ترجمة وتحرير: نون بوست
تخضع “إسرائيل” للمحاكمة بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وقد طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال ضد قادة “إسرائيل” بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
يحتشد الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، من الفلسطينيين واليهود والمسلمين والمسيحيين والطلاب والعمال وغيرهم، لتحدي الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والإبادة الجماعية الإسرائيلية. إن جدار الإفلات من العقاب الذي يعود تاريخه إلى 76 سنة، والذي بنته الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والحكومات الغربية الأخرى لبنة تلو الأخرى، بدأ ينهار.
وقد جاء دليل آخر على ذلك في 19 تموز/يوليو عندما قضت محكمة العدل الدولية، في رأي استشاري مذهل، بأن القانون الدولي يحمي حقوق الفلسطينيين وأنهم ليسوا بحاجة إلى التفاوض مع مضطهديهم من أجل الحصول على تلك الحقوق بموجب اتفاقية أوسلو أو أي إطار سياسي آخر، موجهةً بذلك ضربة قاضية لعقود من الجهود الأمريكية والغربية لوضع “إسرائيل” خارج نطاق سيادة القانون.
وبهذا الإعلان البسيط، أنهت المحكمة ثلاثة عقود من الاستثنائية الإسرائيلية المبنية على حيلة أوسلو كحاجز أمام تطبيق القانون الدولي.
مع ذلك، لا تزال قضية حقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية تواجه صعوبات كثيرة، فالمشروع الصهيوني المدعوم من الغرب في فلسطين كان له السبق لعقود طويلة في بناء جدرانه القمعية، سواء كانت جدرانًا حرفية أو مجازية.
وضع الأسس الاستثنائية القانونية
أحد تلك الجدران، التي وُضع أساسها بالفعل في سنتي 1947 و1948، هو جدار الاستثنائية القانونية. فقبل أن يجف الحبر على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية، أتاحت الأمم المتحدة الوليدة التي يسيطر عليها الغرب استثناءً لإسرائيل لتكون فعليًا فوق القانون. بدأ ذلك بالتقسيم القسري للأراضي الفلسطينية، والذي كان انتهاكًا مباشرًا للحظر القانوني الدولي على الاستيلاء على الأراضي بالقوة وحرمان السكان الأصليين من حق تقرير المصير. وأعقب ذلك فشل الأمم المتحدة والغرب الذريع في التدخل لوقف التطهير العرقي الإبادي لفلسطين والذي أدى إلى نكبة 1947-1948.
وبينما توالت القرارات الحاسمة والإجراءات الرمزية في الأمم المتحدة، بدأ الغرب في نفس الوقت العمل بجدية لمساعدة “إسرائيل” وتسليحها لتصبح عصية على الإملاءات الخارجية للقانون الدولي، وعلى نزع القوة من الشعب الفلسطيني وتجريده من إنسانيته لمنع أي تهديدات داخلية حقيقية للمشروع الاستعماري.
بدأ التيار يتغير مع دخول موجة من الدول المستقلة حديثًا من دول الجنوب العالمي إلى الأمم المتحدة في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وبدأت السيطرة الغربية على الجمعية العامة للأمم المتحدة تضعف بعض الشيء.
وجد الشعب الفلسطيني حينها دعمًا جديدًا لنضاله بين الدول المستقلة حديثًا، وتخلّى الاتحاد السوفييتي عن موقف ستالين السابق المؤيد للصهيونية لصالح موقف داعم للفلسطينيين.
أما في الأمم المتحدة نفسها، فقد تمت صياغة المواقف المعلنة السابقة بشأن حقوق الإنسان في معاهدات دولية ملزمة، وبرز مبدأ تقرير المصير كمعيار عالمي أساسي، وصعدت حركة إنهاء الاستعمار العالمي.
نتيجة لذلك، واجهت “إسرائيل” واستعمارها الصهيوني لفلسطين عزلة أكبر، حتى مع مضاعفة الغرب من دعمه لها. وبحلول السبعينيات، كانت الأمم المتحدة قد أكدت على الحق في مقاومة الاحتلال الأجنبي والهيمنة الاستعمارية والأنظمة العنصرية، وأعلنت أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وأنشأت الأمم المتحدة آليات خاصة لحقوق الإنسان لمراقبة حقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية. كانت هذه التطورات تقوّض المشروع الغربي للاستثنائية الإسرائيلية وبدأت تهدد إفلات “إسرائيل” من العقاب.
ولكن في الوقت الذي كانت فيه المقاربة المرتكزة على القانون الدولي تجاه فلسطين تكتسب المزيد من الزخم، كانت نهاية الاتحاد السوفييتي إيذانًا ببداية حقبة جديدة أحادية القطب من الهيمنة الأمريكية غير الخاضعة للرقابة إلى حد كبير.
