبل قرابة 1200 حالة أورام جديدة فقط كل عام، في ظل وجود 6 آلاف حالة تردد للمتابعة، هناك مستشفيات أخرى تستقبل أضعاف هذا الرقم على رأسها مستشفى “أبو الريش للأطفال” بالجيزة التي تفتح أبوابها أمام مئات الآلاف من الأطفال سنويًا، ما بين مرضى الأورام، خاصة أورام المخ وأنيميا البحر المتوسط وجراحات القلب وجميع الأمراض الأخرى، فيما تقدم خدمتها من خلال 420 سريرًا فقط، بينما لم تزد التبرعات التي وصلتها خلال الفترة من 2011 إلى 2014 على 20 مليون جنيه، وفي ظل محدودية عدد العاملين خاصة التمريض حتى أصبح نصيب كل ممرضة 15 طفلاً تتولى الإشراف عليهم، بينما المعدل الطبيعي لها 4 حالات.