“قلقون بشأن مصداقية الحدث الإنساني بخصوص اليمن الذي تشارك السعودية، أحد أطراف الصراع، في استضافته”، جاء ذلك في رسالة بالغة الوضوح كتبتها 27 منظمة إغاثة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تُهدد فيها بمقاطعة مؤتمر بشأن الوضع الإنساني في اليمن، يُنتظر أن تستضيفه باريس في 27 من يونيو/حزيران الحاليّ.
أما مآخذ تلك المنظمات – ومنها أوكسفام وكريستيان إيد والمركز النرويجي للاجئين – التي قلَّما تجتمع على موقف موحد من قضية ما، مشاركة السعودية في رئاسة المؤتمر، وهي التي طالما حمَّلتها منظمات دولية النصيب الأكبر من مسؤولية مأساة، وُصفت – بحسب تلك المنظمات – بأنها “أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ”.
أهداف إنسانية أم سياسية؟
كيف لمن يعمل في مجال الإغاثة أن ينفر من فعالية تبحث وضع إنساني مُلِّح؟ تكمن الإجابة في السعودية أو بالأحرى مشاركتها في المؤتمر الإنساني، وهي أحد أطراف الحرب في اليمن، فتلك هي المشكلة لنحو 30 منظمة إغاثية مرموقة، أو بتعبير تلك المنظمات “انتقاص من مصداقية الحدث الإنساني بصيغته الحاليّة”.
وفي رسالتها إلى الرئيس الفرنسي، تطالب تلك المنظمات بضمان مشاركة جميع أطراف الصراع اليمني كافة، فلا جدوى في المشاركة طالما أن كل الأطراف غير ممثلين فيه رغم حضور السعودية، وقبل ذلك، ضمان أن تكون مشاركة السعودية في المؤتمر ذات أهداف إنسانية خالصة وليست سياسية، بالنظر إلى كونها من الأطراف المتحاربة.
ثمة إذًا قلق متزايد من التداعيات الإنسانية لذلك الهجوم إذا تم بقيادة السعودية التي تتقدم في نفس الوقت للمشاركة في مؤتمر إغاثي لبحث التداعيات الإنسانية لأزمة من صنيعتها
كما أكدت المنظمات الإغاثية ضرورة أن يكون تخفيف معاناة اليمنيين الهدف الوحيد الموجه للمؤتمر، مضيفة أن مؤتمرًا لا يضع شروطًا صارمة ونتائج واضحة لن يؤدي إلا إلى تقوية شوكة الأطراف المتحاربة في وقت تشتد فيه الحاجة لضبط النفس.
ويريد أصحاب الرسالة ألا يكون هناك هدف آخر موجه سوى تخفيف معاناة اليمنيين، أولئك الذين استنزفتهم الحرب التي دخل التحالف العربي بقيادة السعودية على خطها عام 2015، ومنذ ذلك الحين، قُتل ما يزيد على 10 آلاف شخص، وأُجبر 3 ملايين على الفرار، بينما يواجه أكثر من 8 ملايين ما تصفها الأمم المتحدة بـ”أكثر الأزمات الإنسانية سوءًا في العالم”.
تجمع ماكرون بابن سلمان ازدواجية في المعايير تجاه الأزمة في اليمن
وقد تزداد حدة الأزمة – كما يحذر كثيرون – إذ أُغلق ميناء الحديدة الإستراتيجي الذي تحتدم المعارك على أعتابه، فهذا الميناء الواقع بقبضة الحوثيين، يستقبل النصيب الأعظم من الواردات التجارية وإمدادات الإغاثة اليمينة.
ولم يتضح بعد كيف سيتوافق ذلك المؤتمر مع جهود المبعوث الدولي الجديد إلى اليمن الموجود في صنعاء مارتن غريفيث الذي يبدو أنه يجري مباحثات مع الحوثيين لتسليم ميناء الحديدة إلى الأمم المتحدة، لتجنب هجوم محتمل بدعم سعودي وإماراتي، وكان قد أعلن في أبريل/نيسان أنه يريد تقديم خطة للمفاوضات خلال شهرين بغية إنهاء الصراع، مؤكدًا أن أي هجوم عسكري جديد “سيزيل السلام من على الطاولة”.
ثمة إذًا قلق متزايد من التداعيات الإنسانية لذلك الهجوم إذا تم بقيادة السعودية التي تتقدم في نفس الوقت للمشاركة في مؤتمر إغاثي لبحث التداعيات الإنسانية لأزمة من صنيعتها، لكن الخارجية الفرنسية تبرر أن الاجتماع المرتقب سيبحث الصعوبات المتعلقة بإيصال المساعدات الإنسانية إلى اليمنيين بما في ذلك الوضع في الحديدة.