وعملت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على عزل “إسرائيل” عن الانتقادات القانونية والحقوقية في الأمم المتحدة، وألغو القرار الذي يعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، ثم أتبعوا ذلك بمؤتمر مدريد، الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى عملية أوسلو التي جعلت حقوق الفلسطينيين فيها رهن تقدير محتلهم الإسرائيلي وراعيه الأمريكي.
وهكذا، بدأ عقد التسعينيات بجهود متضافرة من الولايات المتحدة لتهميش القانون الدولي وحقوق الإنسان التي كانت ترجح كفة الموقف الفلسطيني في المفاوضات السياسية التي ستهيمن عليها الولايات المتحدة لصالح “إسرائيل”.
وأصبح الفلسطينيون الآن مجبرين، دون الاستفادة من القانون الدولي، على التفاوض من أجل حقوقهم ليس فقط مع من يحتلهم ويضطهدهم، بل أيضًا مع القوة العظمى العالمية الوحيدة التي هي الحليف الأقرب لهذا المحتل. وبهذا، اكتمل تجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه.
استمر وضع الفلسطينيين على الأرض في التدهور على مدى العقود الثلاثة التالية حيث استمر القمع الإسرائيلي والنشاط الاستيطاني بوتيرة متسارعة تحت غطاء أوسلو. والواقع أن اتفاقات أوسلو قد صيغت أجزاء منها بعناية لمنع اتخاذ إجراءات قانونية ضد “إسرائيل” لانتهاكها حقوق الإنسان الفلسطينية.
وقد انتهزت “إسرائيل” هذه الفرصة لترسيخ إفلاتها من العقاب في تنفيذ ما يزيد عن ثلاثين سنة من سرقة الأراضي، وعمليات الإخلاء، والتوسع الاستيطاني، واضطهاد الفلسطينيين العزل في جميع أنحاء الأراضي المحتلة.
لقد كانت اتفاقية أوسلو في جوهرها مكافأة على جرائم الحرب. وقد استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون كامل قوتهم الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية لدعم إفلات إسرائيل من العقاب والإصرار على أن تطبيق القانون الدولي على هذه القضية غير مناسب و”غير مفيد” للمفاوضات والسلام.
بدأت التصدعات في الظهور
بدأت التصدعات في جدار إسرائيل للإفلات من العقاب في الظهور بشكل خاص بعد تولي حكومة يمينية متطرفة جديدة السلطة في “إسرائيل” في سنة 2023.
تخلت هذه الحكومة، التي تتكون من مجموعة من الفاشيين والعنصريين والمستوطنين ومجرمي الحرب الأكثر شرا في البلاد، على الفور عن سياسة الإبادة الجماعية التدريجية التي تنتهجها “إسرائيل” (بدعم من الغرب) منذ 75 سنة، لصالح سياسة الإبادة الجماعية السريعة.
تحركت على الفور لتوسيع المستوطنات وزيادة الهجمات وتنفيذ المذابح على البلدات والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية، وإخلاء العائلات الفلسطينية في القدس الشرقية، وترسيخ الفصل العنصري في القانون (بناءً على قانون الدولة القومية التمييزي لسنة 2018)، واعتقال مئات السجناء السياسيين الإضافيين.
وبعد الهجوم الذي شنته جماعات المقاومة الفلسطينية المسلحة على جنوب “إسرائيل” في تشرين الأول/ أكتوبر، شنت إسرائيل حملة إبادة قاسية على شعب غزة وزادت من هجماتها على الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
كان الهجوم الإبادي الذي شنته “إسرائيل” على غزة شنيعاً للغاية، حيث طبقت حصارا من العصور الوسطى وسياسة الأرض المحروقة ضد 2.3 مليون إنسان محاصر، وقطعت كل إمدادات الغذاء والمياه والوقود والأدوية، وذبحت عشرات الآلاف، ونفذت التعذيب المنهجي، ودمرت المنازل ومخيمات اللاجئين والمستشفيات والمدارس والجامعات ومرافق الأمم المتحدة والمرافق الإنسانية، وفرضت المرض والتجويع عمداً، وقتلت المدنيين ببنادق القنص، ودمرت معظم غزة، حتى أن الآليات القانونية الدولية التي ظلت صامتة لفترة طويلة وجدت نفسها عاجزة عن مقاومة المطالبة العامة بالمساءلة. لقد بدأ صمت أوسلو الذي فرضته الولايات المتحدة في التآكل، وبدأ القانون الدولي يرفع صوته.
كانت محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تراقبان ما يحدث. وقد أدركتا أن القانون الدولي نفسه هو الذي يخضع للمحاكمة في محكمة الرأي العام، التي تتغذى على صور لا نهاية لها من الرعب الإبادي الجماعي التي يتم بثها مباشرة في جميع أنحاء العالم (والتصور القديم للمعايير المزدوجة الغربية في الآليات الدولية)، بما في ذلك هذه المؤسسات القضائية. لذلك، إما أن تتحرك هذه المحاكم، أو سيتم نزع شرعيتها بشكل نهائي.
