يبدو أن ويلات الحصار الإسرائيلي المشدد المفروض على قطاع غزة ترفض ترك سكانه بعد عِشرة طويلة استمرت لأكثر من 12 عامًا، أذاقتهم خلالها الكثير من طعم الألم والمعاناة والحسرة التي باتت ملاصقة لحياتهم اليومية.
فالأزمات الاقتصادية في القطاع لا تزال تتوالى في الضرب على رؤوس ساكنيه، فلا يكفي أنهم يعانون من فقر وبطالة وصلت بهم لمعدلات خطيرة وغير مسبوقة، وإغلاق للمعابر الحدودية والعيش في أزمات إنسانية طاحنة، لتطل عليهم أزمة جديدة وجهت ضربة مزدوجة للسوق والاقتصاد معًا وقربتهما كثيرًا من الهاوية.
منذ شهور طويلة يعاني سكان قطاع غزة من أزمة سيولة نقدية حادة، لكن الأسابيع الأخيرة اشتدت كثيرًا حتى أصابت البنوك والمصارف المالية والأسواق بالشلل التام، وسط شكاوى من المواطنين حتى اللحظة لم تجد آذانًا مصغية لها.
الدولار اختفى
ترفض المصارف والبنوك، شراء أو تبديل أي من العملات الصعبة وخاصة فئة “الدولار” التي تكون قديمة أو مهترئة، بحجة أنها “أموال غير نظيفة”، الأمر الذي يجبر المواطنين على بيعها في السوق السوداء بسعر أقل من سعر بيعها الحقيقي بما يقارب من 6-10%.
ويشهد قطاع غزة حالة نادرة للغاية قد لا تجدها في أي دولة أخرى وهو وجود تسعير مختلف لنفس العملة عند شركات الصرافة، حيث تنتشر ظاهرة ما يسمى بالدولار الأزرق “الجديد”، والدولار الأبيض “القديم المهترئ” في الأسواق، ويتم تسعير الدولار الأبيض بسعر أقل من الدولار الأزرق.
وتكمن المشكلة في أن أغلب الدول تتمكن من استبدال الدولار القديم بالجديد، وهي عملية تسير بسهولة من خلال البنوك التي بدورها تشحن النقد عبر قنوات مصرفية ليصل بالنهاية إلى الفيدرالي الأمريكي، ويقوم الفيدرالي الأمريكي بإعدام الطبعة القديمة وطباعة حجم مشابه من الطبعة الجديدة الزرقاء.
تتلكأ السلطة في تسليم موظفيها في القطاع العمومي بغزة رواتبهم، وتماطل في إعطاء المنتفعين مخصصات الشؤون الاجتماعية تحت ذريعة الضغط على القطاع سياسيًا
مختصون في الشأن الاقتصادي، يؤكدون أن استمرار نقص السيولة النقدية في قطاع غزة، وخاصة في ظل رفض “إسرائيل” إدخال عملة الدولار للقطاع يربك الدورة المالية، ويقوض القطاعات الإنتاجية ويضعف نموها كما يسبب خسائر للتجار والموردين.
يقول المختص الاقتصادي سمير الدقران: “مواصلة السلطة فرض عقوباتها الاقتصادية لأكثر من عام على قطاع غزة تسبب في إحداث إرباك في الدورة المالية”، مضيفًا “تلك الأزمة عرضت المنشآت الاقتصادية والتجار والمستوردين لخسائر فادحة، حيث لم يعد بمقدورهم الالتزام بدفع ما عليهم من استحقاقات مالية للجهات المشغلة والموردة”.
وتتلكأ السلطة في تسليم موظفيها في القطاع العمومي بغزة رواتبهم، وتماطل في إعطاء المنتفعين مخصصات الشؤون الاجتماعية تحت ذريعة الضغط على القطاع سياسيًا. من جهته أوضح المختص في الشأن الاقتصادي الحسن بكر أن “تراجع دخل المواطن المتاح للاستهلاك وتآكل المدخرات نتيجة الادخار السلبي أدى إلى غياب السيولة في أيدي المواطنين”. ولفت إلى أن ذلك ترتب عليه تراجع الاستهلاك بقوة مما أسهم في تكدس البضائع لدى التجار دون مشترٍ لها.