المستشار بالديوان الملكي عبد الله بن عبد العزيز الربيعة خلال مؤتمر “المانحين المخصص لتمويل الاستجابة الإنسانية لليمن لعام 2018”
البحث عن مصداقية الحدث الإنساني بين أقدام المملكة
تبدو المخاطرة في استضافة باريس لمؤتمر إنساني – تشارك في تنظيمه واحدة من أطراف النزاع على الأرض اليمينة – في التأثير على المصداقية، ففي حين تُظهر السعودية أنها تضخ مساعداتها لليميين، لا يبدو أن هناك تحركًا لتغيير الوضع على الأرض، حيث تزداد مساحة الأزمة الإنسانية في اليمن يومًا بعد يوم.
وفي كثير من الأوقات، تزيد المملكة من الأزمة الإنسانية بإغلاق معابر اليمن البحرية والبرية والجوية، لا سيما بعد إطلاق الحوثيين صواريخهم تجاهها، كما عقب استهداف مطار الملك خالد في الرياض بصاروخ بالستي، حيث اتخذت الرياض قرارًا بإغلاق المعابر بدعوى استخدام “الحوثيون للمنافذ المخصصة لأعمال الإغاثة في تهريب صواريخ إيرانية”.
وتعبر منظمة الأمم المتحدة كثيرًا عن قلقها من قرار السعودية إغلاق المعابر، الإجراء الذي من شأنه عرقلة وصول المساعدات للسكان اليمنيين، الأمر الذي يزيد معاناة اليمينيين المحاصرين، فبحسب المنظمة، يحتاج 75% من سكان اليمن، أي أكثر من 22 مليون شخص، إلى نوع من المساعدة الإنسانية والحماية، فيما يعاني 17.8 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي، ويصاب 3 ملايين بسوء التغذية الحاد من بينهم نحو مليوني طفل ممن قد يلقون حتفهم إذا لم تصلهم المساعدات الضرورية.
وغير ذلك، تشن مقاتلات التحالف العربي بقيادة السعودية في كثير من الحالات، غارات على ما تقول إنها مواقع للحوثيين، لكنها تحصد في طريقها أرواح المدنيين، فقد وثّقت هيومن رايتس ووتش عشرات الغارات الجوية – قد يرقى بعضها إلى جرائم حرب – تسببت بمقتل مئات المدنيين.
تبدو المملكة – بعد كل هذه الانتهاكات – في ثوب المنقذ، حيث تتصدر المشهد الإعلامي في دعم اليمن بالمساعدات التي تبدو في مكنونها أنها “سياسية”
في المقابل، تبدو المملكة – بعد كل هذه الانتهاكات – في ثوب المنقذ، حيث تتصدر المشهد الإعلامي في دعم اليمن بالمساعدات التي تبدو في مكنونها أنها “سياسية”، ففي مؤتمر المانحين لليمن، تعهدت السعودية بتقديم 150 مليون دولار من أجل تمويل العمليات الإنسانية في اليمن، وذكرت وكالة الأنباء السعودية، أن المساعدات التي تعهدت بها السعودية تأتي بالإضافة إلى 100 مليون دولار خصصتها الرياض لمركز الملك سلمان للأعمال الإنسانية منذ بداية العام الحاليّ، لدعم جهود الإغاثة في اليمن.
وخلال مؤتمر “المانحين المخصص لتمويل الاستجابة الإنسانية لليمن لعام 2018″، أعلن المستشار بالديوان الملكي المشرف العام على مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية الدكتور عبد الله بن عبد العزيز الربيعة، اليوم، تبرع المملكة العربية السعودية بمبلغ 500 مليون دولار، سُلّمت للأمم المتحدة؛ لتمويل خطة الاستجابة الإنسانية التي أعلنتها الأمم المتحدة لدعم اليمن لعام 2018.
وبعيدًا عن المشهد الإنساني الكارثي الذي تسببت فيه المملكة بحسب منظمات حقوقية، تردد وسائل الإعلام السعودية دعم الرياض لليمن بمساعدات بلغت قيمتها 10.96 مليار دولار أمريكي خلال السنوات الثلاثة الماضية، فيما ذكر الربيعة أن المساعدات التي قدمتها السعودية لليمن خلال عامين تزيد على 8 مليارات دولار.