ولحسن حظهم، وجدوا الشجاعة للتغلب على الضغوط الغربية (بما في ذلك التهديدات المباشرة لموظفي المحكمة من قبل وكالات الاستخبارات الإسرائيلية ومسؤولي الحكومة الغربية).
وبناءً على التماس من جنوب أفريقيا، انعقدت محكمة العدل الدولية للنظر في تهمة الإبادة الجماعية ضد “إسرائيل”، وحكمت بأن هذه التهمة معقولة، وأمرت بعدة جولات من التدابير المؤقتة لإسرائيل لوقف أفعالها الإجرامية.
وبعد سنوات من المماطلة والتحريف بشأن ملف فلسطين، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولا تزال العمليتان مستمرتين، مما يثير شبح المساءلة الحقيقية عن جرائم إسرائيل الدولية لأول مرة منذ توقيع اتفاقيات أوسلو.
الضربات النهائية للوضع الراهن
لكن بعد ذلك، فعلت محكمة العدل الدولية شيئًا آخر. ففي 19 تموز/ يوليو 2024، أصدرت حكما بشأن طلب رأي استشاري مقدم من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحددت بوضوح قانوني مذهل حقوق الشعب الفلسطيني ومتطلبات القانون الدولي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد وجدت المحكمة بشكل قاطع أن إسرائيل تمارس الفصل العنصري، وأن الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة هي أراض محتلة، وأن الاحتلال غير قانوني، وأن إسرائيل يجب أن تزيل جميع المستوطنات والمستوطنين والجنود والبنية التحتية للاحتلال، وتفكك جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، وتقدم تعويضات للفلسطينيين، وتسمح لكل من أجبِر على الخروج بالعودة إلى ديارهم.
وعلى نحو مماثل، قالت المحكمة إن جميع الدول ملزمة قانونًا بعدم الاعتراف بالاحتلال أو مساعدته، وملزمة بالمساعدة في إنهاء احتلال “إسرائيل” والانتهاكات الأخرى.
ووجدت أن جميع الدول يجب أن تنهي جميع العلاقات التعاهدية مع إسرائيل المتعلقة بالأراضي الفلسطينية، ووقف جميع العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية المرتبطة بالأراضي المحتلة. وعلى هذا فقد منحت محكمة العدل الدولية سلطة قانونية دولية واضحة لحركة مناهضة الفصل العنصري، وللدعوة إلى مقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.
والأمر الحاسم هنا هو أنها رفضت الحجج التي ساقتها الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات الغربية والتي سعت إلى الادعاء بأن المحكمة ينبغي لها أن تراعي المفاوضات التي جرت بعد أوسلو بين المحتل والشعب الخاضع للاحتلال، وسياسات مجلس الأمن، وليس تطبيق القانون الدولي.
في رفضها لهذه المطالبات، أعلنت المحكمة أن مثل هذه المفاوضات والاتفاقيات لا تتغلب ولا تستطيع أن تتغلب على حقوق الفلسطينيين والتزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني.
ووجدت المحكمة أولاً أنه في كل الأحوال، يتعين على الأطراف ممارسة أي سلطات ومسؤوليات بموجب هذه الاتفاقيات مع مراعاة قواعد ومبادئ القانون الدولي.
بموجب المادة 47 من اتفاقية جنيف الرابعة، حسمت المحكمة المسألة إلى الأبد، وذكّرت الدول بأنه من الناحية القانونية “لا يجوز حرمان السكان المحميين من فوائد الاتفاقية “بموجب أي اتفاق يبرم بين سلطات الأراضي المحتلة والقوة المحتلة”.
وتابعت المحكمة: “ولهذا السبب، لا يمكن فهم اتفاقيات أوسلو على أنها تقوّض التزامات إسرائيل بموجب القواعد ذات الصلة للقانون الدولي المعمول بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
بعبارة أخرى، أكدت المحكمة أن الفلسطينيين بشر يتمتعون بحقوق الإنسان، وأنهم ليسوا بحاجة إلى التفاوض على حقوقهم الإنسانية مع مضطهديهم، وأن إسرائيل ليست فوق القانون.
ولا شك أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين سيحاولون إحياء خدعة أوسلو دفاعا عن المشروع الاستعماري في فلسطين. ومن خلال القيام بذلك، سوف تستدعي إسرائيل “النظام القائم على القواعد” (أي الحكم الإمبراطوري الذي تمليه الولايات المتحدة) وترفض القانون الدولي (القانون العالمي المدون الذي ينطبق على جميع الدول).
لكن صلاحية هذه الحيل قد انتهت. إن الحركة من أجل تحرير فلسطين، ومقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وإنهاء الاستعمار والفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين، تنمو يوميًا.
وقد تم تمكين هذه الحركة بشكل أكبر من خلال التطورات الأخيرة في القانون الدولي. وأخيراً غرست محكمة العدل الدولية خنجرا في قلب مصاص دماء أوسلو.
المصدر: موندويس