لأكثر من سنتين، بقي اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وقواته والمليشيات القبلية الداعمة له على مشارف مدينة درنة، دون أن يتمكنوا من دخولها رغم المجهودات الكبيرة التي بذلت لذلك، من تجويع للسكان إلى قصف للمدنيين بمساعدة مصرية إماراتية، حتى جاءهم الدعم العسكري الفرنسي، فكان لهم ما أرادوا.
دعم إستراتيجي أرادت من خلاله فرنسا، وفقًا لعدد من المراقبين، نفخ الروح في جسد حليفهم حفتر المتهالك، فكلما تراجعت مكانته في البلاد، وجد الدعم من “صديقه” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يدعي لعب دور الوسيط المحايد في الأزمة الليبية.
مساعدات عسكرية جديدة
هذا الدعم العسكري الجديد الذي من شأنه تغليب كفة حفتر في معركته ضد أهالي مدينة درنة، كشفه تقرير لموقع “أفريكا إنتيليجانس“، وتتمثل هذه المساعدة وفقًا للموقع في طائرة استطلاع تشغلها شركة CAE للطيران، التي تعمل أيضًا لصالح جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي.
وتستقر الطائرة في قاعدة الخديم العسكرية الجوية إلى جانب طائرة Air Tractor للهجمات الأرضية التي تشغلها القوات الخاصة الإماراتية، ونفذت الطائرة من هذه القاعدة الجوية عدة جولات استطلاعية فوق درنة، أبرزها في 16 من مايو/أيار 2018، وهو اليوم الذي اشتد فيه القتال عقب وصول قوات حفتر إلى الضواحي الجنوبية للمدينة.
لم يفلح الحصار المفروض على المدينة ولا القصف الجوي في إخضاع درنة واستسلام أهاليها لحفتر
كما نفذت، وفقًا لنفس الموقع، عدة جولات أكثر سرية في منطقة فزان جنوبي ليبيا، حيث تلعب دورًا محوريًا على هاتين الجبهتين، بما تقوم به من جمع للمعلومات الاستخباراتية، وربما في بعض الأحيان تحديد الأهداف المحتملة، والطائرة مزودة بكاميرا نهارية وأخرى ليلية، ونطاق كامل من ترددات UFH وVHFوGSM، ومعدات اعتراض الاتصالات بالأقمار الاصطناعية ومعدات تحديد الموقع الجغرافي.
ولم يفلح الحصار المفروض على المدينة ولا القصف الجوي في إخضاع درنة واستسلام أهاليها لحفتر، وسبق أن أكد هذا الأخير خلال كلمة ألقاها في الـ7 من مايو/أيار 2018، في حفل تخريج الدفعة الـ51 من الكلية العسكرية أن ساعة الصفر لتحرير درنة قد دقت، وأضاف “المساعي السلمية لمدينة درنة استمرت أكثر من 3 سنوات بواسطة عقلاء المدينة ونشطاء من الشباب لنجنبها ويلات الحرب حتى بلغت تلك المساعي طريقًا مسدودًا”.
ليست الأولى
هذا الدعم الفرنسي لحفتر لم يكن الأول من نوعه، ففي الـ20 من يوليو 2016، تم كشف وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسا سابقًا نيتها التدخل العسكري المباشر هناك، حيث أعلنت باريس يومها ذلك عندما قال لي فول المتحدث باسم الحكومة الفرنسية: “نستطيع تأكيد وجود قوات خاصة فرنسية في ليبيا”، للمشاركة في محاربة من وصفهم بـ”الإرهابيين”.
وجاء هذا الاعتراف قبل ساعات قليلة من إعلان الرئيس الفرنسي حينها فرنسوا أولاند، مقتل ثلاثة جنود فرنسيين بعد تحطم طائرة هليكوبتر كانوا على متنها في بنغازي شرقي ليبيا، في مهام استخباراتية “خطيرة” ضمن عمليات تكافح الإرهاب، بحسب أولاند ووزير دفاع حكومته، وأعلنت قوات مؤيدة لحفتر أن القتلى “كانوا مستشارين عسكريين لهم”.
الطائرات الفرنسية أحدثت انقلابًا في موازين القوى
ففي الـ9 من يوليو/تموز 2016، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، تسجيلات صوتية مُسربة، لمحادثات الخطوط الجوية في بنغازي شرقي ليبيا، كشفت دعمًا عسكريًا فرنسيًا وغربيًا للقوات الموالية لحفتر شرقي البلاد، بوجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك.
إلى جانب ذلك، نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية في الـ24 فبراير/شباط 2016، تقريرًا صحافيًا أفاد بوجود قوات خاصة فرنسية في الشرق الليبي تُنفذ عمليات سرية، وجاء في التقرير: “فرنسا شرعت في القيام بضربات دقيقة ومحددة للغاية، في ليبيا، وقع تحضيرها اعتمادًا على إجراءات سرية؛ بل سرية للغاية”.