لكن “صفقة المساعدات لا تعوض عن القتلى اليمنيين”، تقول ذلك إحدى افتتاحيات صحيفة الغارديان بعد إعلان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ختام زيارته لبريطانيا تخصيص 100 مليون دولار من المساعدات للدول الفقيرة، وتصف الصحيفة إعلان ولي العهد السعودي بأنه “عار”، قائلة إنه لا يغطي على دور السعودية القيادي في حرب اليمن.
ملصق إعلاني لحملة منظمة أكات الحقوقية الفرنسية ضد بيع باريس الأسلحة للرياض وأبو ظبي لقتل المدنيين باليمن
“براغماتية” ماكرون على أرض اليمن.. سياسة جديدة تثير الجدل خارج فرنسا
تبدو مبررات استضافة باريس للطرف الذي يتحمل مسؤولية تأزم الموقف الإنساني في اليمن، كوسيلة للضغط على السعودية للأخذ بالاعتبار الجانب الإنساني في معاركها المستمرة هناك، فعندما زار ولي العهد باريس، كان هناك طلب من منظمات غير حكومية كي تضغط فرنسا على السعودية للسماح بوصول المساعدات إلى ميناء الحديدة.
لكن الرئيس الفرنسي الذي يحاول اقتناص دور الوساطة في اليمن – كما يفعل في ليبيا – يواجه انتقادات في بلده وخارجه لصلاته الخاصة بتحالف الرياض وأبو ظبي وقيادته في اليمن، بينما يسعى في قرارة نفسه لملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة وغيرها من القوى الأوروبية الكبرى.
ومنذ اعتلائه عرش الإليزيه، سعى الرئيس الفرنسي الشاب إلى مد سياسته الخارجية لتتماس مع الملفات الشائكة في العالم بأثره، إلا أن تلك السياسة التي هي بحسب مراقبين سياسة “أيدي ناعمة بلا مخالب”، قد تميزت بـ”براغماتية” مفرطة ربما باعدت بين فرنسا ومبادئها التاريخية، فتستضيف بلاده مؤتمرًا لإغاثة اليمنيين، يقدم السلاح لأطراف معنية بالنزاع هناك.
في الوقت الذي يخرج فيه المسؤولون الفرنسيون لوسائل الإعلام لإعلان إدانتهم المطلقة للحرب في اليمن، تتفق الحكومة الفرنسية مع نظيرتها السعودية على صفقات أسلحة جديدة تستعمل في هذه الحرب
ولطالما طالبته منظمات غير حكومية بالتوقف عن بيع أسلحة فرنسية للسعودية قد تستخدمها ضد المدنيين في اليمن، ففي وقت سابق، حذرت منظمات حقوقية فرنسا من المتابعة القضائية بعد صدور تقرير يشير إلى احتمال تواطؤها في ارتكاب جرائم حرب، وذلك بسبب بيعها أسلحة للسعودية والإمارات العربية المتحدة تستخدمها في حرب اليمن، كما طالب البرلمان الفرنسي بالقيام بدور المراقب كما هو الحال فيالنرويج وألمانيا اللتين علقتا بيع الأسلحة للسعودية والإمارات ما دامت الحرب لم تضع أوزارها في اليمن.
لكن تلك الانتقادات الواسعة لم تمنع من حصول دول التحالف على أسلحة بكميات كبيرة من فرنسا التي بقيت بمنأى عن الإدانة، وهنا بدت الممارسات الفرنسية تجاه دول التحالف العربي تتسم بالازدواجية، خاصة أن لوبي الأسلحة لديه نفوذ كبير في هذه الدول التي تعتمد بشكل كبير على بيع الأسلحة للأطراف المتنازعة في العالم.
وفي الوقت الذي يخرج فيه المسؤولون الفرنسيون لوسائل الإعلام لإعلان إدانتهم المطلقة للحرب في اليمن ودعوتهم جميع الأطراف لاحترام القانون الدولي الإنساني ووقف الهجمات التي تستهدف المدنيين، تتفق الحكومة الفرنسية مع نظيرتها السعودية على صفقات أسلحة جديدة تستعمل في هذه الحرب.
وحسب آخر تقرير لوزارة الدفاع، فإن الحكومة الفرنسية منحت 216 ترخيصًا للشركات الفرنسية لبيع الأسلحة للسعودية، وقدرت قيمة العقود بنحو 24 مليار دولار، كما وافقت على منح 189 ترخيصًا لبيع الأسلحة للإمارات العربية المتحدة بقيمة 29 مليار دولار.