ربما لم تحظَ مدينة سودانية بما حظيت به كَسَلا (بفتح الكاف والسين) من اهتمام الشعراء وتغزلهم بها، فالمدينة – التي تقع في أقصى شرق البلاد بالقرب من الحدود مع دولة إريتريا ـ كانت منذ القدم ملهمة الشعراء والفنانين السودانيين لطبيعتها الخلابة ومناخها المعتدل خاصة في شهور الصيف إلى جانب وقوعها على ضفاف نهر القاش الموسمي وتحت جبل كسلا الذي اشتقت منه اسمها.
هي عاصمة الولاية التي تحمل الاسم ذاته وتعد الركن الثاني في ولايات السودان الشرقية (البحر الأحمر، كسلا، القضارف)
ولها سحرٌ خاصٌ في جمالها الطبيعي وألفتها واحتوائها للقادمين، فهي تقع وسط سهول البطانة ونهر القاش القادم من أعماق الهضبة الإريترية ما أكسبها خضرة على مد البصر ومناخًا معتدلًا لذلك كانت المدينة المفضلة لقضاء شهر العسل للمتزوجين حديثًا قبل أن تنافسها مدينة بورتسودان في الآونة الأخيرة.
وهناك مقولة شائعة عند أهلها “من يشرب من ماء القاش وتوتيل سيرجع مرة أخرى لكسلا”، وتوتيل جبل آخر يقع بالقرب من جبالها به منبع مائي طبيعي تقول أسطورة بجاوية أخرى إن مياه توتيل بها شيء ما يسعد النفس ويبهجها.
مدينة كسلا
اختلف الرواة والمؤرخون في سبب تسمية المدينة بهذا الاسم، فهناك من يقول بأن كسلا ترادف بلغات البجة المختلفة، لفظ “مرحبا”، وهي أيضًا تعني المكان “الظليل” بلغة قبيلة بني عامر، وهناك من يرى بأن اللفظ كسلا ما هو إلا تحريف للفظ “كَساي- ألا” بلغة البداويت المنتشرة في المنطقة، وتعني زوال ظل الجبل، ويعتقد البعض أن الاسم مرتبط بزعيم من الحبشة هو كَساي لول الذي شنّ حربًا على قبيلة الحلنقة امتدت إلى المنطقة التي تقوم عليها كسلا حيث دارت معركة نهائية وحاسمة بين الجانبين انتهت بمقتله في المكان الذي يسمى اليوم ربا كسلا.
ويقول أحمد طه الجنرال الكاتب والباحث في التاريخ الاجتماعي، إنّ بعض الرواة يعتقدون أن الاسم يعود لفتاةٍ كانت تسكن تحت سفح الجبل اسمها “كسلا” تصنع القهوة ويغشاها المسافرون لتناول الطعام وشرب القهوة ثم يواصلون ترحالهم فسارت بالاسم الركبان وارتبط اسم الفتاة بالمكان.
تحيط بالمدينة سلاسل من الجبال
الديمغرافية والتاريخ
مدينةٌ تمتزج فيها الأعراق والقبائل لأنها مدينة عبورٍ وتلاقٍ لهجرات الإنسان من أواسط القارة الإفريقية ونحو ساحل البحر الأحمر ومن مرتفعات الحبشة نحو سهول السودان، ومن أبرز المجموعات القبلية والإثنية في كسلا: الرشايدة والشكرية والهدندوة والبوادرة واللحويين والحلنقة والفلاتة والهبانية والهوسا والإيليت والبازا والجعليين والشايقية والحمران وغيرهم.
ويحيط بها عدد من القرى الصغيرة المتناثرة مثل ود شَريفَيْ والجيرَة في السودان وتمَرَات واللفة في إريتريا، إضافة إلى القبائل المشتركة بين السودان وإريتريا مثل البني عامر والرشايدة والحباب وغيرهم.
دلّت الاستكشافات والبحوث التي أجريت على قطع الفخار وغيرها من الآثار التي عثر عليها أن المنطقة التي تقوم عليها كسلا الآن كانت على صلة وتبادل تجاري وجنوب مع مملكة أكسوم الحبشية وشبه الجزيرة العربية ومصرفي أوقاتٍ متفرقة.
