وصل عدد الأطباء السوريين العاملين بالقطاع الصحي في ألمانيا هذا العام إلى أكثر من 6 آلاف طبيبًا وطبيبة باشروا عملهم مع بداية العام الجاري، بحسب إحصاء جديد أجرته غرفة الأطباء الاتحادية، ما يجعلهم الفئة الأكبر بين الأطباء الأجانب العاملين في ألمانيا، الذين قُدّر عددهم بـ60 ألفًا يتوزعون على جنسيات مختلفة.
أوضح التقرير، أن هذا العدد يحدّد فقط من لا يحملون جواز سفر ألماني، إذ تشكّل أعداد الأطباء والممرضين والصيادلة السوريين الحاملين للجنسية الألمانية رقمًا أكبر بكثير من هذا.
يعتمد النظام الصحي في ألمانيا بشكل كبير على المهاجرين وذوي الأصول الأجنبية، إذ يعاني القطاع منذ سنوات من نقص في الكفاءات الألمانية بسبب مشكلات عديدة، منها ساعات العمل الطويلة، وصعوبة تحصيل القبول الجامعي في كليات الطب، وزيادة الشيخوخة السكانية، التي تتطلب باستمرار أعدادًا كبيرة من مقدمي الرعاية الصحية، بالإضافة إلى عدم قدرة اللاجئين والأجانب المستقدمين للعمل على تحقيق المهارات اللغوية المطلوبة.
نحكي في هذا التقرير، قصة نجاح شاب سوري، خاطر بحياته للسفر إلى أوروبا عبر البحر بعد أن كانت حياته مهددة في بلده سوريا، درس اللغة الألمانية ثم التمريض كتخصص جديد كليًا عليه، وبات محط أنظار وإعجاب الصحافة المحلية هناك.
البدء من جديد للمرة الثانية
سليم قصّاب، شاب سوري من مواليد مدينة اللاذقية، يحمل شهادة بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة تشرين. في الأشهر الأولى بعد تخرجه من الجامعة عام 2012 كانت الثورة اتخذت منحًا آخر، ظهرت من خلاله بوادر العسكرة والتسليح، وكان لزامًا عليه بحكم سنه التقدم لأداء الخدمة العسكرية، لكنه قرر مثل مئات الشباب السوريين حينها مغادرة سوريا نحو بلدان اللجوء، وكانت مصر وجهته الأولى نظرًا لقلّة الخيارات وعدم اشتراطها تأشيرة دخول حينها.
لكن لم تكن الإقامة في مصر على قدر التوقعات، لذا لم يدم بقاؤه فيها طويلًا، إذ يقول في حديثه لـ”نون بوست”: “بمصر اشتغلت كمعلم لغة إنجليزية، وتنقلت بين الإسكندرية والقاهرة. كان الحل الوحيد للبقاء بطريقة نظامية بالبلد هي عبر الإقامة السياحية برسوم تجديد سنوية عالية، لكن بسبب ارتفاع نسبة البطالة وقلّة الفرص كنت مضطرًا للعمل بالشتاء أثناء العام الدراسي. وبالصيف أبقى بدون شغل. ولهيك أول ما عرفت إنه أوروبا عم تستقبل اللاجئين، قررت استغل الفرصة وسافر على تركيا”.
يصف رحلته من تركيا إلى أوروبا بأنها كانت صعبة جدًا، نظرًا إلى ما كانت عليه الظروف في عام 2015 حيث كانت الأجواء أكثر ترحيبًا باللاجئين بشكل عام، فيقول: “اتفقت مع المهرّب أن تتم العملية بيخت من مدينة بودروم مقابل ما يزيد عن 1000 يورو، باعتبار أن اليخت آمن أكثر من القارب والبلم، وفعلًا بعد تسلق جبال والزحف في وديان خطيرة وصلنا لليخت وعبرنا لليونان. طبعًا ظننتُ أني نجوت، لكن على العكس كل شي بعدها صار أصعب”.
- سليم بعد لجوئه إلى ألمانيا بفترة قصيرة بداية عام 2016
في نهاية عام 2015 أعلنت منظمة الهجرة والمفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة في بيان مشترك، أن نحو مليون لاجئ، نصفهم سوريون، عبروا البحر المتوسط من تركيا مرورًا ببلغاريا واليونان. ويصف سليم هذا الجزء من رحلته مؤكدًا أنه شاهد حشودًا ضخمة من الناس تحاول قطع السياج الحدودي بين صربيا وهنغاريا، في تدافع كاد يودي بحياته وحياة أفراد من عائلته كانوا معه.
“يمكن هي أول مرة بكون فيها قريب من الموت لهالدرجة. بوحدة من نقاط العبور بين صربيا وهنغاريا كان في أفواج بشرية مخيفة عم تتدافع لتعبر للجهة الأخرى، بمشهد ما بذكرني إلا بوصف أهوال يوم القيامة. والفاصل كان سياج حدودي قصير وصدئ، ولأني كنت واقف عند السياج تمامًا شعرت لوهلة إنه الناس رح تعبر من فوقي وتكمل طريقها. لو بلحظتها ما تحركت وأفسحت المجال كنت قطعًا متت هداك اليوم”.