واعتبر المختص الاقتصادي أن نقص السيولة مؤشر خطير على النمو الاقتصادي في قطاع غزة ويسبب تسريح عدد كبير من العمال، مشيرًا إلى أن الكساد التجاري انعكس بشكل كبير على القطاع الخاص، وبات يهدد قدرته على المحافظة على نفسه واستمرارية العديد من وحدات القطاع الخاص. وأكد أن ما يتعرض له قطاع غزة، يهدف لتجفيف الإيرادات الحكومية في غزة لتحقيق أغراض سياسية، لذلك فإن البدائل للخروج من هذه المشكلة محدودة جدًا.
أزمات كبيرة
مدير دائرة الدراسات والتخطيط في وزارة الاقتصاد الوطني أسامة نوفل أكد إن نقص السيولة أثر على أعمال البنوك والمصارف في قطاع غزة. وبيّن نوفل أن البنوك تواجه مشكلة الآن في تحصيل الأقساط التي أعطتها لعملائها، وعلى إثر ذلك قللت من منح تسهيلات ائتمانية جديدة خشية عدم قدرة المنتفعين على تسديدها، لافتًا إلى أن البنوك تأثرت أيضًا بنقص الودائع الموجهة لها مما يعني استمرار النقص في أرباحها السنوية.
حسب المؤشرات الاقتصادية فإن 49.1% نسبة البطالة في قطاع غزة خلال الربع الأول من العام الحاليّ، و53% معدلات الفقر، كما شكلت 72% نسبة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر في غزة
وأشار إلى أن الإحصاءات الصادرة عن سلطة النقد أظهرت أن نسبة ودائع قطاع غزة في البنوك لا تمثل أكثر من 10% من إجمالي الودائع الفلسطينية. ولفت إلى أن 400 مليون شيكل مخزنة في مصارف غزة لا يتم التداول بها في الأسواق نظرًا لتراجع القوة الشرائية، مؤكدًا أن استمرار نقص السيولة في الأسواق يؤثر في دورة رأس المال بين المنتجين والمستهلكين.
بحسب المؤشرات الاقتصادية فإن 49.1% نسبة البطالة في قطاع غزة خلال الربع الأول من العام الحاليّ، و53% معدلات الفقر، كما شكلت 72% نسبة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر في غزة. وكان مسؤول العلاقات العامة في غرفة تجارة وصناعة غزة ماهر الطباع، أشار إلى انخفاض واردات قطاع غزة بنسبة تتجاوز 15% خلال الربع الأول من العام الحاليّ. ولفت إلى أن حجم الشيكات الراجعة في قطاع غزة خلال الربع الأول من العام 2018، بلغ 26 مليون دولار.
يفرض الاحتلال حصارًا على غزة منذ وصول حركة حماس إلى السلطة بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، حيث أغلق أربعة معابر تجارية، وأبقى على معبرين فقط؛ هما معبر كرم أبو سالم كمنفذ تجاري، ومعبر بيت حانون كمنفذ للأفراد
يعتبر جمال صالح رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس التشريعي والنائب عن كتلة حماس البرلمانية أن أزمة السيولة النقدية في القطاع سببها الرئيسي سياسي مرتبط بالحصار الإسرائيلي وما أسماه تواطؤ السلطة الفلسطينية ودول عربية لإخضاع حركة حماس.
ورأى صالح أن ما يجري في اقتصاد غزة بمختلف الأشكال هو صورة للتحكم في الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، مشيرًا إلى أن أزمة الشيكل وأزمة العملة الصعبة – وخاصة الدينار والدولار – من أهم الأزمات التي تعترض السيولة.
ويفرض الاحتلال حصارًا على غزة منذ وصول حركة حماس إلى السلطة بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، حيث أغلق أربعة معابر تجارية، وأبقى على معبرين فقط؛ هما معبر كرم أبو سالم كمنفذ تجاري، ومعبر بيت حانون كمنفذ للأفراد.
وزادت الأوضاع سوءًا وتدهورًا بعد قرارات الرئيس عباس، في أبريل من العام الماضي، بتقليص الدعم الموجه لغزة من الكهرباء، وخصومات على رواتب موظّفي السلطة، وإيقاف التحويلات البنكية، في حين تصرّ الحكومة على عدم إدراج غزة ضمن موازنتها السنوية أو حتى صرف أي أموال للقطاع.