خضعت كسلا للاستعمار الإيطالي لعام واحد (1940) عندما احتلتها وحدة من قوات شرق إفريقيا الإيطالية التي كانت تسيطر على إريتريا
ويرجع ظهورها كمدينة إلى العام 1622 عندما كانت تسودها مشيخة آل حامد بن نافع التي كانت تتكون من تجمع قبلي ضم أشراف آل الشيخ حامد، من الهدندوة والشكرية والبني عامر وغيرهم.
وخضعت المدينة وما حولها لسلطة مملكة الفونج السنّارية لفترة من الزمان بدأت عام 1656، ثم كانت جزءًا من الدولة العثمانية التي انتزعتها من حكام سنار عام 1840 لتكون عاصمة إقليم “التاكا”، وفي عهد الاستعمار البريطاني للسودان تم تخطيطها وتنظيمها مع الاحتفاظ ببقايا الأسوار القديمة والآثار التاريخية.
كما خضعت للاستعمار الإيطالي لعام واحد (1940) عندما احتلتها وحدة من قوات شرق إفريقيا الإيطالية التي كانت تسيطر على إريتريا، لكن سرعان ما عادت المدينة إلى سيطرة بريطانيا بعد انسحاب القوات الإيطالية تحت ضربات نظيرتها الإنجليزية.
القوات الإيطالية في مدينة كسلا السودانية 1940
وعقب استقلال السودان “1956”، ازدادت أهمية كسلا مرة أخرى ليس من الناحية العسكرية فحسب – حيث توجد فيها حامية عسكرية سودانية – بل من الناحية الاقتصادية والسياسية، فقد استقبلت المدينة في فترات متعددة موجات متعاقبة من اللاجئين الإريتريين والإثيوبيين بما فيهم قادة سياسيين.
وازدادت المدينة انتعاشًا بعد افتتاح الطريق القاري بين السودان وإريتريا عام 2011 ـ بتمويل قطري ـ وهو يصل بين مدينتي كسلا السودانية واللّفة الإريترية إذ أدى الطريق إلى زيادة حركة مرور البضائع والتبادل التجاري بين السودان ودولة إريتريا التي تعتمد بقدرٍ كبير على السلع والمواد الغذائية الواردة عبر الحدود من السودان سواء كان بالطرق الرسمية أم عن طريق التهريب الذي تنشط فيه شبكات عديدة رغم الجهود التي تبذلها السلطات السودانية في هذا الشأن.
وساهم في نموها ، ارتباطها بشبكة المدن الأخرى وبميناء بورتسودان عبر السكة الحديد والطريق البري كما ترتبط بمدينة تسني الإريترية بخط آخر للسكة الحديدية منذ عهد الاستعمار البريطاني، لكنه غير موجود حاليًا، وحل محله الطريق البري المشار إليه بالأعلى، وفي المدينة مطار إقليمي يربطها بالعاصمة الخرطوم وتستغرق الرحلة بين المدينتين بالطائرة نحو 40 دقيقة.
تذوَّق القهوة السودانية بطريقة أهل كسلا وأفضل تجربة لذلك هي تناولها بطقوسها على جبل توتيل
أشياء يجب القيام بها في كسلا
1- زيارة متنزه توتيل السياحي: يمثل متنزه توتيل السياحي القبلة الأولى للسياح حيث يوجد نبع توتيل الصافي وتزعم الأساطير القديمة أن من يشرب ماء هذا النبع حتمًا سيعود مرة ثانية، كما أشرنا من قبل، وتوجد بالمتنزه عدد من الكافيتيريات التراثية الرائعة التي تقدم المأكولات السودانية في قالبٍ بديع فضلًا عن وجود عدد من المحلات التي تبيع المنتجات المحلية كالفخار والفلكلور.
2- كورنيش نهر القاش: يقع كورنيش القاش على الضفة الشرقية للنهر الموسمي وجنوب كبري القاش ويمتد على نصف كيلومتر شمالًا كمرحلة أولى تعقبها مرحلة ثانية برصف الضفة الغربية وموازية للجانب الشرقي منه وتحفه السواقي من الاتجاهات كافة مما تضيف له رونقًا وجمالًا.
3- تذوَّق القهوة السودانية بطريقة أهل كسلا وأفضل تجربة لذلك هي تناولها بطقوسها على جبل توتيل أو في المقاهي الشعبية المنتشرة على طول الكورنيش وأحياء المدينة.