نشوة الحصول على فرصة أخرى
بيّن تقرير أعدّته قناة MDR Fernsehen الألمانية عام 2022، أن اللاجئين السوريين يواجهون صعوبات في إيجاد فرص العمل في ألمانيا، رغم أن الكثير منهم يحملون شهادات عليا في مجالات متنوعة. إذ اعتبر التقرير أن اللغة الألمانية غالبًا ما تكون حجر عثرة في طريق اللاجئين للانخراط في سوق العمل، بالأخص فيما يتعلق بالقطاعات الطبية والمهنية. إذ إن نقص دورات اللغة التأهيلية وعدم دراية مكاتب تأهيل اللاجئين بتفاصيل العمل في قطاعات معيّنة، يترك اللاجئين دون خطة إرشادية تساعدهم على الوصول إلى مراتب أعلى مهنيًا.
- من حساب صحيفة Saarbruker Zeitung على منصة إنستغرام
واجه سليم المشاكل ذاتها بعد وصوله إلى ألمانيا عام 2015، إذ رغم إتمامه مستويات اللغة المطلوبة كافة وامتلاكه شهادة تمكّنه من التعليم والكسب، فإنه بقيَ دون عمل لفترة تقارب السنتَين نتيجة عدم وجود مساقات تؤهّل المعلمين الأجانب لممارسة مهنة التعليم في ألمانيا، إذ تنحصر مهنة التدريس والتعليم على من أتموا دراستهم الجامعية في ألمانيا فقط.
يحكي سليم أنه اضطر أخيرًا للبحث عن مهنة جديدة ومطلوبة في ألمانيا، قائلًا: “سألت كثيرًا وبحثت بمئات الخيارات، ولم أصل لنتيجة، إلى أن نصحني أحد أصدقائي العاملين بالقطاع الصحي بدراسة مهنية أو ما يدعى “آوسبيلدونغ”. طبعًا استغربت الفكرة كثيرًا، أنا متخرج في كلية أدبية أصلًا، ثم كيف سأبدأ بتعلم تخصص جديد من الصفر بعمر الـ30؟ وتخصُّص طبي متل التمريض! كانت فكرة مخيفة، وبنفس الوقت فرصة عظيمة”.
- سليم مع أحد أساتذته عام 2016
ويكمل: “خضعت لمدة عام لتدريب يسمّى Praktikum، وهو عبارة عن مساقات تدريبية دون مقابل مادي، في مجال الصحة والرعاية الطبية، بتأهّل الطالب وبتجهزه لسنوات الدراسة. كانت صعبة ومليانة ضغط نفسي وجسدي، بين محاولات ملاحقة الدروس وإنهاء التدريب بأسرع وقت. لكن مع ذلك اجتزته واستكملت سنوات التعليم الـ3 كممرض، رغم ضعف لغتي وعدم تقديم المدرسين أيّ تسهيلات أثناء رحلة التعليم، متل إعطائنا وقت أطول للاستعداد للامتحانات أو شروح أكتر للدروس، لذلك كنت أقضي حوالي 7 ساعات في المدرسة و5 ساعات أخرى في البيت بين ترجمة الدروس وفهمها”.
الالتزام بالمثابرة والإحسان
يعمل سليم حاليًا في مستشفى St. Joseph Krankenhaus بمدينة ساربروكن في مقاطعة سارلاند، جنوب غرب ألمانيا، بعد أن استطاع تحقيق نجاح ملحوظ في مهنته الجديدة، مكّنه من الحصول على فرصة عمل في وقت قياسي.
كما أنه يثابر في تعلُّم لهجة سكان مقاطعة سارلاند، بعد أن تمكّن من تعلم اللغة الألمانية بدرجات متفوقة، وهو ما كان محط إعجاب إحدى الصحف الألمانية، التي بادرت إلى تقديم تجربته على أنها مثال يحتذى به لنجاح المهاجرين في القطاع الصحي بألمانيا، عبر مقال عنوانه “بعد لجوئه.. سليم يجتهد من أجل تخفيف الآلام عن الآخرين”.
- صورة لسليم في أثناء عمله في مستشفى St. Joseph Krankenhaus من صحيفة Saarbruker Zeitung
يشيد المقال بتفوق سليم في التحدث باللهجة الأصلية للمرضى، واهتمامه بتعافيهم النفسي والجسدي في آن واحد، ومدى الجهد الذي يبذله لخلق تواصل حقيقي مع كل من حوله من زملاء عاملين في المستشفى ومرضى.
كما يثمّن حرصه على الإحسان في عمله بأفضل طريقة ممكنة، من خلال خلق بيئة مرحة وآمنة. فتقول إحدى الطبيبات الزميلات، ماريا شلايشر، ممازحة: “لا يمكننا أن نستغني عن سليم ولن نسمح برحيله إلى مستشفى آخر. إنه بالنسبة إلينا بمثابة حجر نفيس”.
- سليم عام 2022 في أثناء جائحة كوفيد 19
يضيف سليم أخيرًا أن إيمانه بأحكام وتقادير الله عز وجل بأن يكون في هذه المهنة وفي هذا المكان لخدمة المرضى ومساعدتهم، هو ما يحركه للعمل بجهد وعناية أكبر، موقنًا أن كل ما يفعله نابع من استشعاره لمعاني اللطف والإحسان التي أمرنا ديننا بها، وعلينا أن نتمسك بها أكثر كسوريين مرّوا بتجارب وخسارات فظيعة على المستوى الفردي والجماعي.