مع هلال اليوم الأول من العام الثاني للأزمة الخليجية تتساقط أوراق التوت لتعري معها بعض الحقائق والمفاجآت التي تكشف النقاب عن حقيقة المؤامرة التي دبرت بليل لحصار قطر ومحاولة تركيعها سياسيًا عبر أدوات عدة، كان المستهدف فيها الشعب القطري حتى إن كانت الشعارات المرفوعة عكس ذلك.
ليلة القرصنة.. الحلقة الجديدة من برنامج (ما خفي أعظم) الذي بثته قناة الجزيرة الليلة قبل الماضية، فضحت طبيعة المخطط الإلكتروني الذي تعرضت له وكالة الأنباء القطرية “قنا” بهدف الإيقاع بالدولة القطرية، الذي كان وراءه أجهزة سيادية لدول بأكملها على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
الأدلة التي ساقتها الحلقة وفق شهود عيان ومقربين من دوائر صنع القرار هنا وهناك، ذهبت إلى أن المؤامرة لم تكون وليدة ليلة الـ24 من مايو/آيار قبل الماضي، وهي الليلة التي سُربت فيها بعض الأخبار المنسوبة لأمير قطر، وتعمدت عواصم الدول الـ4 بثها رغم تكذيب الدوحة لها، إذ إن المخطط بدأ قبل عام تقريبًا من هذا التاريخ، ليتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن ما حدث قد تم التخطيط له مسبقًا ومن ثم كانت كل التحركات الدبلوماسية اللاحقة لاحتواء الأزمة فقاعات هواء.
من هنا كانت البداية
كانت ليلة القرصنة يومًا طبيعيًا، فلم تكن هناك مستجدات أو أحداث تستدعي معها أن يصدر الأمير تصريحات تثير استفزاز الجيران والأشقاء، ومن ثم كان من المحال نشر الوكالة الرسمية أي أخبار بعد منتصف الليل، هكذا استرجع يوسف المالكي مدير وكالة الأنباء القطرية ذكريات ليلة القرصنة، لافتًا إلى أن الشيخ تميم لم يلق أي كلمة خلال حفل تخرج الضباط كما زعمت الأخبار الملفقة.
دقائق قليلة بعد نشر الأخبار التي تلقفتها وكالات أنباء الدول الخليجية والعربية بسرعة غير متوقعة، حتى انتقل فريق تحقيق من الأمن الإلكتروني لمقر الوكالة تمام الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الـ25 من مايو/آيار، وهنا كانت المفاجأة.. الفريق لم يستطع الدخول إلى أنظمة الوكالة حسبما كشف النقيب عثمان سالم الحمود مساعد رئيس مركز الأمن الإلكتروني بوزارة الداخلية القطرية، ما يشير إلى أنها حملة مدبرة، وبعد أسبوعين اتضحت الأمور كلية لفريق التحقيقات القطري.
#ما_خفي_أعظم في حلقته #ليلة_القرصنة استمر أشهرا من التحقيق والتحليل والمتابعة .. رغم حساسيته ودقته فقد نجح فريق البرنامج في تحقيق سبق صحفي .. شكرا لمن تابع وتفاعل شكرا لمن أشاد ومرحبا بمن انتقد والقادم إن شاء الله أعظم
— Tamer Almisshal | تامر المسحال (@TamerMisshal) June 3, 2018
تكشفت الأمور بعد ذلك مع الساعات الأولى للأزمة، وهو ما كشفه الدكتور أحمد المقرمد المدير التنفيذي لمعهد قطر لبحوث الحوسبة، الذي أشار إلى تحليل ما يقرب من 245 ألف تغريدة متعلقة بموضوع القرصنة، منها 125 ألف من اللجان الإلكترونية، تبين أن هناك أمر غير مفهوم وهو ما أثار الشك.
شركة وهمية من أذربيجان تواصلت أواخر عام 2016 مع 3 شركات تركية مختصة في كشف الثغرات الأمنية في المواقع الأمنية، وطلبت منها فحص 3 مواقع من ضمنها وكالة الأنباء القطرية
وأضاف أنه بعد تحليل الحسابات الجديدة التي شاركت في الحملة التي من الطبيعي أن تكون 50 حسابًا في اليوم، ولكن هناك أشياء مريبة حدثت ليلة القرصنة، وتوصل الفريق إلى إحصاء 180 حسابًا جديدًا يوم 3 من أبريل شارك في الحملة، ما يعكس أن هناك ترتيبًا للحملة منذ شهر أبريل، وليس ليلة الـ24 من مايو عقب بث الأخبار المنسوبة لأمير قطر.