4- زيارة متنزه رويال لاند: يقع غرب هيئة إذاعة وتليفزيون كسلا وكان يعرف سابقًا بمتنزه الشرق العائلي، وهو يتوسط مطعم الضفاف السياحي وفندق رويال.
5- إذا كنت مهتمًا بالحياة البرية فإننا ننصح بزيارة حديقة الحيوانات التي تمتد على مساحة 8 كيلومترات مربعة وتضم أعدادًا مقدرة من الحيوانات ويرتادها السياح وطلاب المدارس بالمدينة حيث تعد كسلا من الولايات الغنية بالحيوانات البرية النادرة التي تشكل جانبًا مهمًا من سياحة السفاري.
6- لم لا تجرب الأكلات الشعبية وخاصة وجبة لحوم الضأن التي يطلق عليها محليًا اسم “السَّلات”؟ ففي منطقة شيبوب ريفي كسلا يمكنك اختيار قطع اللحم التي تريد لتشوى أمامك مباشرة على الحجارة الملساء وأنت جالس على المقاعد البلدية “الرواكيب” بعيدًا عن ضجيج المدينة وصخبها.
7- وفي وسط المدينة يقع متنزه التاكا على بعد 100 متر فقط من سوق المدينة الكبير في مساحة تبلغ 168 ألف متر مربع ويضم ملعبان للخماسيات وكافيتيريا وتلال خضراء وألعاب تناسب الأطفال والشباب.
8- نوصي زوار كسلا أيضًا بتخصيص وقت لمنتجع الرميلة الذي يقع جنوب خزان “خشم القربة” وهو عبارة عن غابة عائمة من أشجار السنط المتشابكة تمثل واجهة سياحية رائعة ومعلمًا بارزًا للسياح القادمين إلى كسلا.
9- إذا كنت مهتمًا بالتاريخ والآثار، فإننا ننصحك بزيارة ضريح ومرقد “الحسن أبوجلابية” في كسلا، الذي توفي هناك عام 1899 ومن المعروف أن شرق السودان مركز ثقل جماهيري لطائفة الختمية.
10- مشاهدة السواقي ومنطقة القنطرة: تمتد السواقي على ضفتي نهر القاش من الناحية الغربية وتنقسم إلى سواقي جنوبية وشمالية وفي الضفة الأخرى تسمى بالسواقي الشرقية وهي مصدر لإنتاج الفواكه والخضراوات بأنواعها مملوكة للأهالي، وتعد معلمًا سياحيًا بارزًا.. تتوسط السواقي الجنوبية منطقة القنطرة السياحية وهي عبارة عن قنطرة لتصريف المياه من نهر القاش في خور سوميت.
11- على مقربة من السواقي هناك حدائق المورينقا، وتقع بالضبط جنوب هيئة إذاعة ولاية كسلا وتحتوي علي كافتيريا حديثة وحديقة رائعة بها ألعاب أطفال وينبع مائي، تتميز حدائق المورينقا في كونها تتوسط السواقي الخضراء وقريبة من الطريق الرئيسي.
12- للمهتمين بزيارة المؤسسات التعليمية هناك جامعة كسلا وكلية الشرق الأهلية، تضم الأولى عددًا من الكليات العلمية مثل الطب والهندسة والحاسوب وغيرها، فيما تركز الثانية على تخصصات نظرية مثل الإدارة والاقتصاد.
ومن أجمل الأبيات التي قيلت تغزلًا في كسلا للشاعر السوداني توفيق صالح جبريل الذي قال:
نضّرَ الله وجهَ ذاكَ الساقي إنه بالرحيق حلّ وثاقي
فتراءى الجمال مزدوجَ الإشراق يصبو معدد الآفاق
وابنة القاش أن سرى الطيف وهنًا واعتلى هائمًا فكيفَ لَحاق
والمنى بين خصرها ويديها والسنا في ابتسامها البَّراق
كسلا أشرقتْ بها شمس وجدي فهي بالحق جنّة الإشراق
ونختم بأغنية “حبيت عشانك كسلا” الشهيرة التي صاغ كلماتها ابن كسلا الشاعر الكبير إسحاق الحنقي وتغنى بها ابن المدينة أيضًا الفنان التاج مكي.