تشابه الإنسان مع الحيوان في كثير من الأنظمة أشهرها الحكم النازي في عهد هتلر، فكما يكون الحيوان أداة للربح من خلال تزويجه بأجود الأصناف وأكثرها إنتاجًا ليخلق لنا نسلًا صحيًا قادرًا على مزيد من الإنتاج عالي الجودة، ولأن الإنسان لا ينتج الألبان ولا الجلود، قررت بعض الأنظمة تزويجه بأزواج قادرة على إنتاج جيل صحي حاد الذكاء كامل الجسم، جيل بعيد عن الصفات الوراثية السلبية مثل الأمراض الجينية وضعف قدرات الذكاء، في برنامج أُطلق عليه “تحسين النسل” وفي سياقات أخرى أُطلق عليه “جرائم تحسين النسل”.
بدأ الأمر كله مع تجارب العالم البريطاني فرانسيس غالتون في بداية القرن التاسع عشر، عُرف الأخير بتجاربه لدراسة ذكاء البشر، مُنح لقب “الفارس” عام 1909، وعُرف بإيمانه بنظرية التطور الخاصة بتشارلز داروين، على إثر ذلك ارتحل إلى العديد من البلاد لدراسة علم الوراثة وذكاء الإنسان، من بينها السودان وناميبيا في إفريقيا لدراسة خصائص السكان هناك، انتهت بتأسيسه لعلم جديد في علوم الإنسان أطلق عليه المصطلح الذي عُرف لأول مرة حينها بمصطلح “تحسين النسل”.
وصف غالتون علم تحسين النسل بعلم اختيار الوالدين المتفوقين، أو في سياق آخر التحسين المنظم للجنس البشري باختيار الأفراد أصحاب “المواصفات الكاملة” للحفاظ على الصفات الجيدة في النسل القادم منهما، من خلال دعم مفاهيم الانتقاء في الجنس البشري وتحسين الصفات الوراثية للإنسان.
العالم البريطاني فرانسيس غالتون مؤسس علم تحسين النسل
حظى علم “تحسين النسل” بشعبية في أوائل القرن العشرين، إلا أنه ارتبط ارتباطًا وثيقًا بجرائم ألمانيا النازية من خلال جرائم تصفية البشر والتجارب على البشر والتخلص من الفئات الاجتماعية “غير الكاملة” أو “غير المرغوب فيها”، وعلى الرغم من أن هذا علم ليس سيئًا بشكل كامل؛ إذ إن هدفه الوقاية من ولادة أجيال تحمل صفات وراثية سلبية مثل الأمراض الوراثية، فقد ارتبط بمنع الفئات المجتمعية “غير الكاملة” تلك من التكاثر، مثلما فعلت ألمانيا النازية مع ذوي الاحتياجات الخاصة أو الأعراق المختلفة غير العرق الآري صاحب الشعر الأشقر والعيون الملونة.
خصص غالتون جزءًا من وصيته لإنشاء أقسام لعلم تحسين النسل في الجامعات
حاول غالتون مؤسس علم تحسين النسل، تحديد معادلات رياضية عُرفت بعلم النفس التفاضلي، تحدد احتمالية ظهور الصفات “الكاملة” في الجنس البشري، بمقارنتها بصفات أخرى، فمثلًا حاول الربط بين بعض الصفات الجسدية كالطول مثلًا وصفات الذكاء أو الربط بين الحوادث الاقتصادية والصفات الوراثية، وعلى الرغم من بشاعة سمعة هذا العلم بعد ارتباطه بألمانيا النازية من خلال التجارب على البشر والتصفية العرقية للكثير منهم، إن كنت تظن أن تحسين النسل انتهى مع انتهاء ألمانيا النازية، فأنت مخطئ.
جرائم تحسين النسل مستمرة إلى اليوم
مبنى حمل لافتة “مبنى للتعقيم الجنسي” بكندا في السبعينيات
قننت كندا عمليات تحسين النسل التي استمرت بشكل قانوني تحت رقابة الدولة منذ عام 1928 حتى عام 1972، كما وافقت على تقنين عمليات تحسين النسل للجنس البشري كثير من الولايات الأمريكية في الأربعينيات من القرن الماضي في ولايات مثل كاليفورنيا و جورجيا وعشرات من الولايات الأمريكية الأخرى التي احتوت على مراكز تنفذ عمليات تحسين النسل أو عمليات التعقيم التي تمت على ضحايا من مستشفيات الأمراض العقلية بشكل قانوني.
سُلط الضوء على جرائم تحسين النسل في نهاية القرن العشرين في التسعينيات من القرن الماضي، بعدما رفع كثير من الناجين من عمليات تحسين النسل أو التعقيم دعاوى قضائية تقاضي الأطباء الذين عملوا في هذه المراكز وارتكبوا تلك الجرائم في حق ضحايا آخرين بعضهم لم يُدرك ارتكابها ضدهم، كانت إحدى تلك القضايا قضية الفتاة الكندية “ليليان موير” التي خرجت للنور في نهاية التسعينيات.