مزيد من تعقيد الأزمة الليبية
التدخل العسكري المباشر وغير المباشر لفرنسا في ليبيا، لا تهدف باريس من خلاله المساهمة في حل الأزمة الليبية المتواصلة منذ سنوات، وإنما مزيد من تعقيدها وفقًا لعدد من المتابعين للشأن الليبي، ذلك أن تعمل على تغليب طرف على طرف لإطالة أمد الصراع هناك.
وما فتئت فرنسا تدعي الحياد ووقوفها على مسافة واحدة بين جميع الفرقاء الليبيين، وتقود الوساطات بينهم، وآخرها احتضانها لمؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، التقى خلاله الأطراف الليبية المتنافسة واتفقوا على خريطة طريق تهدف إلى حل القضايا المتنازع عليها لتمهيد الطريق لإجراء انتخابات تدعمها الأمم المتحدة قبل نهاية 2018.
غير أن موقفها على الأرض كان عكس ذلك، فباريس لا تخفي دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي تتهم قواته بارتكاب جرائم حرب، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد.
تعتبر فرنسا من أولى الدول إلى جانب مصر والإمارات التي انقلبت على الاتفاق السياسي الذي أيدته الأمم المتحدة
ويساهم التدخل العسكري الفرنسي المتنامي في ليبيا في مزيد من تعقيد العملية السياسية في هذا البلد العربي الذي يشكو من فوضى السلاح والإرهاب وتجارة البشر، ويؤكد العديد من الليبيين أن التدخل الفرنسي في بلادهم غير مبرر، فهي لا تملك حق التدخل في ليبيا سواء أكان تدخلاً عسكريًا مباشرًا أم غير مباشر.
وتعتبر فرنسا من أولى الدول إلى جانب مصر والإمارات التي انقلبت على الاتفاق السياسي الذي أيدته الأمم المتحدة، بين الأطراف الليبية في الصخيرات وتنحاز لخليفة حفتر وذلك بوجود جنود فرنسيين والقيام بعمليات عسكرية إلى جانب حفتر الذي انقلب على الحكومة الليبية الشرعية.
ويرى المسؤولون في باريس، وفقًا لعدد من المحللين، أن التعامل مع ديكتاتوريين وأشخاص أقوياء كجنرالات الجيش والأمن الذين يستطيعون فعل أي شيء دون مراعاة القانون، أفضل من التعامل مع حكومات هشة منتخبة بصورة ديمقراطية.
دعم دبلوماسي
دعم فرنسا لحفتر لم يكن عسكريًا فقط، بل دبلوماسيًا أيضًا، فما إصرارها على وجود حفتر، وهو الذي يفتقد لأي شرعية، في الاجتماعات التي احتضنتها باريس لبحث سبل إيجاد حل للأزمة الليبية، إلا رغبة منها إلى فرض حفتر على مختلف الفرقاء الليبيين.
ويكشف إصرار باريس على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل الاستفتاء على الدستور والمصادقة عليه، حرصها على تجاوز إرادة الليبيين الذين ينادون بضرورة المصادقة على الدستور قبل إجراء أي انتخابات في البلاد.
يصر ماكرون على دعم حفتر على حساب السراج
وتخشى فرنسا من أن إقرار هذا الدستور سيعجل بنهاية حليفها حفتر، فهذا الدستور يمنعه رفقة العديد من القيادات في الشرق من الترشح للمناصب السياسية المقبلة، فهو يحدد صراحة الشروط اللازم توافرها في متقلدي المناصب، وأقلها ألا يكون المترشح عسكريًا وألا تكون له جنسية أخرى.
وينص البند الثامن من المادة 111 لمسودة الدستور التي تتضمن شروط الترشح لرئاسة الجمهورية أن “تمضي سنتان على الأقل على انتهاء خدمته قبل تاريخ ترشحه، في حال كون المترشح عسكريًا أو منتميًا للأجهزة الأمنية”.
ازدواجية في الخطاب
ما تقوم به باريس، يكشف ازدواجية في الخطاب، وسبق أن تصاعدت الأصوات في ليبيا ضد فرنسا، متهمة إياها بأنها تقوم بلعبة مزدوجة، تشمل تأييدًا دبلوماسيًا لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، ودعمًا عسكريًا لخصمها حفتر الذي لا يعترف بها.
غير أن السلطات الفرنسية ما فتئت ترفض هذه الاتهامات مؤكدة أنها تقوم بتحركات براغماتية هدفها الوحيد هو مكافحة تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية في المنطقة، والسيطرة على طريق الهجرة غير الشرعية في البحر والصحراء الذي يسيطر عليه تجار البشر.