مقدم البرنامج تامر المسحال لفت نظره خلال جمعه كل المعلومات المتعلقة بتحقيقه الاستقصائي أنه بالموازاة مع زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى العاصمة الرياض في 20 من مايو 2017، وبينما كان يستقبل أمير قطر وتجري الأمور ظاهرًا على ما يرام، كان يعد للهجوم على الدوحة بعلم بعض الحاضرين! وفي الفترة نفسها انتشرت وسوم معادية لدولة قطر، وبعد الاختراق تأكد أنها كانت جزءًا من الحملة على الدوحة.
مؤامرة إماراتية سعودية
كانت صحيفة “واشنطن بوست” قد نشرت تقريرًا قبل عدة أشهر ألمحت فيه إلى تورط الإمارات في عملية القرصنة، وهو ما أشارت إليه عضو فريق قسم التحقيقات بالصحيفة إلين ناكاشمبا خلال شهادتها بالتحقيق بقولها “معلومات استقيتها من مصادري بوكالة الاستخبارات الأمريكية أكدت لي أن مسؤولًا إماراتيًا عالي المستوى ناقش وخطط لنشر خبر كاذب في وكالة الأنباء القطرية”، مشيرة إلى أنه ليس واضحًا من نفذ الاختراق، ولكن من الواضح أن الإمارات وجهت وأدارت الحملة، وطبعًا لا دولة ستعترف بالذنب، وهذه من قواعد اللعبة.
ومن ناحية أخرى توصل إعداد الحلقة وفق معلومات حصلوا عليها من لندن إلى أن التحقيقات التي جرت هناك تؤكد أن الدولة التي نفذت الخلية منها عملية الاختراق ونشر الخبر المفبرك هي المملكة العربية السعودية، وكل فريق القرصنة كان يتواصل عبر شركات اتصالات سعودية.
المعلومات كشفت أن مقر فريق القرصنة كان في موقع وزارة سيادية في السعودية، وهذا يعكس الدور المزدوج بتولي الإمارات الحصول على الثغرة الأمنية وإدارة الحملة لاحقًا، بينما تولت الخلية السعودية من داخل مقر حكومي سيادي تنفيذ عملية الاختراق ونشر أخبار ملفقة.
وأنت تشاهد برنامج #ليلة_القرصنة ترى كمراقب قطر تقف على أرضية صلبة وهي تقدم الأدلة تلو الأدلة على اختراق وكالتها وفبركة تصريحات أميرها بينما من اخترق الوكالة وروج للتصريحات توارى عن الأنظار ولم يعد يجرؤ حتى على الزعم بصحتها
فعلوا فعلتهم ثم ولوا مدبرين— د. تاج السر عثمان (@tajalsserosman) June 3, 2018
تبادل أدوار بين أبو ظبي والرياض.. هذا ما خلص إليه التحقيق الاستقصائي، حيث كانت الشرارة الأولى لنشر الخبر من السعودية، بينما كان الترويج له إعلاميًا مسؤولية الجانب الإماراتي، إذ كان هناك موقعين أو شخصين يتصفحان الموقع 45 مرة خلال ربع ساعة في الإمارات العربية المتحدة، من الساعة الـ12 إلا الربع منتصف الليل، لاستكمال باقي إجراءات القرصنة، وأُدخل الخبر الساعة 12 و13 دقيقة، وكان الموقعان المتصفحان أول من حصل على الخبر بشكل مباشر بعد ربع ساعة من منتصف الليل، وفي حدود منتصف الليل و17 دقيقة كانت قناة العربية السعودية سباقة لنشر الخبر.
بالموازاة مع زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى العاصمة الرياض في 20 من مايو 2017، وبينما كان يستقبل أمير قطر وتجري الأمور ظاهرًا على ما يرام، كان يعد للهجوم على الدوحة
الضغوط المكثفة من المتابعين على الموقع خلال الـ15 دقيقة الأولى من نشر الخبر التي كانت مثار تساؤل الكثيرين حينها، تسببت في انهيار موقع وكالة الأنباء القطرية، غير أن القراصنة لم ينجحوا وقتها في مسح كل المعلومات المتعلقة ببيانات دخولهم ولا أماكنهم وهو ما سهل المهمة أمام أجهزة الأمن القطرية لكشف حقيقة المتآمرين، حسبما كشف النقيب عثمان سالم الحمود.