ألقت والدة ليليان طفلتها أمام مركز للأمراض العقلية لعدم رغبتها بها، وعلى الرغم من سلامة صحة الطفلة العقلية وخلوها من أي عجز أو مرض عقلي مع وجود الإثبات الطبي لذلك، تم ترشيحها من مركز “ألبيرتا” الكندي الخاص بعمليات التعقيم التي تهدف لإنهاء تكاثر البشر “غير الكاملين” لعدم إنتاج المزيد منهم، لتكون ليليان مرشحًا مناسبًا لهم، خاصة أن المشروع قد استهدف كل من لا حيلة له لمنع حدوث تلك العملية، وخاصة الأطفال، ليخضعوا لعمليات تحسين النسل من أجل منعهم من التكاثر.
قررت “ليليان” رفع دعوى قضائية بسبب ما حدث لها في التسعينيات تشابهت مع 800 قضية أخرى لضحايا آخرين لتمنع حدوث ذلك لأي طفل آخر
وُجدت حالات مشابهة لتلك الدعاوي القضائية في أستراليا لحالات خضعوا لعمليات التعقيم، عانت تلك الحالات من أمراض عقلية وقدرات ذكاء ضعيفة للغاية خاصة من الفتيات عام 2012، بالإضافة إلى وجود حالات مشابهة في الولايات المتحدة الأمريكية لعمليات تعقيم تمت على نساء من أمريكا اللاتينية أو من الأفارقة الأمريكان عام 2013.
عقمت الولايات المتحدة 60 ألف من مواطنيها
وثيقة أمريكية تحمل أمرًا بعملية تعقيم جنسي
منذ وقت ليس بطويل، عقمت الولايات المتحدة ما يقرب من 60 ألفًا من مواطنيها استنادًا إلى قوانين تحديد النسل على ضحايا وصفتهم المراكز الطبية بالـ”المرضى العقليين” أو “العاجزين عقليًا” في عمليات تمت في الستينيات من القرن الماضي واستمرت لبضعة سنوات بعد ذلك انضم إليها الكثير من الأطباء والمشرفين والمصلحين الاجتماعيين من جميع أنحاء الولايات المتحدة في محاولة ظن فيها الأطباء أنها ستمنع من توارث الصفات السلبية للأجيال القادمة، وهو ما سيحد بالتبعية من معدلات الجريمة والانحراف الجنسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد آمن كل المشاركين في تلك العمليات أنها بدافع حماية المجتمع الأمريكي من الجينات الضارة وتقليل التكاليف الاجتماعية والاقتصادية على فئات مجتمعية “لا تستحقها”
على الرغم من أن عمليات التعقيم تندرج الآن تحت بند الممارسات الطبية غير الأخلاقية، فإنها استمرت في تحقيق أعلى معدلاتها إلى السبعينيات من القرن الماضي، حينها بدأت تتدخل الهيئات التشريعية للحد من الممارسات غير الأخلاقية الطبية على البشر، وخصوصًا ذوي الاحتياجات الخاصة منهم.
تمت عمليات التعقيم على 60 ألف من المواطنين الأمريكيين من أعراق مختلفة خصوصًا الأعراق اللاتينية مثل المكسيكيين أو الأفارقة الأمريكان أو من لهم أصول يابانية أو الأطفال والنساء صغيرات العمر من المهاجرين، أو كل من خالف الأعراف الجنسية للمجتمع الأمريكي حينها مثل المتحولين جنسيًا من النساء والرجال.
قامت منظمة الصحة العقلية في الولايات المتحدة آنذاك بالإشراف الكامل والقانوني على عمليات التعقيم الجنسي، حيث وُجد موافقتها على أغلب العمليات التي وثقت في السجلات المكتوب عليها “مُرشح لعملية تعقيم جنسي” وجدت فيها الإحصاءات أن احتمالية ظهور كل من حمل اسمًا يدل على عرقية غير أمريكية وبالأخص اللاتينية، في سجلات “المرشحين لعمليات التعقيم” كانت ثلاثة أضعاف الأمريكيين.
تعتبر منظمات حقوق الإنسان عمليات التعقيم الجنسي انتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان، وعلى الرغم من ذلك فإن تعداد العمليات التي تحدث في العالم في السنوات القليلة الماضية يظهر ميلًا لحدوث تلك العمليات بشكل قسري على الفتيات والنساء في أغلب الدول النامية من خلال موافقة الحكومة أو المؤسسات الطبية التي تشرف على العملية، وهذا ما يُثبت أن انتهاء النازية في الأربعينيات من القرن الماضي لم يُنه عمليات التعقيم الجنسي وتحسين النسل الذي استمر لعقود طويلة بعد انتهاء النازية.