إعلاميون عدة بدول الحصار أقروا بعملية القرصنة بداية الأزمة، على رأسهم خالد بطرفي أكاديمي ومحلل سياسي سعودي الذي أكد أن وكالة الأنباء القطرية تعرضت لعملية قرصنة واختراق وكل المؤشرات تشير إلى إيران، فيما أشار الكاتب الصحفي أنور عشقي في تصريح لقناة العربية: “طالما قطر كذبت الخبر نعتبر الموضوع انتهى، والمتوقع طي الصفحة، ولا أتوقع ردود فعل أخرى”، غير أنه وبعد فترة من الأزمة تراجع بعض المسؤولين والمحللين بتلك الدول عن تصريحاتهم السابقة.
فضح هوية القراصنة
السؤال هنا: كيف تم كشف هوية القراصنة؟ بتاريخ 19 من أبريل تسلم فريق آخر من المشاركين في عملية القرصنة نقاط الثغرات وبدأ يعمل على تطوير القرصنة باستخدام برامج التخفي “VPN” لإخفاء هويته والبلد الذي يعمل منه، حسبما كشف مساعد رئيس مركز الأمن الالكتروني بوزارة الداخلية القطرية.
المساعد أوضح أن المخترقين ارتكبوا أخطاءً كانت مفيدة لتتبع خطاهم، مثل مشاركة عنوان الثغرة عبر برنامج سكايب، رغم استخدامهم برامج لإخفاء الهوية في دول لا تقوم بالتعاون الأمني في هذه البرامج، وهي دول تعقد أجهزة الأمن فيها الوصول إلى المخترقين، وتابع: “التحقيقات كشفت أن أحد المخترقين دخل إلى عنوان الثغرة دون تفعيل التخفي، ما ساعد على كشف عنوانه ومعلومات جهازه”.
إعداد البرنامج التقى مسؤولين بفريق التحقيقات التركي الذي يتولى التحقيق مع 5 قراصنة أتراك أعلن توقيفهم شهر أغسطس الماضي بتركيا بتهمة تورطهم في عملية قرصنة الوكالة القطرية، وتحفظت السلطات التركية عن نشر تفاصيل عنهم لحساسية القضية.
#عاجل
تحقيق #ما_خفي_أعظم : شركة وهمية في #أذربيجان تقف خلفها دولة #الإمارات طلبت من 3 شركات تركية إعلامها عن الثغرات التقنية الموجودة في #وكالة_الأنباء_القطرية من أجل إعداد خطة القرصنة#الوطن #الجزيرة #ليلة_القرصنة pic.twitter.com/s2QXFFccnz— جريدة الوطن (@al_watanQatar) June 3, 2018
المسحال وفي جولاته ما بين الدوحة وأنقرة ولندن توصل إلى أن شركة وهمية من أذربيجان تواصلت أواخر عام 2016 مع 3 شركات تركية مختصة في كشف الثغرات الأمنية في المواقع الأمنية، وطلبت منها فحص 3 مواقع من ضمنها وكالة الأنباء القطرية لكشف الثغرات الأمنية بها، بذريعة توفير حماية أمنية للموقع، ولاحقًا أثبتت التحقيقات التركية أن الشركة الوهمية تمتلكها الإمارات وأنهت وجودها بعد الحصول على الثغرات الأمنية.
الصحفية الأمريكية إلين ناكاشمبا: “معلومات استقيتها من مصادري بوكالة الاستخبارات الأمريكية أكدت لي أن مسؤولًا إماراتيًا عالي المستوى ناقش وخطط لنشر خبر كاذب في وكالة الأنباء القطرية”
التحقيق خلص إلى أن السيطرة المنظمة على الوكالة القطرية كانت نهاية أبريل، حيث تم الحصول على أكبر قدر من المعلومات عبر مراقبة عمل الموظفين وسلوكهم في سرية تامة، وبعد السيطرة على 5 حواسيب داخل الوكالة تمكن المخترقون من الاستيلاء على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي الذي مكّن القراصنة فيما بعد من الوصول إلى حسابها الرسمي ونشر شريط مفبرك يتبنى الخبر المزعوم.
القراصنة استخدموا رقمًا بريطانيًا للسيطرة على حسابات الوكالة، والملفت للنظر أن تفعيل هذا الرقم تم في اليوم ذاته الذي تمت فيه عملية القرصنة، ما ممكن القراصنة السعوديون من التحكم في موقع الوكالة وحساباتها، بانتظار إشارة الصفر لاستغلال أي حدث يشارك فيه أمير لبدء تنفيذ عملية القرصنة، وهو ما تم بالفعل خلال حضوره حفل تخريج دفعة جديدة من الضباط.
استعانت الإمارات والسعودية بشركات قرصنة أجنبية للتحكم في الوكالة القطرية
أمر دبر بليل
أدلة عدة ساقها التحقيق تكشف أن العملية لم تكن وليدة ليلة الـ24 من مايو/آيار 2017 كما يردد البعض، إذ تم التخطيط لها قبل عام تقريبًا من هذا التاريخ، عن طريق الاستعانة بالشركة الوهمية في أذربيجان، ما يسمح لهم بإحكام السيطرة عليها استعدادًا لإشارة الصفر.
سرعة تلقف الإعلام السعودي والإماراتي للتصريحات المفبركة المنسوبة لتميم وتجاهلها للنفي الرسمي القطري، والتعنت الواضح في التمسك بمطالب صيغت لتُرفض كونها تمس سيادة الوطن واستقلال قراره، يشير إلى أن الجريمة تمت مع سبق الإصرار وبشكل عمدي تآمري، وهو ما كشفته شهادات المسؤولين القطريين التي صبت جميعها في هذا الاتجاه.
المخترقون ارتكبوا أخطاءً كانت مفيدة لتتبع خطاهم، مثل مشاركة عنوان الثغرة عبر برنامج سكايب، رغم استخدامهم برامج لإخفاء الهوية في دول لا تقوم بالتعاون الأمني في هذه البرامج
يوسف المالكي مدير وكالة الأنباء القطرية قال إنه اتصل بالمسؤولين في وكالتي الأنباء السعودية والإماراتية لإبلاغهما عدم صحة الأخبار الملفقة، لكن دون جدوى، إذ لم يتم الرد على اتصالاته، معتبرًا أن عدم الرد كان مقصودًا، ويعكس أن هناك سيناريو معد لما حدث.
كذلك خالد المطوع مسؤول الشؤون الفنية بالوكالة أشار إلى أنه بعد انتشار الأخبار الملفقة في الوكالة حاول الفنيون إيقاف الموقع فورًا دون جدوى، لافتًا إلى أنه حاول الاتصال بزملائه في وكالات أنباء دول الحصار، قائلًا: “اعترف بعضهم أن موقع (قنا) تمت قرصنته فعليًا، ولما سألناهم لما تنشرون الخبر إن كنتم تعرفون ذلك انقطع الاتصال بهم”.
د. علي بن فطيس المري النائب العام : كل #دول_الحصار تعرف ان تحقيقاتنا صحيحة ،وأن جريمتهم كاملة الأركان وتدينهم#الوطن #الجزيرة #ليلة_القرصنة#ما_خفي_أعظم pic.twitter.com/iVVI0XEwvA
— جريدة الوطن (@al_watanQatar) June 3, 2018
لكن يبقى السؤال: لماذا لم تتواصل الدوحة مع كل من أبو ظبي والرياض لإبلاغهما بما توصلت إليه من حقائق بشأن قرصنة وكالتها الرسمية في محاولة لتبرئة ساحتها دون الانتظار عام كامل؟
علي بن فطيس المري النائب العام القطري فسر ذلك بأن كل من يعلم بقضية هذا الحصار الجائر يعلم بأنه لا يمكن التواصل مع هذه الدول حيث لا يوجد سفراء ولا اتصال ولا رد على الإطلاق، مؤكدًا أنه في البداية كانت كل الشكوك تحوم حول هذه الدول في عملية الاختراق، وبعد التحقيقات والتعاون مع الجهات الأجنبية ثبت باليقين إدانة دول الحصار وأنها جريمة مكتملة الأركان.
وتابع: “كل مجرم سيرتكب جريمة من الطبيعي أن يخرج ويعلن على الملأ بأنها لم يفعلها”، مشيرًا إلى أنه في النهاية اعترفت هذه الدول بجريمتها أو لم تعترف فإن ما لديه من أدلة يغنيه تمامًا عن اعترافاتهم.
وأضاف أن قرصنة “قنا” هي قرصنة دولة وليست جريمة هواة، خاصة بعد اللجوء إلى شركات أجنبية لتنفيذ هذا المخطط الذي بات من السهل كشفه بمجرد الوصول إلى هذه الشركات، لافتًا إلى أن هناك حصرًا تامًا بالخسائر التي تعرض لها القطريون جراء هذا الحصار التي تتجاوز المليارات، مشيرًا إلى أنه وبصفته رئيسًا للجنة المطالبة بالتعويضات التي شُكلت مؤخرًا، سيتخذ كل الطرق القانونية الممكنة مستعينًا بمكاتب قانونية عالمية ضد هذه الدول لاستعادة كل دولار تم خسارته بسبب هذه الأزمة، قائلا: “المنطق يقول إن من تسبب في الجريمة يجب أن يدفع التعويضات كاملة للمتضررين”.